((يَرحَلُ العِراقيُّ))
***************
يرحلُ العراقيُّ ...
صامتاً كرشفةٍ أخيرةٍ من شاي الظَّهيرة
تُشيّعهُ الشوارعُ
والأشعار....
ومعهما ما تبقى من أصدقاء
لم تقشطهم - من خارطةِ الوطن- الشَّظايا
أو الكوليرا
وتنسحب
خلسةً
من الموكب.. الشِّعارات
ونشراتُ الأخبار!
**
يرحلُ العراقيُّ ...
أمامَ القنواتِ الفضائيةِ .. أنيقاً
كورقةِ الخريف
حراً –لأول مرة –
من دون المستمسكاتِ المطلوبة ..
أو صورتين
ترافقهُ أجراسُ المدارس
وجداولُ الحساب وأسرابُ الحمام ..
يتبعهُ النَّمل والدُّخان
والفراشاتُ والشهواتُ المعطلةُ عن الأمل..
تبكي خلفهُ (دشداشةُ) العيد
ونوافذُ منزلهِ العتيق
وقططُ الزّقاق..
وتنزوي
صمتاً
في وكرها
عيونُ
البنادق!
**
يغيبُ العراقيُّ ..
متواضعاً كشمعةِ الغروب
تودِّعه أرصفةٌ عَلَكَتْ نصفَ خطواتِ عُمرهِ
الذي سالَ عليها
هرولةً
من كلِّ بيتٍ وحارةٍ وشارعٍ
مرةً خلفَ العريفِ.. ومرةً خلفَ النَّدم
**
يرحلُ العراقيُّ ..
تلوِّح له من بعيدٍ ..بالمناديل
أفرانُ الخوفِ الأسمرِ وأحلامُ الطَّباشير..
والشناشيلُ والمواويلُ والنخيلُ
وحبالُ الغسيلِ
التي رَفرفَ عليها قميصُ نقائهِ
الذي قُدَّ من اليسار ..
ومن اليمين ..
وتتدحرجُ بعيداً عن نعشهِ ..
وقريباً من ورثتهِ
أقراصُ الباراسيتول
ولحيةُ ديونهِ الطويلة
**
يرحلُ العراقيُّ ..
عارياً إلا من الخيوطِ
التي رَتقَتْ بها أمُّهُ سِراً
شهوةَ طفولتهِ الأولى
للقاءِ الأبِ الذي قضمهُ مِقصُّ الحروب
**
العراقيُّ
لايكلِّفُ رحيلُه سوى لافتتين
الأولى سوداء
قربَ إشاراتِ المرور
والثانية
بيضاء
يلتفُّ بها خجلاً
حين تزرعُ أمُّهُ قُبلتَها الأخيرة
في طينِ جبهتهِ
**
ولأنَّهُ في الأصلِ حمامةٌ
يرحلُ العراقيُّ
نحو السَّماء
مفتوحَ العينين والقلبِ والذراعينِ
فحصّتهُ
من الطائراتِ الورقيةِ
والقهوةِ والهيلِ وقطارِ الليلِ
لم يشاهدها حتى الآن ...
وماكان مخصصاً له من زقزقةِ الغيم
والنواعيرِ والغرامِ
لم يلامسه حتى لحظة الاحتضار
أما الدَّعواتُ
التي لصقتها له أمُّهُ في تنّور السَّماء
فلم تزلْ ساخنةً
بإمكانهِ أنْ يلمسها بأجنحتهِ الآن
ويطيرُ..بها
يطيرُ ...
يطيرُ......
من دون أن يتساقطَ من فمهِ السِّمْسِم
**
يرحلُ العراقيُّ ...
معطراً
برفقةِ الغيم
ندياً
كوردةِ في ثوبِ زفاف
ويبقى
قاتلُهُ
وحيداً
وحيداً
وحيداً
حتى يتكـــسَّر ...
من شدَّةِ الجَّفاف !
احمد جارالله ياسين