قد يكون التعارف الأول بين الإنسان والملح تمّ منذ آلاف السنين، بعد استقراره وعمله بالزراعة، إما بملاحظة بللورات بيضاء اللون بعد تبخير ماء البحر مثلاً، أو العثور على صخور غنية بمعدن كلوريد الصوديوم خلال عمليات التنقيب عن المعادن، أو الحاجة للطَعم المالح.
لا أحد يعلم بالتحديد كيف كانت الطريقة، لكن ما لا يمكن إغفاله هو مكانة تلك المادة الغذائية، والمتوفرة باستمرار في مطبخك، عند شعوب وحضارات العالم على مر التاريخ.
الملح والحضارات القديمة
استخدم الفراعنة الملح منذ قديم الزمن في صناعة السمك المملح، إحدى أشهر الصناعات في مصر القديمة، وقايضوه بخشب الأرز خلال عملية التبادل التجاري مع فينيقيا.
وفي الصين، عُثر على حفريات تعود إلى 6 آلاف عام، تشير إلى إنتاج واستهلاك الملح على نطاق واسع في مختلف مناحي الحياة.
وفي العصر الروماني، كان اختيار مواقع إقامة المدن يعتمد على مدى قربها من مناجم الملح، وأميركا وأفريقيا وأميركا اللاتينية من أشهر البلدان الواقعة على البحيرات الخاصة به. وفي العام الألف قبل الميلاد، اشتهرت أيضاً كل من النمسا وألمانيا بإنتاجه.
تتعدد استخدامات الإنسان للملح على مر العصور، وبجانب كونه مادة أساسية في عمليات صناعة وحفظ الطعام، كان له دور بارز فى تاريخ المعاملات الاقتصادية، ويُقال إن الجيش الروماني كان يدفع معاشات جنوده ملحاً لا نقوداً.
وفي اللغة، يعود أصل كلمة “ساليري” الإنكليزية، التي تعني معاشاً، إلى كلمة “سالاريوم”، وتشير في اللاتينية إلى الأموال التي تُعطى للجنود من أجل شراء الملح. أيضاً اشتُقت السلاطة، “salad” بالإنكليزية، من كلمة ملح”salt”.
صاغ الملح كونه صناعة وتجارة تاريخ الحضارات البشرية الكبرى، وقد استُخدم أيضاً سلاحاً ووسيلة ضغط حربية. كذلك أشعلت ضريبة الملح، التي فرضتها عديد من الدول على مر التاريخ، فتيل أشهر الثورات، وأسهمت في ظهور عديد من المدن.
وفيما يلي أشهر الحروب والثورات التي نشبت بسبب هذه المادة.
خطة الآشوريين والحيثيين لتبوير أراضي أعدائهم
اشتهرت الإمبراطورية الآشورية والحيثية بالقوة والبأس، ومن أشهر إبداعاتهم، تطوير وسائل الدفاع والحصار وأدوات القتال، فكان الملح إحدى تلك الوسائل؛ فهم أول من استخدموه سلاحاً في تاريخ البشرية.
فعند غزو المدن، وخلال توسع إمبراطوريتهم إلى ما وراء الفرات، كان الآشوريون ينثرون الملح على أراضي تلك المدن؛ كلعنة على السكان المحليين، أو كتكتيك في الحروب لجعل أراضي أعدائهم غير صالحة للزراعة.
مسيرة الملح بقيادة غاندي
في الهند أم العجائب، يُعامل ملح الطعام معاملة خاصة، لا يحظى بها غيره من المواد الغذائية، فلا يقتصر دوره على حفظ السمك، وأمور الطبخ وصناعة الدواء فقط، بل يحظى بمكانة مقدسة؛ يستخدم الهنود ملح الطعام في طقوس المباركة وإبطال السحر، ويُعد الإفطار على الملح في شهر رمضان من أبرز الطقوس الدينية لمسلمي الهند.
استمد الملح مكانته الكبرى من كونه جزءاً من تاريخ النضال الوطني لجلاء الاستعمار البريطاني عن الهند، فلقد استغلت بريطانيا الهند تجارياً خلال فترة الاستعمار، ومنعت صناعة الملح المحلي الرخيص في قرية داندي الهندية على الساحل الغربي، واحتكرت تجارته.
ولم تكتفِ بذلك، بل كانت تفرض الضرائب على الملح كلما تعرضت بريطانيا لأزمات مالية. وخلال فترات الحروب، ولفرض سيطرتها على تجارته، ومنع تهريبه، أقامت بريطانيا جداراً يصل طوله إلى 2300 ميل، بين مدراس إلى الاينداس.
مسيرة الملح بقيادة الزعيم غاندي
وفي عام 1930، تحركت مسيرة بقيادة الزعيم المهاتما غاندي، وانضم إليها جميع طوائف الشعب، من أحمد آباد إلى داندي على الساحل الغربي، عُرفت بـ”مسيرة الملح”؛ للمطالبة بجلاء القوات البريطانية، وعند وصوله إلى الساحل الغربي، حمل حفنة من الملح إشارة إلى خرق القانون الذي فرضه الاستعمار البريطاني على البلاد، واعتُقل غاندي، وخلال سجنه، توالت الاحتجاجات التي انتهت بجلاء الاستعمار البريطاني، فكان ذلك بمثابة نقطة التحول في تاريخ الهند.
غاندي يهم بحمل حفنة من الملح كإشارة على خرق قانونه
خلال الاحتلال الأوروبي للأراضي الأميركية، سيطرت بريطانيا العظمى على جزء كبير من المراكز المنتجة للملح، فكانت ترسل إنتاجها منه إلى أوروبا، بدلاً من المستعمرات الأميركية.
خلال الحرب الأهلية الأميركية 1861، عندما قررت الولايات الجنوبية الانسحاب من الاتحاد بسبب قضية العبودية؛ قرر جيش الاتحاد ضرب مناجم الملح في الجنوب ومنع وصوله إلى قوات الكونفدرالية الأميركية، فكان يُستخدم في حفظ طعام الأحصنة والجنود، قبل التبريد، فلا يمكن إدارة الحرب والمجتمع المدني بدونه.
لقد كانت حرب الملح جزءاً من استراتيجية الحرب الاقتصادية ضد الجنوب، ويُقال إنها أحد أسباب انتصار الولايات الاتحادية في الحرب.
غلي مياه البحر للحصول على الملح أثناء الحرب الأهلية الأميركية
ضريبة غابيلي
في القرن الثالث عشر الميلادي وخلال فترة الحكم الملكي لفرنسا، فرض البلاط الملكي ضريبة فرنسية على الملح، عُرفت باسم ضريبة “غابيلي”، وكانت الحجة وراء ذلك أنها ضريبة متساوية تُفرض على الأغنياء والفقراء على حد سواء.
في الواقع لم تكن الضريبة عادلة، فكيف يتساوى الغني والفقير في دفع الضريبة!، بل وصدر إعفاء يشمل المؤسسات الدينية، وعدد من الموظفين والقضاة والشخصيات البارزة، فلجأ من لا يملك ثمنه إلى الحصول عليه بطرق غير قانونية، ففرضت الدولة عقوبة السجن المؤبد لتهمة تهريب الملح.
ازداد الأمر سوءاً عندما ارتفع سعر الخبز كنتيجة مترتبة على ارتفاع سعر الملح، فكان القشة التي قصمت ظهر البعير، وأحد أسباب اشتعال فتيل الثورة الفرنسية نهاية القرن الثامن عشر.
انبعاث مدن جديدة
ساهم الاتجار بالملح في ظهور وتشكيل العديد من المدن أيضاً، فعندما بدأت عملية استيطان منطقة أرخبيل البندقية، كان الملح والرمل هما مصدر الدخل الوحيد للسكان المحليين، فلقد كان هناك عدة أحواض لإنتاج الملح في المدينة، ولم يكن أمامهم سوى استغلال الموارد المتاحة، وفرضت على السفن القادمة جلب الملح كرسم مرور بموانئها، حتى تمكنت من جمع كميات هائلة منه.
كذلك استوحى التصميم العمراني للبندقية من ناحية الأبنية والأقنية الكبيرة من تصاميم أماكن صناعة وحفظ الملح.
أيضاً ظهور مدينة ميونخ وغيرها من المدن؛ يرجع إلى فرض الدول الأوروبية الضرائب على مرور الملح بأراضيها والبحث عن طرق جديدة لتسهيل عملية تجارته.
أخيراً، لا تستهن بالملح أبداً، فمن خلال حبة واحدة تستطيع رؤية العالم والارتحال عبر التاريخ والثقافات المختلفة.