ما إن نشرت المقالة حول أكلات الفقراء حتى استشعرت بنفوس الكثيرين وهي تطرب قائلة لنفسها ـ فليقرأ أبناؤنا المترفون كيف عشنا. أي والله، انتعش القرّاء من أبناء جيلي وهم يتذكرون (المحروك اصبعه) و(التمر بدهن) و(مركة الهوا). انتعشوا ثم حرضوني أن أكمل السياحة، مشيرين إلى ظواهر بعينها وطالبين مني الحديث عنها. من ذلك مثلا تقتير أمهاتنا وتفعيل خيالهنّ الجامح كي يعبرن بنا صراط الجوع وصولا إلى جنة المأوى، تلك الجنة التي يعرفها الفقراء كما يعرفون أسماءهم والتي قد تكون مجرد حلمٍ بالشبع لا أكثر. إليكم حكاية تدمي القلب رواها لي صديق؛ لقد عرف في طفولته أمّا عجيبة كان لا يتوفر لديها في كثير من الأحيان ما تسدّ به رمق أطفالها. يقولون لها مساءً ـ جوعانين يمه ، فتردّ ـ هسه أسوّي عشه. ثم تضع قدرا مليئا بالماء فوق النار وتغلقه وتدعه يفور وكلما سألوها ـ شوكت نتعشه؟ تشير إلى الحلم الذي في القدر وتقول ـ هسه يستوي. ثم ينعس الأولاد فتفرش لهم قائلة ـ هسه يستوي عشاكم. يرقد الأطفال المتضورون من الجوع ويتدثّرون وعيونهم ترنو إلى القدر، ثم ما هي إلا بعض سويعة حتى ينامون وهم ربما يحلمون بأكلة تخيّلوها تنضج هناك.
هذه الحكاية قد تكون الأكثر غرابة لكنها ممكنة مع أمهات ذوات خيال جامح كأمهاتنا؛ ذات مرة، صنعت أمي كبابا منزليا (عروك) وقدّمته لنا في العشاء. وإذ تذوّقناه اكتشفنا انّ مكوناته غريبة فامتنعنا عن أكله. أخذت الأم كبابها وذهبت به ثم أعدت لنا شيئا آخر. ثم تمضي الأيام وتأتي لنا الوالدة ذات مساء بوجبة أخرى مكونّة من كبّة. توضع الوليمة أمامنا فنلاحظ ان طعمها غريب أيضا.
وفي لحظة مباغتة حاولت اكتشاف الأمر فعمدت إلى فتح (كبّاية) لأرى مكوناتها. وكانت المفاجأة انني رأيت الكباب الذي سبق أن رفضناه يقبع في باطن الأكلة الجديدة. لقد تحول لحشوّة مغيّبة لا يعلم بها سوى الله وأمي. قلت وأنا أنظر في عينيها ـ هاذ نفس الكباب مال ذيج المرة؟ فطأطأت وقالت بحزن ـ يمه أكلوه، حرامات أذبّه.
متى اصطنعت هذه الجريمة؟ كيف لم يركِ أحد؟ أيّ عقلية تملكين يا أمّ المصائب؟ ولماذا كنت تخادعيننا حين تخبئين لحم (الروست) أسفل المجمدة، تحت أكياس وأكياس، ثم تطبخينه لنا وتقولين إنّه لحم غنم؟
أسئلة تتخطر في ذهني الآن يزاحمها صدى الـ(حرامات) التي تتكرر دائما مختصرة منطق الندرة السائد عند الفقراء، إذ لا شيء يرمى من موائدهم، بل لا شيء يزيد عنها إلّا ما ندر. وإذا ما فَضُلَ أيّ شيء سارعت أمّهات تلك الأيام إلى إعادة إنتاجِه بمهارة لدرجة أن حتى حبوب الرقي لم تسلم من تدبيرهن فكن يجمعنه ويجففنه فوق سطح الدار ثم يقلينه مساءً لنتسلّى به على أساس انّه كرزات.
تلك أمهات أسطوريات يصدق عليهن المثلٌ؛ يسون للفارة اذان. تراهن يجدن الخياطة كإجادتهن الطبخ وشي الخبز. مع المخبازة وثوب العمل المحرّق الذي يلبسنه وهن متجهات إلى التنّور، لا يخلو درجهن السري من الابرة والخيط، فبين يوم وآخر تحنّب الوالدة لترقّع بجامتك المسرودة قائلة بتوسّل
ـ بعد أمك.. ما تلضملي هذا الخيط.. ما أشوف الزرف!
فتتذمر رغم انّها تريد إصلاح بجامتك لا بجامتها.
تلك هنّ أمهاتنا، النسوة اللواتي إذا كَبُرَ لهنّ طفلٌ ورث الأصغر بنطاله وبيجامته وحذاءه. وإذا شُقّ ثوب البنت من صفحة رُقِّع بقصاصاتٍ من ثياب قديمة قد تعود للأم نفسها، هذه العجيبة التي يتداول أبناؤها الكاروك نفسه واحدا بعد واحد، فإذا كسر وانتهى أمره استعارت كاروكا من إحدى المسعدات لفترة مؤقتة ولسان حالها يقول ـ حرامات اشتري واحد، ما تسوه.
نعم، حرامات أيتها الأمّ أن تشتري كاروكا يمكن بثمنه شراء وجبة ملابس لوليدك الجديد، هذا الذي سيحلم يوما بما في قدر العجائب قبل أن ينام على ترنيمتك الساحرة.