امانة بغداد في العشرينيـات
بعد تأسيس أمانة العاصمة، كانت مهمتها الأساسية تقديم الخدمات للمواطنين الساكنين في العاصمة بصورة مرضية، خاصة الاعتناء بالنظافة مثل رفع النفايات والتخلص من المخلفات لمنع حدوث اضرار صحية، وكذلك تنظيم الشوارع والأزقة بشكل منسق يعطي صورة جميلة للعاصمة. والأمانة مسؤولة عن توفير سبل الراحة للمواطنين بتحسين ضخ المياه الصحية للمناطق السكنية، وتحسين إنارة الشوارع العامة والميادين، وإيصال جزء من الكهرباء إلى المنازل بأسعار مناسبة.
وأصبحت الأمانة ذات أهمية لكونها تتصف بالديمومة والشمولية بقيامها بالمسؤوليات التي أنيطت بها لتحسين وضعية العاصمة وأولى الخدمات التي اهتمت بإنجازها للمواطنين هي تنظيف العاصمة باستخدام أحدث الوسائل، فكانت الأمانة تحاول بشكل مستمر كسب ثقة المواطنين من خلال أدائها للواجبات المكلفة بها، بالإضافة إلى تعاونها مع مؤسسات أخرى في تقديم أفضل الخدمات، خاصة دائرة صحة العاصمة، فإن متابعة الأوضاع الصحية في العاصمة في وقت مناسب يساعد الأمانة في تفادي الكثير من الأضرار التي تؤثر في عملها، وتقسم الخدمات على:-
التنظيفات
إن مهمة تنظيف العاصمة كانت تتم بإشراف دائرة التنظيفات التي أسست في نيسان 1918 داخل بلدية بغداد تحت إشراف آرثر بونهام A.Bonham. ومن ثم أنيطت أعمال هذه الدائرة إلى المستر و.ب. نيل حتى عام 1923.وبعد تشكيل الأمانة تسلم إدارتها المستر س. بروكنك C.Baroknk وأصبح ناظر التنظيفات في العاصمة، وفي هذه الفترة زاد عدد المناطق المشمولة بالتنظيفات في العاصمة حيث أصبحت ستة أقسام، أربعة في الرصافة،
وفي كل منطقة مفتش واحد، و5 عرفاء و18 كناساً للطرق و14 زبالاً مع كل منهم حماران، ويوجد أيضاً 19 عربة لنقل القاذورات في المدينة مع سائقيها وجامعي الأقذار. أما الكرخ فإنها مقسمة على منطقتين، مفتش واحد وثلاثة عرفاء و15 كناس للطرق و8 زبالين لكل واحد منهم حماران و3 عربات للأزبال مع السائقين والجامعين، وخصص للسواحل عريفاً مع أربعة كناسين.
وإن دائرة التنظيفات ترفع شهرياً تقارير إلى مديرية صحة العاصمة عن الأعمال التي تنجزها وما تحتاجه من اللوازم وبعدها تقوم مديرية الصحة برفع هذه التقارير إلى الأمانة لتوفير ما تحتاجه عملية التنظيف. وقد أوضحت في تقرير رفعته سنة 1925 إنجازاتها في تنظيف الطرق، فذكرت أنها حملت 3265 من أحمال العربات و20825 من أحمال الحمير من الزبل في البيوت والطرق ونقل القاذورات من الشارع بحدود 156 حمل من العربات من المياه القذرة وتنظيف المجازر بقدر 375 حمل من أحمال العربات وأتلفت الخضار غير الصالحة للإستهلاك بحدود 4 كيلو غرامات من الفواكه والخضار و291 كيلو غراماً من اللحم، ودفن 350 جثة من حيوانات الخيل، والبغال، والحمير، والكلاب، والجاموس، والغنم.
وكانت الأمانة تهتم في موسم الشتاء برفع الأوحال عند هطول الأمطار وذلك بفتح عشرات البالوعات في الأماكن التي تتجمع فيها المياه وبالتعاون بين مديرية الصحة والدائرة الهندسية بتوفير عدد كبير من العمال والعربات لرفع الأزبال.
وفي عام 1926 أكد المستر بروكنك ان الاهتمام بنقل وتصريف الأزبال من الدور مهم جداً وخاصة في موسم الصيف، حيث يرفع الزبل من الدور مرتين في اليوم ولهذا الغرض تستعمل البغال في الطرق الرئيسية والحمير في الطرق والشوارع الضيقة التي لا يمكن مرور العربات فيها، وقد وفرت دائرة التنظيفات 142 صندوقاً من الحديد لرمي القاذورات منتشرة في أماكن مناسبة يسع الواحد منها 10 أقدام مكعبة لكنها لم تف بالغرض، لأن أغلب المواطنين لا يستعملونها.
واهتمت الأمانة بشراء مكانس ميكانيكية لكنس الشارع العام، حيث يكنس الشارع مرتين في اليوم لكثرة النقليات، لكن الأمانة استغنت عن هذه المكائن لأنها مكلفة.
أما وظيفة تنظيف المراحيض ونقل المياه التي تتراكم في المزابل وطمر تلك المواقع فكانت تحتاج عدد كبير من العمال، لذلك شغل بروكنك جميع الموظفين في هذه العملية واستعان بالسجناء وشغلهم لمدة سبعة أيام، واستخدم في أحد الأشهر 90 سجيناً للعمل في تنظيف وطمر المزابل.
ومن واجبات دائرة التنظيفات تجهيز دور موظفي الحكومة العراقية من البريطانيين في المدينة وقرية العلوية بعدد مناسب من الكناسين وتدفع لهم أجور على ذلك. وقدر عددهم 45 كناساً من ضمنهم كناسون مجهزون لديوان المندوب السامي والمجلس النيابي والنادي البريطاني وشركة السباق ودوائر الحكومة في السراي والمحاكم. والكناس الواحد يعمل في ثلاثة دور، وإن أجور هؤلاء الكناسين تساهم في تسديد مصاريف الأمانة التي تنفقها في هذا المجال.
أما عملية تنظيف المجاري وتصريف المياه، فلم تعرف المدينة مشروعاً للمجاري الحديثة، فقد أدخل نظام التصريف المكشوف الذي ساعد على تحسين الوضع بعض الشيء برغم بدائيته. وفي عام 1925 أقترح مشروع المجارير لسحب جميع الأقذار والأوساخ وتنقل إلى خارج المدينة ويستفاد من فضلاتها المسحوبة بجعلها سماداً للمزروعات.
ومع هذا استمرت الأمانة باتباع الطريقة البدائية في تصريف المياه القذرة فتجري بواسطة البالوعات والمراحيض التي تبنى بالطابوق بدون ملاط (الاسمنت) لكي تترشح المواد المائية، وأنها مدورة وبأحجام مختلفة وتنظف بالأيدي من قبل عمال مجازين وتنقل هذه المواد على ظهور الحمير إلى بقعة معدة لذلك خارج المدينة. وكانت الأمانة تهتم بشراء البغال لهذا الغرض لتستعملها في سحب العربات التي تحمل القاذورات وتكلفها مبالغ باهظة تقدر بخمسين روبية للواحد في اليوم.
وقد اتخذ مجلس الأمانة قراراً بتطبيق نظام تصريف المياه القذرة رقم 29 لعام 1934، وحدد شروط فتح الكازينوهات ومساحات المقاهي والمطاعم والشروط الصحية في دور السينما والملاهي وتبليط الأرصفة بالكاشي، كما قرر تنظيف البالوعات والطرق العامة.
أما خدمات دفن الموتى، فكانت تقوم بها شعبة متخصصة أضيفت إلى شعب البلدية عند دخول البريطانيين إلى بغداد، وعرفت باسم (شعبة دفن الموتى) وكانت تتولى الدفن في مقبرة الغزالي في الجانب الشرقي من بغداد، وإنها تلبي طلبات ذوي الموتى ووصاياهم وتتقاضى أجوراً زهيدة عن النقل.
إن انتشار المقابر في بغداد يعد الوجه الآخر للحياة المدنية في بغداد، إذ ساعد الاهتمام بالمقابر على تفادي الأضرار البيئية والصحية، وتميزت بغداد بكثرة مقابرها وذلك لطول الحقبة الزمنية للمدينة من جهة، وسعتها وكثرة عدد سكانها، وتنوع طوائفها وأديانها ومذاهبها. ومن جهة أخرى، فإن هذه المقابر في جانب بغداد الكرخ هي: (مقبرة الشيخ معروف الكرخي، مقبرة السيدة زمردة خاتون، والمتداول بين الناس الست زبيدة، مقبرة الشيخ جنيد البغدادي، مقبرة منصور الحلاج، مقبرة النبي يوشع، مقبرة براثا خلف جامع براثا، مقابر قريش في الكاظمية).
أما جانب الرصافة فكانت فيه (مقبرة الشيخ عمر السهروردي، مقبرة الشيخ عبد القادر الكيلاني، مقبرة الإمام أبي حنيفة، مقبرة الإمام الغزالي، مقبرة شهداء الدولة العثمانية في منطقة العلوازية، مقبرة باب المعظم). وتوجد مقابر للأرمن الأرثذوكس في الباب الشرقي، ومقبرة الانكليز في الوزيرية، ومقبرة اليهود في منطقة الحبيبية، بالإضافة إلى مقابر صغيرة متناثرة لطوائف أخرى.
وبقيت هذه الخدمة من واجبات البلدية حتى بعد تأسيس أمانة العاصمة، وإن هذه الخدمة اقتصرت على الفقراء والمحتاجين وكذلك الغرباء. وذلك للحفاظ على نظافة المدينة وصحة المواطنين من الأوبئة والأمراض.
وقد وجهت عدة انتقادات إلى أمانة العاصمة من قبل الصحف بسبب الإهمال في واجباتها في تنظيف الأزقة والشوارع، وكانت هذه المشكلة تثار في فصل الشتاء، إذ عانى المواطنون من رداءة تنظيم الشوارع، وتجمع مياه الأمطار بشكل يومي في الشوارع، وهذا يجبر المواطنين على اختراق الأزقة بصعوبة، فأشارت جريدة العاصمة إلى هذه المشكلة بعد انتخابات المجلس البلدي للعاصمة عام 1922 وطلبت من الأعضاء الجدد الاهتمام بتنظيم المدينة وتنظيف الشوارع لتجنب مشكلة فصل الشتاء.
أثارت جريدة الاستقلال نفس الموضوع في عام 1923، حيث شكا الناس من إهمال الأمانة ودوائرها في عملية التنظيف والتخلص من مياه الأمطار والأوساخ التي تعيق الحركة، وتعطي صورة تبدو وكأنما العاصمة عائمة على مياه وأوساخ تنذر بتسمم الأرض وانفجارها.
وللتخلص من المياه الآسنة والأوساخ، طالبت جريدة العراق بتفعيل مشروع المجارير الذي يدفع المياه القذرة خارج المدينة، بالإضافة إلى تذمرهم من طريقة التنظيف التي تتبعها الأمانة، حيث كان يتم كنس ورش الشوارع في الصباح ما يؤدي إلى إعاقة حركة الناس فطالبوا الأمانة بإجراء التنظيف في الليل باستخدام الآلات الحديثة.
وفي عام 1936 قدم سكان محلة العوينة شكوى عن تقصير الأمانة في تنظيف المحلة وتجمع المياه الآسنة، وكانت الشكوى وجهت إلى موظفي القسم الثالث المسؤول عن المحلة لكن دون جدوى.
إسالة الماء
كان جهاز مشروع الماء مؤلفاً في معظمه من بقايا التأسيسات التي بدأت فيها الإدارة العثمانية، وهي غير كافية بالمرة لتجهيز المدينة بالماء، وقد أجرت عليها تحسينات على يد قوات الاحتلال منذ عام 1917.
وبعد تأسيس الحكم الوطني في العراق سنة 1921، عهدت سلطات الاحتلال إدارة مشروع المياه إلى إدارة البلدية.
وأسهمت البلدية في توفير المياه في العاصمة بالالتزام. وبقي المشروع تحت إدارتها حتى تأسيس أول هيئة عامة لمياه الشرب في بغداد باسم (لجنة إسالة الماء لمدينة بغداد) سنة 1924. ورغم أن حالة الإسالة والتوزيع كانت في هذه المدة بدائية للغاية. وإن هذه اللجنة تألفت في عهد الأمين رشيد الخوجة، حيث تكونت من (المستر ج.م. وطسن مدير الأشغال العمومية رئيس اللجنة، والمستر لونكريك ممثل امانة العاصمة ووزارة الداخلية، والمستر ل.م. سوان ممثل وزارة المالية، ومحمود الشابندر ويهودا أفندي زلوف ودخل المستر كابارن كعضو للهندسة والدكتور سامي شوكت مدير الصحة العامة بدل الشابندر). وقد أنشئ هذا المشروع لغرض توصيل المياه إلى المناطق البعيدة في باب الشيخ وسوق الحبوب في الشورجة، وكانت قبل إنشاء المشروع تشتغل اربعة مراكز منفردة في نقاط مختلفة بين الحدود الشمالية والجنوبية تشغل بالنفط الأبيض وهو أغلى من النفط الأسود بنسبة 50%.
وأعلنت أمانة العاصمة أن مراكز توزيع الماء المعقم قد أسست في محلات (الفضل، بني سعيد، باب الشيخ، الطاطران، الصدرية، أبو سيفين، الكريمات) والفحامة، الدوريين، الجعيفر والشواكة).
وقد بلغ طول الأنابيب الموصلة لمياه الشرب في سنة 1924 (30) ألف متر، وعدد المشتركين سبعة آلاف مشترك، ولم تكن هناك عملية تصفية، وكانت الأنابيب ترفع غالباً من أماكنها لتنظيف ما بداخلها من الأطيان والرواسب ولم تكن هناك مقاييس بالأساس وإنما تستوفى الأجور بالتقدير، وفي سنة 1925-1926 ابتدأ الاهتمام بالتصفية. وألحق بعد ذلك مركز الكرادة بالمشروع، الذي كان بعهدة وزارة الطيران في سنة 1927، ثم وضع منهج إنشاء مركز تصفية جديدة لمنطقة الكرخ تضم إليه منطقة الكاظمية، وقد صدر بالفعل سنة 1929 قانون يشمل أعمال لجنة محلة الكاظمية، وأكمل المشروع في أواسط عام 1930. وكان الهدف من إنشائه تقديم أفضل الخدمات إلى المواطنين والتوسع به من خلال تأمين أهم حاجة حيوية ألا وهي الماء الصحي النقي للناس مع ازدياد حاجة المواطن واستعمالاته له في أمور الحياة.
ومن جانب آخر اهتمت أمانة العاصمة بتوفير المياه لمرافق الحياة الأخرى، منها الاهتمام بالحدائق العامة وتوفير الماء اللازم لها من خلال نصب وتشغيل ماكنة بقوة 14 حصاناً في المجيدية لسقي حديقة الأمانة في باب المعظم، وفي نفس الوقت تسقي حديقة المستشفى الملكي ويأخذ أجر معين مقابل هذه الخدمة.
وفي عام 1931 إتخذ مجلسا الأعيان والنواب (مجلس الأمة) قراراً بوضع قانون لتأسيس لجنة إسالة الماء لمنطقة بغداد، وصدر القانون برقم 104 لسنة 1931،
وتضمن القانون تحديد منطقة بغداد التي تبلغ مساحة نصف قطرها ثمانية كيلومترات من برج الساعة في سراي بغداد، والمناطق الأخرى وتكون اللجنة ذات شخصية حكمية. وكان من واجبات اللجنة أن تقوم بتوسيع نطاق الماء وتحسينه في مناطق بلدية بغداد والكاظمية والكرادة والأماكن الأخرى الواقعة ضمن منطقة بغداد حسب الحاجة، واقترح أن يكون عدد الأعضاء في اللجنة سبعة أعضاء ويتم اختيارهم من كبار موظفي الحكومة، ويختارون بالاشتراك من قبل وزير المالية ووزير الاقتصاد والمواصلات ومدير الصحة العام وأمين العاصمة.
وبعد صدور القانون أصبحت المساحة المجهزة بالماء الصافي 13 كيلو متراً مربعاً يدخل ضمنها ضاحية الكاظمية والكرادة، وبلغ عدد المشتركين الذين يصل إليهم الماء من الشبكة الرئيسية أكثر من 16 ألف مشترك.
وفي أواسط عام 1934 تم لأول مرة تزويد جهتي بغداد الرصافة والكرخ بالماء لمدة 24 ساعة متواصلة، وفي شهر أيلول عام 1935 افتتح مركز التصفية في منطقة الصرافية والذي اعتبر بداية لضخ الماء النقي لجانب الرصافة، وكانت مراكز المشروع في هذا التاريخ هي ثلاثة، الصرافية والشالجية والكرادة.
وكان مشروع الشالجية يجهز مليونا جالون من الماء المصفى يومياً، ولتزايد عدد المشتركين في جانب الكرخ والكاظمية وسع المشروع في سنة 1937 بنصب محركات ومضخات كهربائية إضافية وأربعة مصافٍ جديدة ومد خط أنبوب رئيسي إضافي إلى منطقة الكرخ.
وفي عهد أمين العاصمة أرشد العمري اهتمت الأمانة بتوسيع مركز المياه في كل من الكرادة، وأنشئت خزانات المياه العالية في الكيلاني وباب المعظم وخزان ماء عال في جنوبي بغداد قرب مضرب الكيلاني والمحافظة على تجهيز الماء لمحلة السعدون والبتاويين وخزان آخر شمالي بغداد. وفي عام 1939 أدمج مشروع الأعظمية بأعمال لجنة إسالة الماء وأدخلت عليه تحسينات شاملة.
اسراء عبد المنعم السعدي /عن رسالة (تاريخ امانة العاصمة)
المصدر:المدى
كاردينيا