إن الإمام علي بن أبي طالب أشهر من أن يعرف، ولقد قام لفيف من السنة والشيعة بتأليف كتب وموسوعات عن حياته، ومناقبه، وفضائله، وجهاده، وعلومه، وخطبه، وقصار كلماته، وسياسته، وحروبه مع الناكثين والقاسطين والمارقين، فالأولى لنا الاكتفاء بالميسور في هذا المجال، وإحالة القارئ إلى تلك الموسوعات، بيد أننا نكتفي هنا بذكر أوصافه الواردة في السنة فنقول:
هو أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وقائد الغر المحجلين، وخاتم الوصيين، وأول القوم إيمانا، وأوفاهم بعهد الله، وأعظمهم مزية، وأقومهم بأمر الله، وأعلمهم بالقضية، وراية الهدى، ومنار الإيمان، وباب الحكمة، والممسوس في ذات الله، خليفة النبي (صلى الله عليه وآله)، الهاشمي، وليد الكعبة المشرفة، ومطهرها من كل صنم ووثن، الشهيد في البيت الإلهي (مسجد الكوفة) في محرابه حال الصلاة سنة 40 ه. وكل جملة من هذه الجمل، وعبارة من هذه العبارات، كلمة قدسية نبوية أخرجها الحفاظ من أهل السنة (1).
(1) راجع مسند أحمد 1: 331 و 5: 182 - 189، حلية الأولياء 1: 62 - 68، الغدير 2: 33. (*)
مكونات الشخصية الإنسانية
تعود شخصية كل إنسان - حسب ما يرى علماء النفس - إلى ثلاثة عوامل هامة لكل منها نصيب وافر في تكوين الشخصية وأثر عميق في بناء كيانها. وكأن الشخصية الإنسانية لدى كل إنسان أشبه بمثلث يتألف من اتصال هذه الأضلاع الثلاثة بعضها ببعض، وهذه العوامل الثلاثة هي:
1 - الوراثة.
2 - التعليم والثقافة.
3 - البيئة والمحيط.
إن كل ما يتصف به المرء من صفات حسنة أو قبيحة، عالية أو وضيعة تنتقل إلى الإنسان عبر هذه القنوات الثلاث، وتنمو فيه من خلال هذه الطرق.
وإن الأبناء لا يرثون منا المال والثروة والأوصاف الظاهرية فقط كملامح الوجه ولون العيون وكيفيات الجسم، بل يرثون كل ما يتمتع به الآباء من خصائص روحية وصفات أخلاقية عن طريق الوراثة كذلك. فالأبوان - بانفصال جزئي " الحويمن " و " البويضة " المكونين للطفل منهما - إنما ينقلان - في الحقيقة - صفاتهما ملخصة إلى الخلية الأولى المكونة من ذينك الجزأين، تلك الخلية الجنينية التي تنمو مع ما تحمل من الصفات والخصوصيات الموروثة.
ويشكل تأثير الثقافة والمحيط، الضلعين الآخرين في مثلث الشخصية الإنسانية، فإن لهذين الأمرين أثرا مهما وعميقا في تنمية السجايا الرفيعة المودعة في باطن كل إنسان بصورة فطرية جبلية أو الموجودة في كيانه بسبب الوراثة من الأبوين.
فإن في مقدور كل معلم أن يرسم مصير الطفل ومستقبله من خلال ما يلقي إليه من تعليمات وتوصيات وما يعطيه من سيرة وسلوك ومن آراء وأفكار، فكم من بيئة حولت أفرادا صالحين إلى فاسدين، أو فاسدين إلى صالحين.
وإن تأثير هذين العاملين المهمين من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى المزيد من البيان والتوضيح. على أننا يجب أن لا ننسى دور إرادة الإنسان نفسه وراء هذه العوامل الثلاثة. مكونات شخصية الإمام علي (عليه السلام) لم يكن الإمام علي (عليه السلام) بصفته بشرا بمستثنى من هذه القاعدة، فقد ورث الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) جانبا كبيرا من شخصيته النفسية والروحية والأخلاقية من هذه العوامل والطرق الثلاثة، وإليك تفصيل ذلك:
1 - الإمام علي (عليه السلام) والوراثة من الأبوين:
لقد انحدر الإمام علي من صلب والد عظيم الشأن، رفيع الشخصية هو أبو طالب، ولقد كان أبو طالب زعيم مكة، وسيد البطحاء، ورئيس بني هاشم، وهو إلى جانب ذلك، كان معروفا بالسماحة والبذل والجود والعطاء والعطف والمحبة والفداء والتضحية في سبيل الهدف المقدس، والعقيدة التوحيدية المباركة.
فهو الذي تكفل رسول الله منذ توفي جده وكفيله الأول عبد المطلب وهو آنذاك في الثامنة من عمره، وتولى العناية به والقيام بشؤونه، وحفظه وحراسته في السفر والحضر، بإخلاص كبير واندفاع وحرص لا نظير لهما، بل وبقي يدافع عن رسالة التوحيد، والدين الحق الذي جاء به النبي الكريم (صلى الله عليه وآله) ويقوم في سبيل إرساء قواعده ونشر تعاليمه بكل تضحية وفداء، ويتحمل لتحقيق هذه الأهداف العليا كل تعب ونصب وعناء.
وقد انعكست هذه الحقيقة وتجلى موقفه هذا في كثير من أشعاره وأبياته المجموعة في ديوانه بصورة كاملة مثل قوله:
ليعلم خيار الناس أن محمدا * نبي كموسى والمسيح ابن مريم
وقوله:
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا * رسولا كموسى خط في أول الكتب (1)
إن من المستحيل أن تصدر أمثال هذه التضحيات التي كان أبرزها محاصرة بني هاشم جميعا في الشعب، ومقاطعتهم القاسية، من دافع غير الإيمان العميق بالهدف والشغف الكبير بالمعنوية، الذي كان يتصف به أبو طالب، إذ لا تستطيع مجرد الوشائج العشائرية، وروابط القربى، أن توجد في الإنسان مثل هذه الروح التضحوية.
إن الدلائل على إيمان أبي طالب بدين ابن أخيه تبلغ من الوفرة والكثرة بحيث استقطبت اهتمام كل المحققين المنصفين والمحايدين، ولكن بعض المتعصبين توقف في إيمان تلك الشخصية المتفانية العظيمة، بالدعوة المحمدية، بينما تجاوز فريق هذا الحد إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث قالوا بأنه مات غير مؤمن. ولو صحت عشر هذه الدلائل الدالة على إيمان أبي طالب الثابتة في كتب التاريخ والحديث في حق رجل آخر لما شك أحد في إيمانه فضلا عن إسلامه، ولكن لا يعلم الإنسان لماذا لا تستطيع كل هذه الأدلة إقناع هذه الزمرة، وإنارة الحقيقة لهم؟ !
(1) مجمع البيان 4: 37. (*)
هذا عن والد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).
وأما أمه فهي فاطمة بنت أسد بن هاشم وهي من السابقات إلى الإسلام والإيمان برسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد كانت قبل ذلك تتبع ملة إبراهيم.
إنها المرأة الطاهرة التي لجأت - عند المخاض - إلى المسجد الحرام، وألصقت نفسها بجدار الكعبة وأخذت تقول: " يا رب إني مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإني مصدقة بكلام جدي إبراهيم وإنه بنى البيت العتيق، فبحق الذي بنى هذا البيت و (بحق) المولود الذي في بطني إلا ما يسرت علي ولادتي ". فدخلت فاطمة بنت أسد الكعبة ووضعت عليا هناك (1).
تلك فضيلة نقلها قاطبة المؤرخين والمحدثين الشيعة، وكذا علماء الأنساب في مصنفاتهم، كما نقلها ثلة كبيرة من علماء السنة وصرحوا بها في كتبهم، واعتبروها حادثة فريدة، وواقعة عظيمة لم يسبق لها مثيل (2).
وقال الحاكم النيسابوري: وقد تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في جوف الكعبة (3).
وقال شهاب الدين أبو الثناء السيد محمود الآلوسي: " وكون الأمير كرم الله وجهه، ولد في البيت، أمر مشهور في الدنيا ولم يشتهر وضع غيره كرم الله وجهه، كما اشتهر وضعه " (4).
(1) كشف الغمة 1: 60.
(2) مروج الذهب 2: 349، شرح الشفاء للقاضي عياض 1: 151 وغيرهما، وقد أفرد العلامة الأردوبادي رسالة في هذه المنقبة وسماها: علي وليد الكعبة.
(3) شرح عينية عبد الباقي العمري: 15.
(4) الغدير 6: 22. (*)
2 - الإمام علي وتربيته في حجر النبي (صلى الله عليه وآله):
وأما التربية الروحية والفكرية والأخلاقية فقد تلقاها علي (عليه السلام) في حجر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهي الضلع الثاني من أضلاع شخصيته الثلاثة.
ولو أننا قسمنا مجموعة سنوات عمر الإمام (عليه السلام) إلى خمسة أقسام لوجدنا القسم الأول من هذه الأقسام الخمسة من حياته الشريفة، يؤلف السنوات التي قضاها (عليه السلام) قبل بعثة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).
وإن هذا القسم من حياته الشريفة لا يتجاوز عشر سنوات، لأن اللحظة التي ولد فيها علي (عليه السلام) لم يكن النبي (صلى الله عليه وآله) قد تجاوز الثلاثين من عمره المبارك، هذا مع العلم بأنه (صلى الله عليه وآله) قد بعث بالرسالة في سن الأربعين. وعلى هذا الأساس لم يكن الإمام علي (عليه السلام) قد تجاوز السنة العاشرة من عمره يوم بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالرسالة، وتوج بالنبوة.
إن أبرز الحوادث في حياة الإمام علي (عليه السلام) هو تكوين الشخصية العلوية، وتحقق الضلع الثاني من المثلث الذي أسلفناه بواسطة النبي الأكرم، وفي ظل ما أعطاه (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) من أخلاق وأفكار، لأن هذا القسم في حياة كل إنسان وهذه الفترة من عمره هي من اللحظات الخطيرة، والقيمة جدا، فشخصية الطفل في هذه الفترة تشبه صفحة بيضاء نقية تقبل كل لون، وهي مستعدة لأن ينطبع عليها كل صورة مهما كانت، وهذه الفترة من العمر تعتبر - بالتالي - خير فرصة لأن ينمي المربون والمعلمون فيها كلما أودعت يد الخالق في كيان الطفل من سجايا طيبة وصفات كريمة، وفضائل أخلاقية نبيلة، ويوقفوا الطفل - عن طريق التربية - على القيم الأخلاقية والقواعد الإنسانية وطريقة الحياة السعيدة، وتحقيقا لهذا الهدف السامي تولى النبي الكريم (صلى الله عليه وآله) بنفسه تربية علي (عليه السلام) بعد ولادته، وذلك عندما أتت فاطمة بنت أسد بوليدها علي (عليه السلام) إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلقيت من رسول الله حبا شديدا لعلي حتى أنه قال لها: " اجعلي مهده بقرب فراشي " وكان (صلى الله عليه وآله) يطهر عليا في وقت غسله، ويوجره اللبن عند شربه، ويحرك مهده عند نومه، ويناغيه في يقظته، ويلاحظه ويقول: " هذا أخي، ووليي، وناصري، وصفيي، وذخري، وكهفي، وصهري، ووصيي، وزوج كريمتي، وأميني على وصيتي، وخليفتي " (1).
ولقد كانت الغاية من هذه العناية هي أن يتم توفير الضلع الثاني في مثلث الشخصية (وهو التربية) بواسطته (صلى الله عليه وآله)، وأن لا يكون لأحد غير النبي (صلى الله عليه وآله) دخل في تكوين الشخصية العلوية الكريمة.
وقد ذكر الإمام علي (عليه السلام) ما أسداه الرسول الكريم إليه وما قام به تجاهه في تلكم الفترة إذ قال: " وقد علمتم موضعي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد، يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه " (2).
النبي يأخذ عليا إلى بيته:
وإذ كان الله تعالى يريد لولي دينه أن ينشأ نشأة صالحة وأن يأخذ النبي عليا إلى بيته وأن يقع منذ نعومة أظفاره تحت تربية النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ألفت نظر نبيه إلى ذلك.
قد ذكر المؤرخون أنه أصابت مكة - ذات سنة - أزمة مهلكة وسنة مجدبة منهكة، وكان أبو طالب - رضي الله عنه - ذا مال يسير وعيال كثير فأصابه ما أصاب قريشا من العدم والضائقة والجهد والفاقة، فعند ذلك دعا رسول الله عمه
(1) كشف الغمة 1: 60.
(2) نهج البلاغة، الخطبة (192) المسماة بالخطبة القاصعة. (*)
العباس إلى أن يتكفل كل واحد منهما واحدا من أبناء أبي طالب وكان العباس ذا مال وثروة وجدة فوافقه العباس على ذلك، أخذ النبي عليا، وأخذ العباس جعفرا وتكفل أمره، وتولى شؤونه (1).
هكذا وللمرة الأخرى أصبح علي (عليه السلام) في حوزة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بصورة كاملة، واستطاع بهذه المرافقة الكاملة أن يقتطف من ثمار أخلاقه العالية وسجاياه النبيلة، الشئ الكثير، وأن يصل تحت رعاية النبي وعنايته وبتوجيهه وقيادته، إلى أعلى ذروة من ذرى الكمال الروحي. وهذا هو الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يشير إلى تلك الأيام القيمة وإلى تلك الرعاية النبوية المباركة المستمرة إذ يقول: " ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي كل يوم من أخلاقه علما ويأمرني بالاقتداء به " (2).
علي في غار حراء
كان النبي - حتى قبل أن يبعث بالرسالة والنبوة - يعتكف ويتعبد في غار حراء شهرا من كل سنة، فإذا انقضى الشهر وقضى جواره من حراء انحدر من الجبل، وتوجه إلى المسجد الحرام رأسا وطاف بالبيت سبعا، ثم عاد إلى منزله.
وهنا يطرح سؤال: ماذا كان شأن علي (عليه السلام) في تلك الأيام التي كان يتعبد ويعتكف فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ذلك المكان مع ما عرفناه من حب الرسول الأكرم له؟ هل كان يأخذ (صلى الله عليه وآله) عليا معه إلى ذلك المكان العجيب أم كان يتركه ويفارقه؟ إن القرائن الكثيرة تدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله) منذ أن أخذ عليا لم يفارقه يوما أبدا،
(1) بحار الأنوار 35: 44، وسيرة ابن هشام 1: 246.
(2) نهج البلاغة - شرح عبده - 2: 182. (*)
فهاهم المؤرخون يقولون: كان علي يرافق النبي دائما ولا يفارقه أبدا، حتى أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان إذا خرج إلى الصحراء أو الجبل أخذ عليا معه (1).
يقول ابن أبي الحديد: وقد ذكر علي (عليه السلام) هذا الأمر في الخطبة القاصعة إذ قال: " ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري " (2).
إن هذه العبارة وإن كانت محتملة في مرافقته للنبي في حراء بعد البعثة الشريفة إلا أن القرائن السابقة وكون مجاورة النبي بحراء كانت في الأغلب قبل البعثة، تؤيد أن هذه الجملة، يمكن أن تكون إشارة إلى صحبة علي للنبي في حراء قبل البعثة.
إن طهارة النفسية العلوية، ونقاوة الروح التي كان علي (عليه السلام) يتحلى بها، والتربية المستمرة التي كان يحظى بها في حجر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كل ذلك كان سببا في أن يتصف علي (عليه السلام) - ومنذ نعومة أظفاره - ببصيرة نفاذة وقلب مستنير، وأذن سميعة واعية تمكنه من أن يرى أشياء ويسمع أمواجا تخفى على الناس العاديين، ويتعذر عليهم سماعها ورؤيتها، كما يصرح نفسه بذلك إذ يقول: " أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة " (3).
يقول الإمام الصادق (عليه السلام): " كان علي (عليه السلام) يرى مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل الرسالة الضوء، ويسمع الصوت ".
وقد قال له النبي (صلى الله عليه وآله): لولا أني خاتم الأنبياء لكنت شريكا في النبوة، فإن لا تكن نبيا فإنك وصي نبي ووارثه، بل أنت سيد الأوصياء وإمام الأتقياء " (4).
ويقول الإمام علي (عليه السلام): " لقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلى الله عليه وآله)
(1) ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة 13: 208.
(2) نهج البلاغة: الخطبة القاصعة الرقم 187.
(3) المصدر نفسه.
(4) ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة 13: 310. (*)
فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنة؟ فقال: هذا الشيطان أيس من عبادته، ثم قال له: " إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي ولكنك وزير " (1).
هذا هو الرافد الثاني الذي كان يرفد الشخصية العلوية بالأخلاق والسجايا الرفيعة.
(1) نهج البلاغة: الخطبة القاصعة الرقم 187.
3 - البيئة الرسالية وشخصية الإمام:
ولو أضفنا ذينك الأمرين (أي ما اكتسبه من والديه الطاهرين بالوراثة، وما تلقاه في حجر النبي) إلى ما أخذه من بيئة الرسالة والإسلام من أفكار وآراء رفيعة، وتأثر عنها أدركنا عظمة الشخصية العلوية من هذا الجانب.
ومن هنا يحظى الإمام علي (عليه السلام) بمكانة مرموقة لدى الجميع، مسلمين وغير مسلمين، لما كان يتمتع به من شخصية سامقة، وخصوصيات خاصة يتميز بها.
وهذا هو ما دفع بالبعيد والقريب إلى أن يصف عليا بما لم يوصف به أحد من البشر، ويخصه بنعوت، حرم منها غيره، فهذا الدكتور شبلي شميل المتوفى سنة 1335 هـ / 1917 م وهو من كبار الماديين في القرن الحاضر يقول: الإمام علي بن أبي طالب عظيم العظماء نسخة مفردة لم ير لها الشرق ولا الغرب صورة طبق الأصل لا قديما ولا حديثا (2).
قال عمر بن الخطاب: " عقمت النساء أن يلدن مثل علي بن أبي طالب " (3).
ويقول جورج جرداق الكاتب المسيحي اللبناني المعروف: " وماذا عليك يا دنيا لو حشدت قواك فأعطيت في كل زمن عليا بعقله وقلبه
(2) الإمام علي صوت العدالة الإنسانية 1: 37.
(3) الغدير 6: 38 ط النجف. (*)
ولسانه وذي فقاره " (1).
هذه الأبعاد التي ألمحنا إليها هي الأبعاد الطبيعية للشخصية العلوية.
البعد المعنوي لشخصية الإمام (عليه السلام):
غير أن أبعاد شخصية الإمام علي (عليه السلام) لا تنحصر في هذه الأبعاد الثلاثة، فإن لأولياء الله سبحانه بعدا رابعا، داخلا في هوية ذاتهم، وحقيقة شخصيتهم، وهذا البعد هو الذي ميزهم عن سائر الشخصيات وأضفى عليهم بريقا خاصا ولمعانا عظيما.
وهذا البعد هو البعد المعنوي الذي ميز هذه الصفوة عن الناس، وجعلهم نخبة ممتازة وثلة مختارة من بين الناس، وهو كونهم رسل الله وأنبياءه، أو خلفاءه وأوصياء أنبيائه.
نرى أنه سبحانه يأمر رسوله أن يصف نفسه بقوله: " قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا " (2).
فقوله: " بشرا " إشارة إلى الأبعاد البشرية الموجودة في كل إنسان طبيعي، وإن كانوا يختلفون فيها فيما بينهم كمالا ولمعانا.
وقوله: " رسولا " إشارة إلى ذلك البعد المعنوي الذي ميزه (صلى الله عليه وآله) عن الناس وجعله معلما وقدوة للبشر، فلأجل ذلك يقف المرء في تحديد الشخصيات الإلهية على شخصية مركبة من بعدين: طبيعي وإلهي ولا يقدر على توصيفها إلا بنفس ما وصفهم به الله سبحانه مثل قوله في شأن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ
(1) الإمام علي صوت العدالة الإنسانية 1: 49.
(2) الإسراء: 93. (*)
فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } (1) وقد نزلت في حق الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) آيات، ووردت روايات. كيف وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " عنوان صحيفة المؤمن حب علي بن أبي طالب (عليه السلام) " (2).
وقال (صلى الله عليه وآله): " من سره أن يحيا حياتي ويموت مماتي، ويسكن جنة عدن غرسها ربي فليوال عليا بعدي، وليوال وليه، وليقتد بالأئمة من بعدي، فإنهم عترتي خلقوا من طينتي، رزقوا فهما وعلما، وويل للمكذبين بفضلهم من أمتي، القاطعين فيهم صلتي، لا أنالهم الله شفاعتي " (3).
وقال الإمام أحمد بن حنبل: ما لأحد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثل ما لعلي (رض) (4).
وقال الإمام الفخر الرازي: من اتخذ عليا إماما لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه (5).
وقال أيضا: من اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى لقول النبي (صلى الله عليه وآله): اللهم أدر الحق مع علي حيث دار (6).
(1) الأعراف: 57.
(2) أخرجه الحافظ الخطيب البغدادي في تاريخه 4: 410.
(3) أخرجه الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء 1: 86.
(4) مناقب أحمد لابن الجوزي الحنبلي: 163.
(5) تفسير مفاتيح الغيب 1: 205.
(6) المصدر نفسه: 204. (*)
تسليط الضوء على شخصيته السامية:
لا عتب على اليراع لو وقف عند تحديد شخصية كريمة معنوية خصها الله تعالى بمواهب وفضائل، وكفى في ذلك ما رواه طارق بن شهاب، قال: كنت عند عبد الله ابن عباس فجاء أناس من أبناء المهاجرين فقالوا له: يا بن عباس أي رجل كان علي بن أبي طالب؟ قال: ملئ جوفه حكما وعلما وبأسا ونجدة وقرابة من رسول الله (1).
روى عكرمة عن ابن عباس قال: ما نزل في القرآن: " يا أيها الذين آمنوا " إلا وعلي (عليه السلام) رأسها وأميرها، ولقد عاتب الله أصحاب محمد في غير مكان، وما ذكر عليا إلا بخير (2).
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما نزل في أحد من كتاب الله ما نزل في علي (3). وقال ابن عباس: نزلت في علي أكثر من ثلاثمائة آية في مدحه (4).
نكتفي في ترجمة علي (عليه السلام) بكلمتين عن تلميذيه اللذين كانا معه سرا وجهرا.
1 - قال ابن عباس - عندما سئل عن علي -: رحمة الله على أبي الحسن، كان والله علم الهدى، وكهف التقى، وطود النهى، ومحل الحجى، وغيث الندى، ومنتهى العلم للورى، ونورا أسفر في الدجى، وداعيا إلى المحجة العظمى، ومستمسكا بالعروة الوثقى، أتقى من تقمص وارتدى، وأكرم من شهد النجوى بعد محمد المصطفى، وصاحب القبلتين، وأبو السبطين، وزوجته خير النساء، فما يفوقه أحد،
(1) شواهد التنزيل 1: 108 ح 153.
(2) مسند أحمد 1: 190، تاريخ الخلفاء: 171.
(3) الصواعق المحرقة، الباب التاسع، الفصل الثالث: 76.
(4) تاريخ الخلفاء: 172. (*)
لم تر عيناي مثله، ولم أسمع بمثله، فعلى من أبغضه لعنة الله ولعنة العباد إلى يوم التناد (1).
2 - إن معاوية سأل ضرار بن حمزة بعد موت علي عنه، فقال: صف لي عليا، فقال: أو تعفيني؟ قال: صفه، قال: أو تعفيني؟ قال: لا أعفيك، قال: أما إذ لا بد فأقول ما أعلمه منه: والله كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلب كفيه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب. كان والله كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه ويبتدئنا إذا أتيناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه هيبة، ولا نبتدئه عظمة، إن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله. فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وقد مثل في محرابه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين، وكأني أسمعه وهو يقول: يا دنيا أبي تعرضت؟ أم إلي تشوقت؟ هيهات هيهات غري غيري، قد باينتك ثلاثا لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كثير، آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق.
قال: فذرفت دموع معاوية على لحيته فما يملكها وهو ينشفها بكمه وقد اختنق القوم بالبكاء، فقال معاوية: رحم الله أبا الحسن ! كان والله كذلك، فكيف حزنك
(1) ميزان الاعتدال 1: 484. (*)
عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذبح ولدها في حجرها، فلا ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها (1).
هذه شذرات من فضائله، وقبسات من مناقبه الكثيرة التي حفظها التاريخ من تلاعب الأيدي.
غير أنه لا يعرف عليا غير خالقه، وبعده صاحب الرسالة الكبرى ابن عمه المصطفى (صلى الله عليه وآله).
(1) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 18: 225 وغيره. (*)
تنصيب علي (عليه السلام) للإمامة
لا شك في أن الدين الإسلامي دين عالمي، وشريعة خاتمة، وقد كانت قيادة الأمة الإسلامية من شؤون النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ما دام على قيد الحياة، وطبع الحال يقتضي أن يوكل مقام القيادة بعده إلى أفضل أفراد الأمة وأكملهم.
إن في هذه المسألة، وهي أن منصب القيادة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) هل هو منصب تنصيصي تعييني أو أنه منصب انتخابي؟ اتجاهين: فالشيعة ترى أن مقام القيادة منصب تنصيصي، ولا بد أن ينص على خليفة النبي من السماء، بينما يرى أهل السنة أن هذا المنصب انتخابي جمهوري، أي أن على الأمة أن تقوم بعد النبي باختيار فرد من أفرادها لإدارة البلاد.
إن لكل من الاتجاهين المذكورين دلائل، ذكرها أصحابهما في الكتب العقائدية، إلا أن ما يمكن طرحه هنا هو تقييم ودراسة المسألة في ضوء دراسة وتقييم الظروف السائدة في عصر الرسالة، فإن هذه الدراسة كفيلة بإثبات صحة أحد الاتجاهين.
إن تقييم الأوضاع السياسية داخل المنطقة الإسلامية وخارجها في عصر الرسالة يقضي بأن خليفة النبي (صلى الله عليه وآله) لا بد أن يعين من جانب الله تعالى، ولا يصح أن يوكل هذا إلى الأمة، فإن المجتمع الإسلامي كان مهددا على الدوام بالخطر الثلاثي (الروم - الفرس - المنافقون) بشن الهجوم الكاسح، وإلقاء بذور الفساد والاختلاف بين المسلمين. كما أن مصالح الأمة كانت توجب أن تتوحد صفوف المسلمين في مواجهة الخطر الخارجي، وذلك بتعيين قائد سياسي من بعده، وبذلك يسد الطريق على نفوذ العدو في جسم الأمة الإسلامية والسيطرة عليها، وعلى مصيرها.
وإليك بيان وتوضيح هذا المطلب: لقد كانت الإمبراطورية الرومانية أحد أضلاع الخطر المثلث الذي يحيط بالكيان الإسلامي، ويهدده من الخارج والداخل، وكانت هذه القوة الرهيبة تتمركز في شمال الجزيرة العربية، وكانت تشغل بال النبي القائد على الدوام، حتى إن التفكير في أمر الروم لم يغادر ذهنه وفكره حتى لحظة الوفاة، والالتحاق بالرفيق الأعلى.
وكانت أول مواجهة عسكرية بين المسلمين والجيش المسيحي الرومي وقعت في السنة الثامنة من الهجرة في أرض فلسطين، وقد أدت هذه المواجهة إلى استشهاد القادة العسكريين البارزين الثلاثة وهم: " جعفر الطيار " و " زيد بن حارثة " و " عبد الله بن رواحة "، ولقد تسبب انسحاب الجيش الإسلامي بعد استشهاد القادة المذكورين إلى تزايد جرأة الجيش القيصري المسيحي، فكان يخشى بصورة متزايدة أن تتعرض عاصمة الإسلام للهجوم الكاسح من قبل هذا الجيش.
من هنا خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) في السنة التاسعة للهجرة على رأس جيش كبير جدا إلى حدود الشام ليقود بنفسه أية مواجهة عسكرية، وقد استطاع الجيش في هذا الرحلة الصعبة المضنية أن يستعيد هيبته الغابرة، ويجدد حياته السياسية.
غير أن هذا الانتصار المحدود لم يقنع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأعد قبيل مرضه جيشا كبيرا من المسلمين، وأمر عليهم " أسامة بن زيد "، وكلفهم بالتوجه إلى حدود الشام، والحضور في تلك الجبهة.
أما الضلع الثاني من المثلث الخطير الذي كان يهدد الكيان الإسلامي، فكان الإمبراطورية الإيرانية (الفارسية) وقد بلغ من غضب هذه الإمبراطورية على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومعاداتها لدعوته، أن أقدم إمبراطور إيران " خسرو برويز " على
تمزيق رسالة النبي (صلى الله عليه وآله)، وتوجيه الإهانة إلى سفيره بإخراجه من بلاطه، والكتابة إلى واليه وعامله على اليمن بأن يوجه إلى المدينة من يقبض على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أو يقتله إن امتنع.
و " خسرو " هذا وإن قتل في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا أن استقلال اليمن - التي رزحت تحت استعمار الإمبراطورية الإيرانية ردحا طويلا من الزمان - لم يغب عن نظر ملوك إيران آنذاك، وكان غرور أولئك الملوك وتجبرهم وكبرياؤهم لا يسمح بتحمل منافسة القوة الجديدة (القوة الإسلامية) لهم.
والخطر الثالث كان هو خطر حزب النفاق الذي كان يعمل بين صفوف المسلمين كالطابور الخامس على تقويض دعائم الكيان الإسلامي من الداخل إلى درجة أنهم قصدوا اغتيال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في طريق العودة من تبوك إلى المدينة. فقد كان بعض عناصر هذا الحزب الخطر يقول في نفسه: إن الحركة الإسلامية سينتهي أمرها بموت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورحيله، وبذلك يستريح الجميع (1).
ولقد قام أبو سفيان بن حرب بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمكيدة مشؤومة لتوجيه ضربة إلى الأمة الإسلامية من الداخل، وذلك عندما أتى عليا (عليه السلام) وعرض عليه أن يبايعه ضد من عينه رجال السقيفة، ليستطيع بذلك تشطير الأمة الإسلامية الواحدة إلى شطرين متحاربين متقاتلين، فيتمكن من التصيد في الماء العكر.
ولكن الإمام عليا (عليه السلام) أدرك بذكائه البالغ نيات أبي سفيان الخبيثة، فرفض مطلبه وقال له كاشفا عن دوافعه ونياته الشريرة: " والله ما أردت بهذا إلا الفتنة، وإنك - والله - طالما بغيت للإسلام شرا. لا حاجة لنا في نصيحتك " (2).
(1) أشارت إلى ذلك الآية الكريمة 30 من سورة الطور: { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ }.
(2) الكامل في التاريخ 2: 222، العقد الفريد 2: 249. (*)
ولقد بلغ دور المنافقين التخريبي من الشدة بحيث تعرض القرآن لذكرهم في سور عديدة هي: سورة آل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، والتوبة، والعنكبوت، والأحزاب، ومحمد (صلى الله عليه وآله)، والفتح، والمجادلة، والحديد، والمنافقون، والحشر.
فهل مع وجود مثل هؤلاء الأعداء الخطرين والأقوياء الذين كانوا يتربصون بالإسلام الدوائر، ويتحينون الفرص للقضاء عليه، يصح أن يترك رسول الله أمته الحديثة العهد بالإسلام، الجديدة التأسيس من دون أن يعين لهم قائدا دينيا سياسيا؟ ! !
إن المحاسبات الاجتماعية تقول: إنه كان من الواجب أن يمنع رسول الإسلام بتعيين قائد للأمة،... من ظهور أي اختلاف وانشقاق فيها من بعده، وأن يضمن استمرار وبقاء الوحدة الإسلامية بإيجاد حصن قوي وسياج دفاعي متين حول تلك الأمة.
إن تحصين الأمة، وصيانتها من الحوادث المشؤومة، والحيلولة دون مطالبة كل فريق " الزعامة " لنفسه دون غيره، وبالتالي التنازع على مسألة الخلافة والزعامة، لم يكن ليتحقق، إلا بتعيين قائد للأمة، وعدم ترك الأمور للأقدار.
إن هذه المحاسبة الاجتماعية تهدينا إلى صحة نظرية " التنصيص على القائد بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) " ولعل لهذه الجهة ولجهات أخرى طرح رسول الإسلام مسألة الخلافة في الأيام الأولى من ميلاد الرسالة الإسلامية، وظل يواصل طرحها والتذكير بها طوال حياته حتى الساعات الأخيرة منها، حيث عين خليفته ونص عليه بالنص القاطع الواضح الصريح في بدء دعوته، وفي نهايتها أيضا.
وإليك بيان كلا هذين المقامين:
1 - النبوة والإمامة توأمان: بغض النظر عن الأدلة العقلية والفلسفية التي تثبت صحة الرأي الأول بصورة قطعية، هناك أخبار وروايات وردت في المصادر المعتبرة تثبت صحة الموقف والرأي الذي ذهب إليه علماء الشيعة وتصدقه، فقد نص النبي (صلى الله عليه وآله) على خليفته من بعده في الفترة النبوية من حياته مرارا وتكرارا، وأخرج موضوع الإمامة من مجال الانتخاب الشعبي والرأي العام.
فهو لم يعين (ولم ينص على) خليفته ووصيه من بعده في أخريات حياته فحسب، بل بادر إلى التعريف بخليفته ووصيه منذ بدء الدعوة يوم لم ينضو تحت راية رسالته بعد سوى بضعة عشر من الأشخاص، وذلك يوم أمر من جانب الله العلي القدير أن ينذر عشيرته الأقربين من العذاب الإلهي الأليم، وأن يدعوهم إلى عقيدة التوحيد قبل أن يصدع برسالته للجميع، ويبدأ دعوته العامة للناس كافة.
فجمع أربعين رجلا من زعماء بني هاشم وبني المطلب، ثم وقف فيهم خطيبا فقال: " أيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ " فأحجم القوم، وقام علي (عليه السلام) وأعلن مؤازرته وتأييده له، فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) برقبته، والتفت إلى الحاضرين، وقال: " إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم " (1).
قد عرف هذا الحديث عند المفسرين والمحدثين: ب " حديث يوم الدار " و " حديث بدء الدعوة ".
(1) تاريخ الطبري 2: 216، الكامل في التاريخ 2: 62 و 63، وقد مر مفصلا في هذه الدراسة فراجع. (*)
على أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يكتف بالنص على خليفته في بدء رسالته، بل صرح في مناسبات شتى في السفر والحضر، بخلافة علي (عليه السلام) من بعده، ولكن لا يبلغ شئ من ذلك في الأهمية والظهور والصراحة والحسم ما بلغه حديث الغدير.
2 - قصة الغدير: لما انتهت مراسم الحج، وتعلم المسلمون مناسك الحج من رسول الله، قرر رسول الله (صلى الله عليه وآله) الرحيل عن مكة، والعودة إلى المدينة، فأصدر أمرا بذلك، ولما بلغ موكب الحجيج العظيم إلى منطقة " رابغ " (1) التي تبعد عن " الجحفة " (2) بثلاثة أميال، نزل أمين الوحي جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمنطقة تدعى " غدير خم "، وخاطبه بالآية التالية: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } (3).
إن لسان الآية وظاهرها يكشف عن أن الله تعالى ألقى على عاتق النبي (صلى الله عليه وآله) مسؤولية القيام بمهمة خطيرة، وأي أمر أكثر خطورة من أن ينصب عليا (عليه السلام) لمقام الخلافة من بعده على مرأى ومسمع من مائة ألف شاهد؟ ! من هنا أصدر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمره بالتوقف، فتوقف طلائع ذلك الموكب العظيم، والتحق بهم من تأخر.
لقد كان الوقت وقت الظهيرة، وكان المناخ حارا إلى درجة كبيرة جدا، وكان الشخص يضع قسما من عباءته فوق رأسه والقسم الآخر منها تحت قدميه، وصنع للنبي (صلى الله عليه وآله) مظلة، وكانت عبارة عن عباءة ألقيت على أغصان شجرة (سمرة)، وصلى
(1) رابغ تقع الآن على الطريق بين مكة والمدينة.
(2) من مواقيت الإحرام وتنشعب منها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين.
(3) المائدة: 67. (*)
رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالحاضرين الظهر جماعة وفيما كان الناس قد أحاطوا به صعد (صلى الله عليه وآله) على منبر أعد من أحداج الإبل وأقتابها، وخطب في الناس رافعا صوته، وهو يقول: " الحمد لله نحمده ونستعينه ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، الذي لا هادي لمن أضل، ولا مضل لمن هدى، وأشهد أن لا إله إلا هو، وأن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد، أيها الناس إني أوشك أن أدعى فأجيب، وإني مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟ " قالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت وجهدت، فجزاك الله خيرا.
قال (صلى الله عليه وآله): " ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن جنته حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور؟ " قالوا: بلى نشهد بذلك. قال (صلى الله عليه وآله): " اللهم اشهد ".
ثم قال (صلى الله عليه وآله): " وإني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا ". فنادى مناد: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وما الثقلان؟ قال (صلى الله عليه وآله): " كتاب الله سبب طرف بيد الله، وطرف بأيديكم، فتمسكوا به، والآخر عترتي، وإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ".
وهنا أخذ بيد علي (عليه السلام) ورفعها، حتى رؤي بياض آباطهما، وعرفه الناس أجمعون ثم قال: " أيها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم.
فقال (صلى الله عليه وآله): " إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعلي مولاه (1). اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأحب من أحبه، وابغض من بغضه، وأدر الحق معه حيث دار " (2).
فلما نزل من المنبر، استجازه حسان بن ثابت شاعر عهد الرسالة في أن يفرغ ما نزل به الوحي في قالب الشعر، فأجازه الرسول، فقام وأنشد:
يناديهم يوم الغدير نبيهم * بخم وأكرم بالنبي مناديا
يقول فمن مولاكم ووليكم * فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت ولينا * ولم تر منا في الولاية عاصيا
فقال له قم يا علي فإنني * رضيتك من بعدي إماما وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليه * فكونوا له أنصار صدق ومواليا
هناك دعا: اللهم ! وال وليه * وكن للذي عادى عليا معاديا
مصادر الواقعة: هذه هي واقعة الغدير استعرضناها لك على وجه الإجمال، وهي بحق واقعة لا يسوغ لأحد إنكارها بأدنى مراتب التشكيك والقدح، فقد تناولها بالذكر أئمة المؤرخين أمثال: البلاذري، وابن قتيبة، والطبري، والخطيب البغدادي، وابن عبد البر، وابن عساكر، وياقوت الحموي، وابن الأثير، وابن أبي الحديد، وابن خلكان، واليافعي، وابن كثير، وابن خلدون، والذهبي، وابن حجر
(1) لقد كرر النبي (صلى الله عليه وآله) هذه العبارة ثلاث مرات دفعا لأي التباس أو اشتباه.
(2) راجع للوقوف على مصادر هذا الحديث المتواتر موسوعة الغدير للعلامة الأميني (رحمه الله). (*)
العسقلاني، وابن الصباغ المالكي، والمقريزي، وجلال الدين السيوطي، ونور الدين الحلبي إلى غير ذلك من المؤرخين الذين جادت بهم القرون والأجيال.
كما ذكره أيضا أئمة الحديث أمثال: الإمام الشافعي، وأحمد بن حنبل، وابن ماجة، والترمذي، والنسائي، وأبو يعلى الموصلي، والبغوي، والطحاوي، والحاكم النيسابوري، وابن المغازلي، والخطيب الخوارزمي، والكنجي، ومحب الدين الطبري، والحمويني، والهيثمي، والجزري، والقسطلاني، والمتقي الهندي، وتاج الدين المناوي، وأبو عبد الله الزرقاني، وابن حمزة الدمشقي إلى غير ذلك من أعلام المحدثين الذين يقصر المقال عن عدهم وحصرهم.
كما تعرض له كبار المفسرين، فقد ذكره: الطبري، والثعلبي، والواحدي - في أسباب النزول، والقرطبي، وأبو السعود، والفخر الرازي، وابن كثير الشامي، والنيسابوري، وجلال الدين السيوطي، والآلوسي، والبغدادي.
وذكره من المتكلمين طائفة جمة في خاتمة مباحث الإمامة وإن ناقشوا نقضا وإبراما في دلالته كالقاضي أبي بكر الباقلاني في تمهيده، والقاضي عبد الرحمن الإيجي في مواقفه، والسيد الشريف الجرجاني في شرحه، وشمس الدين الأصفهاني في مطالع الأنوار، والتفتازاني في شرح المقاصد، والقوشجي في شرح التجريد إلى غير ذلك من المتكلمين الذين تعرضوا لحديث الغدير وبحثوا حول دلالته ووجه الحجة فيه.
واقعة الغدير ورمز الخلود:
أراد المولى عز وجل أن يبقى حديث الغدير غضا طريا على مر الأجيال لم يكدر صفاء حقيقته الناصعة تطاول الأحقاب، وكر الأزمان، وانصرام الأعوام، ويرجع ذلك إلى أمور ثلاثة:
1 - إن النبي (صلى الله عليه وآله) قد هتف به في مزدحم غفير يربو على عشرات الآلاف عند منصرفه من الحج الأكبر، فنهض بالدعوة والإعلان، وحوله جموع من وجوه الصحابة وأعيان الأمة، وأمر بتبليغ الشاهد الغائب ليكونوا كافة على علم وخبر بما تم إبلاغه.
2 - إن الله سبحانه قد أنزل في تلك المناسبة آيات تلفت نظر القارئ إلى الواقعة عندما يتلوها وإليك الآيات:
أ - " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ " (1).
وقد ذكر نزولها في واقعة الغدير طائفة من المفسرين يربو عددهم على الثلاثين، وقد ذكر العلامة البحاثة المحقق الأميني في كتاب " الغدير " نصوص عبارات هؤلاء، فمن أراد الاطلاع عليها، فليرجع إليه.
ب - " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا " (2).
وقد نقل نزول الآية جماعة منهم يزيدون على ستة عشر.
ج - " سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ " (3).
وقد ذكر أيضا نزول هذه الآية جماعة من المفسرين ينوف على الثلاثين، أضف إلى ذلك أن الشيعة عن بكرة أبيهم متفقون على نزول هذه الآيات الثلاث في شأن هذه الواقعة (4).
(1) المائدة: 67.
(2) المائدة: 3.
(3) المعارج: 1 - 3.
(4) راجع في شأن نزول هذه الآيات كتاب الغدير 1: 214 و 217. (*)
3 - إن الحديث منذ صدوره من منبع الوحي، تسابقت الشعراء والأدباء على نظمه، وإنشاده في أبيات وقصائد امتدت رقعتها منذ عصر انبثاق ذلك النص في تلك المناسبة إلى عصرنا هذا، وبمختلف اللغات والثقافات، وقد تمكن البحاثة المتضلع العلامة الأميني من استقصاء وجمع كل ما نظم باللغة العربية حول تلك الحادثة، والمؤمل والمنتظر من كافة المحققين على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم استنهاض هممهم لجمع ما نظم وأنشد في أدبهم الخاص.
وحصيلة الكلام: قلما نجد حادثة تاريخية حظيت في العالم البشري عامة، وفي التاريخ الإسلامي والأمة الإسلامية خاصة بمثل ما حظيت به واقعة الغدير، وقلما استقطبت اهتمام الفئات المختلفة من المحدثين والمفسرين والكلاميين والفلاسفة والأدباء والكتاب والخطباء وأرباب السير والمؤرخين كما استقطبت هذه الحادثة، وقلما اعتنوا بشئ مثلما اعتنوا بها. هذا ويستفاد من مراجعة التاريخ أن يوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة الحرام كان معروفا بين المسلمين بيوم عيد الغدير، وكانت هذه التسمية تحظى بشهرة كبيرة إلى درجة أن ابن خلكان يقول حول " المستعلي ابن المستنصر ": " فبويع في يوم غدير خم، وهو الثامن عشر من شهر ذي الحجة سنة 487 هـ " (1).
وقال في ترجمة المستنصر بالله، العباسي: " وتوفي ليلة الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة سبع وثمانين وأربعمائة، قلت: وهذه هي ليلة عيد الغدير، أعني ليلة الثامن عشر من شهر ذي الحجة، وهو غدير خم " (2).
وقد عده أبو ريحان البيروني في كتابه " الآثار الباقية مما استعمله أهل الإسلام
(1) وفيات الأعيان 1: 60.
(2) المصدر نفسه. (*)
من الأعياد " (1).
وليس ابن خلكان، وأبو ريحان البيروني، هما الوحيدين اللذين صرحا بكون هذا اليوم هو عيد من الأعياد، بل هذا الثعالبي قد اعتبر هو الآخر ليلة الغدير من الليالي المعروفة بين المسلمين (2).
إن عهد هذا العيد الإسلامي، وجذوره ترجع إلى نفس يوم " الغدير "، لأن النبي (صلى الله عليه وآله) أمر المهاجرين والأنصار، بل أمر زوجاته ونساءه في ذلك اليوم بالدخول على علي (عليه السلام) وتهنئته بهذه الفضيلة الكبرى. يقول زيد بن أرقم: كان أول من صافح النبي (صلى الله عليه وآله) وعليا: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وباقي المهاجرين والأنصار، وباقي الناس (3).
فالحمد لله الذي جعلنا من المتمسكين بولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام).
شذرات من فضائله يطيب لي أن أشير إلى بعض خصائصه قياما ببعض الوظيفة تجاه ما له من الحقوق على الإسلام والمسلمين عامة، فنقول: إن له خصائص لم يشاركه فيها أحد:
1 - ولادته في جوف الكعبة.
2 - احتضان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) له منذ صغره.
3 - سبقه الجميع في الإسلام.
4 - مؤاخاة النبي (صلى الله عليه وآله) له من دون باقي الصحابة.
(1) ترجمة الآثار الباقية: 395، الغدير 1: 267.
(2) ثمار القلوب: 511.
(3) راجع مصدره في الغدير 1: 270. (*)
5 - حمله من قبل النبي (صلى الله عليه وآله) على كتفه لطرح الأصنام الموضوعة في الكعبة.
6 - استمرار ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) من صلبه.
7 - بصاق النبي (صلى الله عليه وآله) في عينيه يوم خيبر، ودعاؤه له بأن لا يصيبه حر ولا قر.
8 - إن حبه إيمان وبغضه نفاق.
9 - إن النبي (صلى الله عليه وآله) باهل النصارى به وبزوجته وأولاده دون سائر الأصحاب.
10 - تبليغه سورة براءة عن النبي (صلى الله عليه وآله).
11 - إن النبي (صلى الله عليه وآله) خصه يوم الغدير بالولاية.
12 - إنه القائل: " سلوني قبل أن تفقدوني ".
13 - إن النبي (صلى الله عليه وآله) خصه بتغسيله وتجهيزه والصلاة عليه.
14 - إن الناس جميعا من أرباب الأديان، وغيرهم ينظرون إليه كأعظم رجل عرفه التاريخ (1).