TODAY - July 26, 2010
المؤرخ والشاعر مير بصري يرحل في لندن وعينه على بغداد التي لم تفارقها روحه
Meer Shlomo Basri (1911-2006)
مير بصري هو أديب وشاعر واقتصادي عراقي ولد ف بغداد عام 1911م وتوفي في لندن عام 2005م ولد مير لعائلة يهودية عراقية اصيلة عرفت باسم عبوديا حيث كان والده شاؤول بصري تاجراً للقماش في بغداد ووالدته من عائلة دنكور التي ينتمي لها أكبر حاخامات يهود العراق. وكان احد شخصياتها (عمه) الذي كان يشغل منصب رئيس المحكمة الشرعية ببغداد عام 1848 درس مير بصري في مدرستي التعاون والأليانس في بغداد، ولازم الأب أنستانس الكرملي والدكتور مصطفى جواد حيث أخذ عنهما اللغة العربية، كما درس تاريخ العراق على عباس العزاوي والعروض على الشاعر محمود الملاح. تخرج بصري من جامعة بغداد حيث درس في مجال الاقتصاد شغل العديد من المناصب في العراق منها منصب رئيس غرفة تجارة بغداد في عام 1943 وقبلها عمل مديراً عاماً في وزارة الخارجية العراقية. ثم أنصرف للآعمال الحرة ولكتابة الأدب والتأريخ وعمل محررا وباحثا في الصحافة العراقية فصدرت له أعمال معروفة منها ديوان شعر بعنوان (الحرية 1928) و(مباحث في الأقتصاد العراقي 1948) و (رجال وظلال 1955) و(رسالة الأديب العربي 1969) و ( أعلام اليقظة الفكرية في العراق الحديث 1983 ) و ( أعلام السياسة في العراق الحديث 1987) و ( أعلام الكرد 1991) و ( أغاني الحب والخلود 1991) و( أعلام الأدب العراقي الحديث في جزئين 1994 ).بقي مير بصري في العراق بعد الهجرة الكبيرة التي قام بها يهود العراق نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات مع ما يقارب العشرة آلاف يهودي آخر حيث رفض فكرة الهجرة إلى إسرائيل وترك العراق. شغل بصري منصب رئيس فخري للطائفة اليهودية في العراق خلال فترة نهاية الستينيات وبداية السبعينيات غادر العراق بشكل نهائي إلى برطانياعام 1974م بعد فترة من المضايقات والسجن والإقامة الجبرية وسلسة من الإعدامات العلنية التي شملت عدداً من اليهود في بغداد وكان بذك آخر رئيس للطائفة اليهودية في العراق.و يجدر بالذكر أنه وقبيل مغادرته للعراق تبرع بمكتبته الشخصية والتي تضم حوالي أربعة آلاف كتاب هدية للمكتبة الوطنية العراقية له العديد من المؤلفات باللغة العربية يبلغ عددها حوالي الأربعين تتراوح ما بين الشعر والاقتصاد والترتاجم والتأريخ بدأ الملك فيصل الأول حكماً ديموقراطياً رائده الحرية والعدالة والمساواة، فنهض العراق نهضة مباركة لعبت فيها الأقليات الدينية والقومية وعلى رأسها الطائفة اليهودية دوراً ايجابياً بناءاً. لكن خلفاءه من السياسيين الذين استولوا على مقاليد الحكم، بسبب صغر سن ملوك وادي الرافدين، قادوا العراق الى هاوية التطرّف واضطهاد الاقليات التي كان لها شأن في حضارة العراق، فبدأوا أول ما بدأوا بسحق الآثوريين عام 1933 واعقب ذلك انقلاب بكر صدقي عام 1936 ثم جاءت حركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941 التي سببت مذبحة "الفرهود" ضد يهود العراق ثم كانت "الوثبة" عام 1948 فحصدت بنادق رجال الشرطة الطلاب المتظاهرين. وتلتها ملاحقة المثقفين والطلاب من الشيوعيين واليسار والقوميين لسحق كل معارض فزُج بهم في السجون وعُلِّقوا على أعواد المشانق. وهكذا فقد العراق خيرة شبابه المثقف. ثم حاربوا الأكراد وشردوهم ولاحقوا اليهود في أواخر الاربعينات بتهمة النشاط الشيوعي والصهيوني واعدموا شفيق عدس عام 1948 انتقاماً لفشلهم في حرب 1948، حتى اضطروهم الى الهجرة الجماعية عام 1950-1951.
في السجن
يقول مير بصري:
في أول يوم من سنة 1969 عدت الى الدار مساءً فوجدت معاون الأمن مخلف منير العاني وجلاوزته يفتشون دارنا غرفة فغرفة. كان الوقت عصيباً: فقد أعلن رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر في خطاب شديد له انه سيمحق التجسس لأميركة وانكلترة ويقضي على العملاء وأذناب الدول الغربية. وقد ألقي القبض على عشرات الرجال والصبيان، من يهود ومسلمين ومسيحيين، بتهمة التجسس وألقوا في غيابات السجون. ..
فرغ معاون الأمن من تفتيش دارنا وأخذ بعض الأوراق وطابعتين عربية وأنكليزية واعتقلني في تلك الليلة في موقف الأمن. وكانت التهمة الموجهة اليّ أن أحدى السيدات الأمريكيات زارتني قبل سنة أو نحو ذلك، فماذا أعطيتها من المعلومات السرية التي يستفيد منها "العدو الأمريكي المتربص بالعراق شراً". قلت أن هذه السيدة تكتب أطروحة عن تأريخ العراق القديم لتقديمها الى بعض الجامعات الأمريكية. وقد جاءت بصورة رسمية واتصلت بوزارة التربية ورجال العلم والأدب للمباحثات في الموضوع الذي تتناوله. ثم أية معلومات سرية عندي عن الجيش أو غيره لاعطائها؟
ونظم أنور شاؤل، الذي عينته قبل سنتين مشاوراً حقوقياً لرئاسة الطائفة الموسوية، أبياتاً من الشعر قال:
إن كنت من موسى قبست عقيدتي فأنا المقيم بـظلّ ديـن محمــّد
وسماحة الأســــــلام كانت مـوئـلي وبلاغة القرآن كانت مــــــوردي
مــا نــال مـن حبي لأمّة أحــــمـــــد كوني على دين الكليم تعـبّدي
سأظل ذيّاك السموأل في الوفــــــا أسعدتُ في بغداد أم لم أسعد
وقدم هذه الأبيات الى المحامي سلمان بيّات الذي أوصلها الى الفريق صالح مهدي عماش نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية عن طريق أخيه سكرتير مجلس الوزراء صلاح الدين بيّات. أستحسن عماش هذه الأبيات، وكان هو نفسه أديباً شاعرا، فحدثه صلاح بيات بامر اعتقالي فاستغربه لأنه لم يكن يعلم عنه شيئاً. وفي الحال كلم مدير الأمن العام حامد العاني تلفونياً وأمره باطلاق سراحي.
صورة عائلية 1912، المؤلف طفل في حجر والده
في دير الآباء الكرمليين: (الجالسون) علي غالب العزاوي، عباس العزاوي، الأب أنستاس ماري الكرملي، الشيخ مقلّد، مير بصري، 1943
في مقابلة للفريق عبد الرحمن عارف رئيس الجمهورية سنة 1966
ويظهرالحاخام الاكبر ساسون خضوري وناجي ﭽﭽك سكرتير الطائفة والمؤلف
الحاخام الياهو يهوشع عوبديا عمّ جدّ المؤلف
الوفد العراقي الى مؤتمر التجارة الدولي 1944
(من اليمين) الجالسون: خضوري شكر، نوري فتاح، حافظ القاضي، عبدالهادي الجلبي
الواقفان: مير بصري، أسكندر أسطيفان
الحاخام الاكبر عزرا روبين دنكور جدّ المؤلف لأمه
صاحب المذكرات مع الوفد العراقي في ميامي بالولايات المتحدة ويظهر حافظ القاضي باللباس العربي
مير بصري في شبابه
المؤلف مع وزير الاعلام شفيق الكمالي سنة 1971، وقد ظهر بينهما سالم الالوسي مدير الثقافة العام
كتاب شكر للمؤلف عن وزير الأعلام بتوقيع
وزير الأعلام محمد سعيد الصحاف
تشييع الحاخام ساسون خضوري 1971
1- مير بصري 2- الحاخام داود حاخام يعقوب 3- صالح بصري مع ممثل الحكومة وبطريك الكلدان
هذا المقال كتبته إنعام كجه جي عند رحيله
«لم أهاجر إلى إسرائيل لأنني كنت أشعر أنني يهودي الدين عراقي الوطن عربي الثقافة»
برحيل مير بصري عن 94 عاما في لندن، تكون ذاكرة عراقية ثرة اخرى قد انطفأت قبل ان تلقي بكل حمولتها من حكايات ودروس للاجيال العراقية الجديدة الباحثة عن قبس في العتمة. فالرجل لم يكن آخر المثقفين اليهود الذين اضطروا الى الانسلاخ عن بغداد، بعد طول عناد، بل قطعة ثمينة من تاريخ البلد، في الشعر والتراجم والاقتصاد والدبلوماسية.
سألته، ذات صيف، وأنا أزوره في بيته الواقع في ضاحية لندنية هادئة، عن سبب بقائه في العراق بعد ان غادره أغلب اليهود في فترة مبكرة من الخمسينات. قال: «لم اهاجر الى اسرائيل مع من هاجر لأنني كنت اشعر انني يهودي الدين عراقي الوطن عربي الثقافة». ثم راح يروي لي، وهو يدفع حرارة الطقس عن وجهه بمروحة من سعف النخيل «مهفَّة» حملها معه من بغداد، كيف ان حكومات ذلك الزمان مهدت للهجرة الجماعية لليهود عام 1950، منذ اعلان قيام اسرائيل، اذ كانت تضايق اليهود وتسجن شبابهم وتطرد موظفيهم من الدوائر وتقطع اجازات الاستيراد عن تجارهم، بحيث صار اغلب افراد الطائفة من العاطلين عن العمل. فلما صدر قانون إسقاط الجنسية عنهم، لم يجدوا بداً من ترك البلد الذي ما عاد يوفر لهم حياة آمنة كريمة.
بقي في العراق، بعد تلك الهجرة الجماعية، حوالي العشرة آلاف يهودي، وكان بينهم مير بصري والشاعر أنور شاؤول والصحافي سليم البصون وعدد آخر من الكتاب الذين شعروا انهم، برغم كل الظروف، ما زالوا في وطنهم.
ثم جاءت حرب حزيران، وهزمت اسرائيل الجيوش العربية واحتلت الضفة الغربية، وانعكس ذلك سلبا على من بقي من اليهود في العراق، حيث فرضت عليهم احكام قاسية وجردوا من حقوقهم المدنية وسجن العديد منهم وخطف آخرون وقتلوا.
يروي مير بصري: «كنت حينذاك رئيسا فخريا للطائفة اليهودية. وقد جرى اعتقالي لمدة شهرين بسبب ما كنت ابذله من جهود للدفاع عن ابناء طائفتي. وكتبت الى احمد حسن البكر والى صدام حسين رسائل اطالب فيها بحقوق المواطنين اليهود الذين بدأوا يهربون من البلد تباعا. وفي الوقت الذي منعت فيه عنهم جوازات السفر، فان اغلبهم فر عن طريق ايران. واستطيع ان اقول انني تمكنت، الى حد ما، بمراجعاتي للمسؤولين ورسائلي الى رئيس الجمهورية، ان اخرج الكثيرين من السجن وتخليص بعضهم من القتل».
كان القنصل البريطاني في بغداد (الذي يباشر عمله لرعاية شؤون الانكليز في العراق من مكتب في السفارة السويدية بسبب قطع العلاقات بين لندن وبغداد اواسط السبعينات) يزور مير بصري في دار الطائفة اليهودية، مرة في الاسبوع، لكي يزوده بالاستمارات المطلوبة للحصول على سمات الدخول الى بريطانيا.
فقد كان اليهود القلائل المتبقون في العراق يخشون مراجعة القنصلية او أي سفارة اجنبية، حالهم حال سائر العراقيين آنذاك. وكان بصري يعطي تلك الاستمارات للراغبين بالسفر، فيملأونها ثم يعيدها الى القنصل.
وفي صيف 1974 استدعت بريطانيا ذلك القنصل وعينت غيره محله. وقبل ان يغادر البلد، ذهب لزيارة مير بصري ومعه القنصل الذي سيخلفه، لكي يعرفه عليه. ولما انتهت الزيارة وقام بصري ليودعهما عند الباب الخارجي، قال له القنصل المغادر: «لقد خدمت طائفتك يا مستر بصري بما فيه الكفاية، وأظن ان الوقت قد حان لتفكر بنفسك وعائلتك».
يقول: «كان معنى كلامه، باللهجة الدارجة: روح وليّ عاد! لكنني كنت أباً لأربع فتيات، عايدة في الكلية التكنولوجية ونورا قد تخرجت من الثانوية والصغيرتان في المدارس، ومن الصعب قطعهن عن دراستهن وتشويش مستقبلهن. لكن لما رأينا ان اكثرية اليهود يرحلون بالتدريج، بدأت البنات بالالحاح عليَّ بالسفر، فتركت بيتي في حي السعدون وأخذت اسرتي وسافرت. وقد صادرت الحكومة بيتي وسيارتي».
غادر مير بصري العراق، مع زوجته السيدة مارسيل هارون مصري، دامعي الأعين. لقد فارق المدينة التي ولد فيها عام 1911 في محلة «تحت التكية»، قرب سوق السراي، وفيها عاش ومات والده تاجر القماش شاؤول بصري، وفيها عاشت وماتت والدته فرحة، ابنة الحاخام الاكبر عزرا دنكور.
سلك الرجل درب الهجرة بعد ان تجاوز الستين، وهو يراجع فصول حياته في الوطن الذي كان جنة لكل ابنائه، قبل ان تتدهور الامور. ففي عام 1937 أوفدته الحكومة، وهو اليهودي، الى فرنسا للاشراف على الجناح العراقي في معرض باريس الدولي، برفقة الدكتور عبد الاله حافظ. ولأنه كان قد درس الاقتصاد في بغداد، فقد انتهز الفرصة وادى الامتحان في احد المعاهد الفرنسية ونال شهادة من هناك.
قبل تلك السفرة، اجتاز مير بصري امتحان الدخول الى وزارة الخارجية، وشغل منصب الامين العام فيها ووكيل مدير التشريفات. ثم اصبح مديرا لغرفة تجارة بغداد، وأصدر مجلة خاصة بها لمدة ثماني سنوات. وفي عام 1944 اوفد عضوا في الوفد العراقي الى مؤتمر التجارة الدولي في نيويورك، برئاسة نوري فتاح، وبقي بعد المؤتمر عدة اشهر في الولايات المتحدة، يلقي المحاضرات عن الاقتصاد والتجارة في العراق.
ولأنه شاعر بالفطرة، سعى للقاء شعراء المهجر، وفي مقدمتهم ايليا أبو ماضي. وفوجئ وهو يرى ذلك الشاعر الكبير يعمل في مطبعته المؤلفة من غرفتين في بروكلين، يساعده عامل واحد يعمل على ماكنة صغيرة محشورة في السرداب. ومن هناك كانت تصدر جريدة «السمير» التي يتلهف لوصولها ادباء العراق.
شكا الشاعر اللبناني لزائره العراقي من ان دواوينه طبعت في النجف، وان قصائده لحنت وغنيت في القاهرة، بدون ان يناله شيء من حقوق المؤلف. وقد اتصل بالسفارة العراقية التي كانت قد افتتحت حديثا في واشنطن، فقيل له ان العراق لم يشترك في الاتفاقية الدولية للحقوق الفكرية.
كتب مير بصري الشعر في مختلف الموضوعات، حتى انه نظم ملحمة حول «الفايكينغ»، وكان يقول لمن يسأله عن سبب اهتمامه بهم: «ان الشاعر غير مسؤول عن وحيه». وفي مطلع شبابه بدأ يكتب «السوناتات» ذات الأبيات المختلفة والقوافي المتنوعة. وقرر ان يترجم مصطلح «سوناته» الى العربية، واستقر رأيه على لفظة «إرنانة»، نسبة الى الرنين، على اعتبار ان اللفظة الفرنسية مشتقة من الصوت. وجمع الأرنانة أرانين، أي سوناتات. أعجبته الكلمة، فراح وعرضها على صديقه مصطفى جواد، العلامة اللغوي، فكتب له انه يستحسنها لأنها تؤدي المعنى المقصود. وبعد ذلك راح يكتب الأرانين وينشرها في جريدة «العراق» لرزوق غنام، التي استقبلتها بحفاوة تليق بها.
نشر مير بصري، ما بين بغداد ولندن، اكثر من اربعين مؤلفا، بالعربية والانكليزية. بينها تراجم لأعلام الأدب العراقي الحديث، ولأعلام السياسة، وأعلام الكرد، وأعلام التركمان. وكتب عن ثورة تموز 1958 في العراق يقول انها كانت ثورة عسكرية وليست شعبية، لأنها قضت على الحياة البرلمانية في العراق وفتحت باب الانتفاضات والانقلابات.
يقول: «لما نشر رياض الريس كتابي عن ثورة تموز، حاول التملص من الآراء الواردة فيه، فكتب على الغلاف الأخير ان مير بصري جاء بآراء حرة وغريبة ونحن ننشرها لتكون موضوعا للمناقشة». ويتوقف قليلا عن الكلام ويروح يحرك المهفة أمام وجهه بسرعة وعصبية، واخيرا يضيف: «مناقشة من؟ مناقشة الطغاة والدكتاتوريين؟».
Wikipedia
مقال كتبته انعام كجه جي
إقرأ ايضاً عن العراقيـــة: لميس إبراهيم من الطب إلى المطبخ