كروان الشرق، فايزة أحمد، وصفها الأديب أنيس منصور بأجمل صوت بعد أم كلثوم، وقال عن صوتها الموسيقار محمد عبد الوهاب إنه مثل “الألماس غير قابل للكسر”، ظهرت في العصر الذهبي للأغنية الطربية، وعرفها الجمهور العربي عامة والمصري خاصة بعد أن قدمت أغنية “أنا قلبي إليك ميال” لمحمد الموجي، واختتمت مشوار عطائها الفني بأغنية “لا يا روح قلبي أنا، مش أنا اللي أحب وانسى” كلمات حسين السيد، وآخر ما لحن رياض السنباطي، الذي توفي قبل أن يكمله، وأتَّمه ابنه أحمد السنباطي، زوج ابنة فايزة أحمد “فريال”. وبين الأغنيتين حياة مليئة بالعطاء والحب والألم والمعاناة.


جاءت إلى مصر في منتصف الخمسينات، وعانت في بداية مشوارها الفني من سخرية الكثيرين منها، بسبب نحافتها الشديدة، حيث كانت لا تتعدى 47 كيلوغراماً، وهو ما عرَّضها لمضايقات كثيرة في هذه الفترة، وكانت تبكي كثيراً بسبب هذه الانتقادات اللاذعة من زملائها ومعارفها، وخاصة أنها شاركت في تمثيل عدد من الأفلام المصرية، الخطوة التي اعتبرتها غير موفقة، لدرجة أنها كانت تكره مشاهدة نفسها في هذه الأفلام، بل وتمزح عند عرض أي من هذه الأفلام التي شاركت فيها وتقول: “دي مش أنا دي واحدة تانية بتشبهني”.
وفي نهاية مشوار حياتها عانت من إصابتها بمرض السرطان، وانفصالها عن رفيق كفاحها الملحن محمد سلطان، الذي نشأت بينهما قصة حب دامت ما يقرب من 17 عاماً، أثمرت العديد من الإبداعات والجواهر الفنية في الأغنية العربية لحناً وغناء، وأنجبا طفليهما التوأم طارق وعمرو، وكانت فايزة تتمنى في نهاية حياتها أن تعيش حتى تراهما أطباء، وربما استطاعا علاجها من مرضها الخبيث كما كانت تأمل، حيث كانا قد التحقا بإحدى كليات الطب في فرنسا قبل وفاتها بأيام قليلة.
الليالي اللي عاشها الحب وياك ملكي وحدي
مهما تبعد مش هتاخد ليلة واحدة من اللي عندي

كان القدر يخطط لفايزة وسلطان اللقاء في منزل الفنان فريد الأطرش. تحكي فايزة في إحدى مقابلاتها الإذاعية أنها سألت فريد عن سلطان، وقالت له هذا الشاب سيكون له مستقبل ناجح، وعليه أن يستغله في أفلامه لوسامته ووجهه السينمائي.
وكانت فايزة في ذلك الوقت مطربة وممثلة معروفة، قدمت أعمالاً ناجحة مثل “يا مّا القمر ع الباب، ست الحبايب، بيت العز، قلبي إليك ميال، تمر حنّة”، وكان سلطان في بداية الطريق الفني. أقدمت المطربة الشابة في ذلك الوقت للحديث مع الشاب الوسيم محمد سلطان، وكان أول حوار بينهما أن سألته “أنت طيار؟”، وقال لها “لأ مش طيار”، لكنها أصرَّت على أنه طيار، حيث كان يلبس بدلة أشبه بملابس الطيارين، مما جعل سلطان يقول لها مازحاً “طيب يا ستي أنا طيار”.

بعد أول لقاء بينهما في بيت فريد الأطرش، تقول فايزة أحمد إنها لم تر سلطان إلا بعد عام عند أحد الصحفيين، الذي قال لها إن سلطان يريد أن يسلّم عليها. وهذه المرة جاءت المبادرة من الممثل الشاب في ذلك الوقت. أما فايزة فقد أحست ناحيته بعطف وحنان، خاصة بعدما قدَّم لها “بطيخ”، ولكنها رفضت أن تأكل، فأصر سلطان على عزومتها وكان يقطعه بيده ويأكلها. تقول فايزة إنها كانت في هذه الفترة مفتقدة للحنان والاهتمام، وتشعر بالوحدة، وقد شعرت تجاهه بحب وعاطفة وطيبة بعد هذا الموقف الرومانسي.

ولم يجمع بينهما القدر منذ ثاني لقاء إلا بعد مرور عام آخر. التقيا عند إحدى صديقات فايزة أحمد، وكان سلطان حينها يعزف على العود، فانبهرت بموهبته، وقالت له إنه ملحن جيد، وكانت تعتقد أنه ممثل فقط، إلا أن سلطان قص عليها حكايته مع الفن، وبداية حبه للتلحين منذ الصغر، وأن التمثيل كان صدفة استغلها حتى يحقق حلمه بالغناء والتلحين، وقد عمل منذ صباه في إذاعة إسكندرية، وقدم ألحاناً لمطربين مغمورين في ذلك الوقت، وجاء إلى القاهرة بعد أن دعاه المخرج يوسف شاهين للاشتراك في فيلم الناصر صلاح الدين.
وبعد التعارف، أرسلت فايزة أحمد إلى صديقتها تطلب اللقاء مع محمد سلطان في بيتها، لتأخذ رأيه في آخر أعمالها، حيث كانت ستذاع لها أغنية من تلحين محمد عبد الوهاب “هان الود”، والتقى الثلاثة في ذلك اليوم، وطلبت فايزة من سلطان العمل معها، والتلحين لها، وكانت بداية انطلاق الملحن الشاب في سماء الإبداع.

دفعت فايزة أحمد ضريبة نجاحها، وشهرتها وسط عمالقة الفن في زمن الفن الجميل، وكانت تُحارَب من بعض الفنانين والفنانات الذي احتكروا الملحنين لأنفسهم. تقول فايزة إنها لجأت لسلطان بعدما شعرت بالمماطلة من الملحنين الذين كانوا يؤخرون عنها الأعمال، بل انفضَّ بعضهم من حولها، ورفضوا التلحين لها.
في أحد لقاءاتها قالت: “بعض المطربين تعمَّدوا أن يشغلوا محمد الموجي بأعمال كي لا يلحن لي لمدة أربع سنوات. أما عبد الوهاب فكل سنتين أو ثلاثة يعطيني لحناً، بعدما كان يعطيني أربعة ألحان في السنة، وبليغ حمدي أول من قدَّمته كملحن، إلا أنه أصبح يتهرب مني، وكأنه تكتّل لقتل صوتي. وشاهدت سلطان يدندن بالعود وأعجبني، فأعطيته الفرصة، وربنا ساعدني عشان ماتحرمش من جمهوري”.

ارتبطت فايزة أحمد مع الجمهور بأغانٍ ناجحة، حيث دخلت كل بيت في الوطن العربي، بعد أن غنَّت للأم والأب والأخ والابنه “ست الحبايب، تعالالي يا با، يا غالي عليّا يا حبيبي يا أخويا، بنتي أمورة” وأُطلق عليها مطربة الأسرة.
كانت فايزة ترى أن هذا النجاح سبَّب لها هذه العداوة والحرب مع الفنانين. تقول في لقاء إذاعي: “كان نفسي الناس كلها تحب بعض، ليه الفنانين داخل الوسط الفني أكثر ناس تكره بعض، ليه المنافسة لا تكون شريفة حتى يقدم الفنان الجديد. لما تقعد في مجتمع فنانين مع بعض تلاقي كل واحد جالس في زاوية، مع أن يوم بدايتي كان الكل يحب بعض، ويغني في حفلة واحدة شادية وصباح ونجاة وعبد الحليم وأنا، بعدها تغير الوضع”.
يقول ابن شقيق الفنانة الراحلة “كنت أستمع إلى المشاكسات التليفونية التي تتلقاها، ليلاً نهاراً. كانت بعض المكالمات بذيئة وكثيرة، وتستفزها للرد عليها بقوة. وصفت بأنها عصبية، لكنها في الحقيقة كانت حساسة ومرهفة بشكل كبير، بسبب ما كانت تتعرض له”.
وعن حساسيتها يقول زوجها الملحن محمد سلطان، إنها كانت تأتيه باكية بحرقة، وتقول له إن بعض الفنانات إذا أردن معايرتها يقلن لها “أنتِ مش مصرية”، حيث ولدت في صيدا بلبنان، وعاشت فترة في سوريا، إلى أن جاءت للقاهرة وذاع صيتها.
علمتني أحب وبس ونسيت تعلمني إزاي أنسى
أنا من النهاردة بحب وبس، مهما جرى مش هعرف أنسى

بعد زواج استمر 17 عاماً، تسللت الغيرة إلى قلب فايزة أحمد، وشعرت أن زوجها لم يعد يهتم بها، وبدأت الخلافات والنكايات والشك، حاول سلطان إقناعها أن كل هذه مجرد أوهام وشائعات تهدف لزعزعة الأسرة، وقرَّر الثنائي الانفصال فنياً وعائلياً عام 1981.
واستغل هذه الفرصة أحد الضباط الوصوليين في التقرب من فايزة أحمد، وتزوجت من الضابط، لترد الصفعة إلى حبيبها، رغم مشاعر الحب التي ظلت تحتفظ له بها.

إلا أن زواجها الجديد لم يستمر طويلاً، حيث وصل الأمر إلى الضرب والإهانة والاستغلال المادي ومحاولة منعها من الغناء. وحين أصرَّت فايزة على الطلاق اشترط عليها مبلغاً من المال في نظير حريتها، مما اضطرها إلى بيع سيارتها وبعض ممتلكاتها لشراء كرامتها، لكنها تعرَّضت لصدمة عصبية وأصيبت بالمرض الذي كان سبباً في وفاتها.
ياما قولتلك يا شوق ننسى العذاب ونتوب
وإزاي نتوب عن شيء فوق الجبين مكتوب

وبدأت مرحلة جديدة من معاناة فايزة أحمد بعد انفصالها عن سلطان والزواج الفاشل، وإصابتها بمرض السرطان. وكأن ما كانت تبنيه في سنوات طويلة ينهار أمام عينيها. كانت لآخر لحظة في عمرها تعتقد أنها ستنتصر على المرض وتهزمه.

وكانت لها ابنة من زوج سابق تعيش في أميركا في هذه الفترة، ألحَّت عليها ابنتها فريال بالقدوم إلى أميركا لإجراء فحوصات، إلا أنه بعد إجراء الكشف والتحاليل قال الطبيب لابنتها إن المرض انتشر في جسد فايزة، وإنها لن تعيش أكثر من عام، وطلب منها مغادرة المستشفى والعودة إلى مصر. أخفت عنها ابنتها حالتها الصحية، وأكدت لها أنها لن تجري العملية، لأن ما تعاني منه مجرد روماتيزم، وهو ما يسبب لها كل هذا الألم.
رجعت فايزة أحمد إلى مصر، وحذَّرها الأطباء من المجهود والحركة والغناء، ومع ذلك أصرَّت على تسجيل أغنية “لا يا روح قلبي”، ودخلت الاستوديو لأول مرة لتسجيل أغنية وهي جالسة على كرسي وغير قادرة على الوقوف. يحكي المنتج محسن جابر أنه في هذه الفترة كانت فايزة أحمد تدخل في نوبات غيبوبة قصيرة أثناء التسجيل ثم تفيق وتحاول الغناء. وكان يضع لها وسادة خلف ظهرها كي تستند عليها. وغنت فايزة آخر أغانيها -التي لم يسعفها القدر لغنائها على مسرح أمام جمهور- غنتها بكل ما فيها من إحساس ورقة وعذوبة صوت، رغم الألم والمعاناة من المرض، فكانت تشعر أنها خاتمة أغانيها وحياتها الفنية، بعدما علمت مدى خطورة حالتها الصحية. وطلبت من سلطان أن يردها مرة أخرى. وفي أيامها الأخيرة كان سلطان مسافراً مع أولادهما في فرنسا، حيث كان من المقرر أن يبدأ الشابان الدراسة في كلية الطب.


ولما تأكدت من قرب أجلها اتصلت فايزة أحمد بسلطان، وترجَّته أن يعود إلى مصر، وقال لها سأعود يوم الأربعاء بعد الاطمئنان على ابنينا، لكنها أصرَّت على عودته سريعاً، وقالت له: “ربما لا أعيش ليوم الأربعاء.. تعالى حالاً”.
رجع سلطان إلى حضن زوجته مرة أخرى، لكنها كانت في ساعاتها الأخيرة، حيث ساءت حالتها، واضطر لنقلها لمستشفى المعادي. وقبل وفاتها بيوم واحد وهي ترقد بالمستشفى طلبت من زوجها أن يسندها، وقالت له أريد أن أغني واطمئن على صوتي. وغنت له مقطعاً من آخر ما لحن لها قبل الانفصال “أيوة تعبني هواك”، وبعد أن وصلت إلى جملة “أيوة تعبت.. تعبت.. تعبت” أخذت تبكي، ثم دخلت في غيبوبة انتقلت بعدها إلى غرفة العناية المركزة، ورحلت بعد المعاناة والمرض صباح يوم الأربعاء، 21 سبتمبر/أيلول 1983، وهي لم تتجاوز 53 سنة.
كانت فايزة أحمد مؤمنة بالله، وتقدَّمت للإذاعة المصرية لتسجيل القرآن الكريم بصوتها، وكانت دائماً ما تذكر الله في بيتها، حيث كانت إذا أرادت أن تمرِّن صوتها تردد كلمة “الله”، كما تشير في إحدى المقابلات الإذاعية.
لخصت فايزة أحمد حياتها في هذه الجملة، التي قالتها أثناء اللقاء: “الإنسان مابيرتحش لغاية ما ينتهي من الحياة، أصل الحياة صراع لحد ما يموت الإنسان وهذه سنّة الله، لأن الحياة إذا استمرت زي ما هي ماتبقاش جميلة لازم يكون في ورد وشوك”.