مع ساعات الفجر الأولى تسافر، معظم النساء العراقيات خاصة الأرامل والأمهات الفاقدات أبناء في حروب العراق، نحو المقابر للنواح والبكاء ومعايدة الموتى قبل البدء بمراسيم العيد في المنازل.
يحرص العراقيون لاسيما الأمهات والأرامل على زيارة المقابر في العيد، استذكارًا للقتلى، إذ يعدها الناس واجبًا دينيًّا واجتماعيًّا، وصِلة رحم بين الناس حيث يلتقي الناس هناك يواسون بعضهم بعضًا ويترحمون على الراقدين تحت التراب.
ويقول مقرىء القرآن علي الياسري الذي اعتاد على تلاوة آيات من الذكر الحكيم على أرواح الموتى مقابل مبالغ رمزية يهديها له زائرو المقابر، إن الأمهات والأرامل يحتللن المرتبة الأولى في الحرص على الزيارة المنتظمة لمقابر ذويهن. ويتابع: زيارة القبور مشروعة في كل وقت لأخذ العبرة والدعاء للأموات.
ويلاحظ الزائر للمدن التي توجد فيها المراقد المقدسة في العراق مثل مدينتي كربلاء والنجف (جنوب وسط العراق)، ازدحامًا لافتًا للنظر في أيام العيد حيث يتوافد الآلاف لزيارة المراقد الدينية إلى جانب زيارة القبور.
البخور والشموع
وفي مقبرة السلام في النجف، يسمع الزائر زفرات الحسرات والأنين وروائح البخور والشموع المحترقة تختلط مع حرارة الرمال التي يزيدها ارتفاع درجات الحرارة في صيف لاهب لم يمنع الأمهات من زيارة المقابر.
وغالبًا ما تستمر زيارة المقابر لساعات طويلة يتبادل خلالها الزوار الأحاديث ويهدي بعضهم بعضًا، الشراب والفاكهة و الطعام. واصطحبت أم علي ( 65 سنة ) اثنين من الفتيان، هما ولدا ابنها الراقد في مقبرة السلام في النجف.
وحملت أم علي الشموع والماء لكي ترش به القبر، وشرعت تبكي بألم بينما يرتل مقرىء القرآن واقفًا، في حين ينتظر الفتيان حول القبر والدموع تملأ عيونهما من غير أن تنزل بغزارة. وفقدت أم علي ابنها الوحيد في بداية عام 2003 بإطلاق رصاص أصابه في صدره في مدينة الديوانية (193 كلم جنوبي بغداد).
ولا تتعجل أم علي ترك القبر، لكن إلحاح الفتيين بالكف عن البكاء وضرورة الرحيل لأن الوقت أصبح متأخرًا جعلها تشرع في لملمة أغراضها استعدادًا للعودة. وتزور أم علي قبر ابنها بصورة منتظمة كل شهر أو شهرين، أما في الأعياد فإن الأمر لا يقبل التأجيل ولا يمنعها عن ذلك أقوى الأسباب.
طاعنات في السن
ويشير الفتى حسين كريم الذي يبيع في عربة متنقلة أعواد البخور والروائح والكتب الدينية ونشرات الأدعية بين شواخص القبور، إلى أن مقبرة السلام تمتلئ بالزوار لاسيما النساء طيلة النهار وحتى يسدل الليل على المقبرة.
ويضيف: ثمة نساء طاعنات في السن لا يقوين على المشي لكنهن يصررن على زيارة مقابر ذويهن. و ساعد كريم امرأة عجوزًا تبحث عن قبر ابنها طيلة النهار لكن الفشل كان ينتظرهما. وتمثل المقابر في العراق خصوصية لدى كل فرد عراقي لأنها ترتبط بمرحلة مأساويّة من تاريخ العراق حيث قتل نحو مليون عراقي خلال الحرب العراقية الإيرانية (1980 – 1988 )، إضافة إلى أن آلاف الناس كانوا ضحايا الحرب الطائفية وأعمال الإرهاب والتفجيرات بعد عام 2003.
وتعد مقبرة النجف التي يعود ظهورها إلى خمسة آلاف عام أكبر مقبرة إسلامية حيث تقدر مساحتها بأكثر من عشرة كيلومترات مربعة، وأخذت بالاتساع مع ارتفاع عدد ضحايا الحروب المتكررة التي شنها النظام العراقي السابق وما تلاها من أعمال عنف.
ويقول المدرس كريم حسين الذي يزور قبر أخيه الذي استشهد خلال الحرب العراقية الإيرانية، إن كل قبر يروي أحداثًا سياسية وأمنية. ويضيف: أحرص في العيد على زيارة مقبرة السلام لأنها توقظ السلام الداخلي الذي أحتاجه، كما تذكرني الزيارة بأيام عصيبة مر بها الناس. وفي جانب آخر من المقبرة ثمة نساء يوزعن الحلوى والمعجنات، كما تنتصب على بعض شواهد القبور الشموع وأواني البخور وماء الورد.
ويقول أحمد حسين الذي يعمل دفانًا ودليلًا في المقبرة إن العراقيين يفضلون الدفن حيث توجد قبور ذويهم ولهذا تحولت المقبرة إلى مجاميع مقسمة على أسس عائلية أو عشائرية. وأتاح هذا الترتيب – بحسب حسين – للزائر العثور على شاهد القبر الذي يقصده.
أم أحمد تزور في أول أيام العيد ابنها الراقد في مقبرة السلام حيث تقول إنها اعتادت على ذلك، كما تقصد أم أحمد أيضًا المراقد المقدسة في النجف حيث تقضي ليلتين ثم تعود إلى بغداد. وفارق ابنها ميثم الحياة في انفجار في مدينة الصدر في بغداد عام 2005. ومنذ ذلك الوقت فإنها تزوره بصورة منتظمة، ولم تنقطع طيلة هذه الفترة عن الزيارة.
وإلى جانب العراقيين، فإن زوارًا من الأقطار العربية والإسلامية يقصدون مقبرة السلام والمراقد الدينية في أيام الأعياد بشكل خاص.
ويزور علي حسن من البحرين قبر والده المدفون في النجف منذ ثلاثة عقود، حيث يقول إنه انقطع طيلة عقدين عن زيارة المقبرة بسبب الظروف الاستثنائية التي مر بها العراق.
ويدهش حسن من التغيير العمراني في المدينة التي اتسعت بشكل ملفت، وفي الوقت نفسه ينتقد الازدحام المروري على الطرقات وسوء التنظيم في الطرق التي تؤدي إلى المقبرة. وعلى جانبي الطرق المؤدية إلى المقبرة يقف بائعون في لهيب الشمس الحارق يبيعون قناني الماء والبخور والشموع والأكلات السريعة حيث يوفر لهم تدفق الزائرين دخلًا جيدًا طيلة أيام العيد.
وتعد زيارة الموتى في الأعياد تقليدًا وطقسًا دينيًّا بين أغلب العراقيين. وتعتقد أم سلمان التي تنوي زيارة قبر ابنها في العيد أن الميت ينظر إلى أهله ويتمنى زيارتهم له. وتؤكد أم سلمان أنها تقاعست عن زيارة ابنها في أحد الأعوام، حتى رأت خياله في النوم بشكل رؤيا وهو يعتب عليها لعدم زيارته.
ويحدث ذات الأمر في كل الأماكن التي تضم مقابر الموتى. ففي مدينة كربلاء(108 كم جنوب غرب العاصمة بغداد)، يزور مئات الناس مقبرة الوادي القديم والوادي الجديد. كما يزور أهالي مدينة الأعظمية في بغداد موتاهم في مقبرة المدينة أيضًا.