حين تأبطه شرطيان من ذراعيه وتقدم شرطيان آخران شرعا يلبسانه القميص الأبيض التفت سعيد واستدار برأسه إلي وقال:
أمانة يا أستاذ تكتب قصتي ليتعظ منها كل من لا يخاف الله .....
......
.......
........
القصة :
في مكتب مدير السجن التفت المحامي العام بالسؤال إلى سيادة العقيد إن كان بقي احد ممن يفترض وجوده أجاب العقيد على الفور: كلا سيدي ها نحن كلنا أصبحنا موجودين.
- إذن احضروا لنا المحكوم عليه لنباشر الإجراءات ...!!
في ظل هذا الجو المهيب دقائق شعرنا بها دهرا من الوقت إلى أن سمعت وقع أقدام عدد من الرجال عرفت أن عناصر المفرزة أحضرت الرجل المحكوم بالإعدام.
دخل رجل مهيب طويل عريض المنكبين متقدم في السن ذو شارب كث مفتول يداه إلى وراء ظهره مكبلتان بالقيد.
أمر المحامي العام بفك القيد وبسرعة تحررت بدا الرجل وراح يحرك معصميه بارتياح ثم دعاه إلى الجلوس ..واخرج القرار القضائي وبدأ يتلو مضمونه ..!
قاطعه الرجل على الفور وبأعصاب باردة تثير الأعصاب:
يكفي لا داعي أن تكمل .. فانا اعرف كل شيء تفضلوا ، ها أنا أمامكم ..
وأشار إلى رقبته وكأنه يريد أن يقول ضعوا حبل المشنقة وانتهوا..
أجابه المحامي العام بصوت خفيض :اعذرنا ليس في اليد حيلة يا رجل ولكنها مشيئة الله.
- اعرف الحمد لله الذي سيميتني على دين الإسلام.
من حقك أن تطلب منا ما هو في استطاعتنا قبل أن يلقنك فضيلة الشيخ الشهادتين..!!
وقف سعيد ثم تقدم بخطوة إلى الأمام وبلهجة حزينة ولكنها مشبعة بالثقة والصدق لم اسمع مثيلا لها في حياتي:
لن أتوسل إلى احد منكم ولن استرحم احد منكم فزمن التوسل والاسترحام قد فات وأنا اعرف انه بيني وبين لقاء ربي دقائق فلتكن دقائق صدق.
أقول لكم أني بريء... بريء من هذا الجرم الذي حكمتم به علي بالإعدام فانا لم اقتل "فلان" حين دخلت داره وجدته مقتولا يتخبط بدمائه وتضافرت الأدلة ضدي وأنا وعلى خمسة عشر عاما وحتى الآن اصرخ إني بريء ولم يصدقني احد.
هل تعرفون لماذا ..!؟
لأني استحق الإعدام فعلا نعم استحقه..!!
نطق سعيد كلمة نعم استحق بقوة وثبات وصوت يحمل كل معاني الصدق كلمة الصدق لا تخفي نفسها ساد الغرفة صمت رهيب والكل يحملق في وجه سعيد ماذا سيقول أيضا ..!!!!؟
سأحكي لكم لماذا استحق الإعدام..!؟
- في نهاية عام 1945 حين كانت القوات الفرنسية تقاتل بعضها على الأرض السورية قسم منها يتبع إلى الجنرال ديغول والآخر يتبع للمارشال بيتان الموالي لقوات المحور ألمانيا وكنت وقتها شابا يافعا في حدود الثامنة عشرة التحقت بسلك الدرك حديثا وكان تعينني في مخفر على تخوم البادية.
ذات ليلة كنت مناوبا وحيدا في المخفر وقفت سيارة جيب فرنسية نزل منها ضابط برتبة ملازم أول وانزل معه بدويا مكبلا وسألني إن كان سواي في المخفر.
فأجبت بالنفي ..
فطلب مني أن استبقي هذا البدوي في المخفر أمانة عندي لأنه محكوم عليه بالإعدام وسيعود بعد أن ينتهي من مطاردة الجاسوس الأخير ثم ركب سيارته واقلع بها ينهب الأرض بلا وعي..
المخفر لم تكن فيه وقتئذ سوى غرفة واحدة هي مكتب رئيس المخفر بل هي المخفر كله ثم إسطبل للخيل اقتدت هذا البدوي وأودعته الإسطبل وأحكمت عليه إغلاق الباب بالمفتاح..
في صباح اليوم الثاني أول ما قمت به فتحت باب الإسطبل لأتفقد البدوي الموقوف دخلت بخطى حذرة فلا صوت ولا حركة سوى صهيل حصاني تفحصت الإسطبل جيدا فإذا بي ألحظ دخول حزمة ضوء خافتة من فتحة حديثة في طرف الجدار تقدمت فتأكدت من أنني أرى كارثة ...السجين قد هرب....
ماذا افعل ..!؟ والضابط الفرنسي سيعود بين لحظة وأخرى ماذا أقول له والدنيا فوضى والجيش الفرنسي يعيث فسادا في البلاد دون حسيب أو رقيب قطعت هذا السؤال المرعب وأمسكت بالبارودة ووقفت أمام المخفر أترقب المجهول ...!!!
في تلك اللحظة ساق القدر أمامي بدويا يركب جملا يهيم وحيدا في متاهات هذه البادية فركت عيني حذرا من أن يكون ما أراه حلما ناديته فاقترب دعوته فنزل ...
عندها استضفته بالترحاب وقدته إلى الإسطبل وهو لا يعلم من أمر ما يبت له شيئا.
لم يطل الأمر كثيرا وإذ بالسيارة العسكرية تمخر من بعيد عباب رمال البادية وتحط رحالها أمام باب المخفر وفيها جنديان والضابط نفسه نزل الضابط الفرنسي بسرعة وسألني بنزق شديد عن الجاسوس السجين ..!!؟
هرعت فورا وبسرعة فائقة وأحضرت له البدوي البديل وقدمته للضابط الذي امسكه من شعره وجره وراء واركبه معه بالسيارة ..
دون أن يصغي إلى كلامه واستفساره ...
وانطلقت السيارة بنفس السرعة التي جاءت بها وملأت وراءها الدنيا غبارا وعفارا ..
وقفت أشيع السيارة بنظرة أخيرة...!!
ما هي إلا لحظة حتى توقفت على بضع مئات من الأمتار ونزل منها البدوي ثم سمعت طلقات نارية ترديه...
حين انتهى سعيد من سرد ما جرى معه ...
كانت الدموع تسيل على خديه هادئة صامتة وحزينة ...
تقدم من الشيخ ووقف قبالته تماما وهو ينطق الشهادتين أمام ذهول الحاضرين.
.....
وها إني أوفيت العهد والوعد وكتبت القصة ولو بعد حين ...
فهل يرتدع من يظلم ولا يخاف الله ...!!؟؟
من ملفات حكم العدالة للمحامي الأستاذ "هائل منيب اليوسفي "