الحكم العثماني لجزيرة كريت
بعدما سقطت جزيرة كريت في أيدي البيزنطيين، ساد الاضطهاد الديني للمسلمين بالجزيرة، وفي القرن السابع الهجري اشترت جمهورية البندقية جزيرة كريت، وحكم البنادقة الجزيرة حكمًا استبداديًّا، وحاولوا نشر المذهب الكاثوليكي بين سكان الجزيرة، وكان أهلها يعتنقون المذهب الأرثوذكسي، فهاجر الكثير من أهل الجزيرة إلى البلاد الإسلامية واعتنق الكثير منهم الإسلام.
لقد فُتحت جزيرة كريت في عهد السلطان إبراهيم خان الأول؛ حين استنجد أهل الجزيرة بالأتراك العثمانيين لتخليصهم من حكم البنادقة، فتوجهت لها قوَّةٌ عثمانيَّة، وألقت مراسيها أمام مدينة خانيه أو كانيه أهم ثغور الجزيرة في 29 ربيع الآخر سنة (1055هـ=24 يونيه سنة 1645م)، وتمَّ افتتاحها دون حربٍ تقريبًا لعدم وصول الدونانمة البندقية إليها في الوقت المناسب، فانتقم البنادقة بحرق ثغور بتراس وكورون ومودون من بلاد الموره، وفي سنة 1646م فتح أغلب الجزيرة، وفي السنة التالية وضع الحصار أمام مدينة (كنديا) عاصمة الجزيرة، ولكن حال دون إتمامه وفتح المدينة عصيان الجنود في الأستانة العاصمة العثمانية[1].
وساندت فرنسا البنادقة في استرداد جزيرة كريت ورفع الحصار عن كانديا من قِبَلِ العثمانيين، فسار الصدر سنة 1667م بنفسه لتتميم فتح المدينة الحصينة التي كادت تُعيي الدولة العثمانية، واستمرَّ الحصار والقتال مدَّة أكثر من سنتين لإمداد فرنسا لها بالمال والرجال والسفن الحربية، وأخيرًا اضطرَّت الحامية إلى التسليم، فسلَّمها قائدها موروزيني في 29 ربيع الثاني سنة (1080م=26 سبتمبر سنة 1669م)[2].
ولمـَّا تولى منصب الصدارة علي باشا داماد عام (1125هـ=1713م) كان ميَّالًا للحرب، فأعلن الحرب على جمهورية البندقية، وفي قليلٍ من الزمن استردَّ البحيث والمدن التي كانت باقية للبنادقة بجزيرة كريت[3].
ولمـَّا رأى السلطان محمود ما ألمَّ بجيوشه في هذه الحروب المستمرَّة والمناوشات الغير منقطعة وثبات اليونانيين أمام الجيوش العثمانية واعتصامهم بالجبال، أحال أمر محاربة اليونانيين لمحمد علي باشا والي مصر، فصدر فرمانًا بتاريخ (5 رجب سنة 1239ه=6 مارس سنة 1824م) بتعيين محمد علي باشًا واليًا على جزيرة كريت وإقليم مورة وهما بؤرتا الثورة اليونانية.
فأعدَّ محمد علي باشا جيشًا من المصريين بقيادة ابنه إبراهيم باشا في (19 ذي القعدة 1239هـ=16 يوليو سنة 1824م)، ففتح مدينة ناورين بعد حصار شديد وبعدها فتح مدينة كلاماتا وتلاها بمدينة تريبولتسا، كما فُتحت مدينة آتينا، وبينما يستعدُّ إبراهيم باشا لفتح ما بقي من بلاد اليونان في أيدي الثائرين؛ إذ تدخلت الدول الأوربيَّة بين الباب العالي ومتبوعيه بحجة حماية اليونانيين في الظاهر ولفتح المسألة الشرقية وتقسيم أملاك الدولة العثمانية بينهم في الباطن[4].
ولكن السلطان العثماني رفض تدخلهم لفصل اليونان، فدخلت قوات فرنسا وإنجلترا وروسيا خليج نفارين حيث الأسطول المصري العثماني (عام 1827م) وكان ذلك مقدمة للحرب الروسية العثمانية المقبلة، وقد قُتل ما يزيد على ثلاثين ألف مصري في تلك الحملة، ودُمِّرت السفن العثمانية في عدَّة ساعات، على إثرها قطعت العلاقات بين الباب العالي والدول الأوربية، وأصدر السلطان منشورًا عامًّا بيَّن فيه نيَّات الدول الأوربية تجاه المسلمين خاصَّةً روسيا، وقد أوضح أنَّ الباعث لذلك العدوان هو الدين وليس السياسية، وحضَّ المسلمين على القتال دفاعًا عن الدين، فاغتاظ الروس، وأعلنوا الحرب على الدولة العثمانية في (11 شوال عام 1243هـ=26 إبريل 1828م).
فأمر محمد علي ابنه بإخلاء المورة والرجوع لمصر؛ فقد دخلها الفرنسيون، ثم عُقد مؤتمر لندن في (8 جمادى الأولى عام 1244هـ=الأحد 16 نوفمبر 1828م) بين الدول الثلاث بشأن اليونان، واتفقوا على استقلال المورة وغيرها، وتعيين حاكم نصراني عليها، ولكن الدولة العثمانية رفضت، وكانت تستعد لحرب الروس[5].
وفي عام (1294هـ=1877م) قامت ثورة سكان كريت المسيحيين، واستغلوا الأخطار التي تزاحمت على السلطان عبد الحميد الثاني إبَّان الحرب العثمانية الروسية التي نشبت تلك السنة، وقد طالب الثوار بإدخال تعديلات على(اللائحة الأساسية) Organic Statute الصادرة في عام 1868م، وذلك بمنحهم المزيد من الامتيازات، ولمـَّا رفض السلطان عبد الحميد الاستجابة إلى مطالبهم، عقد زعماء الثوار اجتماعًا في أثينا وقرَّروا تحريك ثورةٍ ضدَّ الدولة العثمانية، وهبط المتطوِّعون اليونانيون الجزيرة، وشكل زعماء الثورة جمعية باسم "الجمعية العامة للكريتتين" طالبت بمنح الجزيرة حكمًا ذاتيًّا كاملًا، وأن تحكم الجزيرة هيئة تنفيذية يرأسها حاكمٌ ينتخبه الأهالي، وأن تكون الرابطة بين الدولة العثمانية والجزيرة مقصورة على جزية سنوية حُدِّدت بنصف مليون قرش، وأن تضمن الدول الأوربية الكبرى هذا الوضع السياسي الجديد للجزيرة.
ولمـَّا أبطأ عليهم السلطان عبد الحميد أعلنوا قطع العلاقات مع الدولة العثمانية وإعلان الحرب عليها، وتصاعدت موجة الحركة الهيلينية -وهي تهدف إلى ضمِّ جميع الأقاليم التي يسكنها يونانيين إلى المملكة اليونانية باعتبارها المملكة الأم- وكان يحلو لرجال الحركة الهيلينية أن يُطلقوا على جزيرة كريت "الجزيرة اليونانية الكبرى"، وكان بعضهم من أنصار ضمِّها إلى المملكة الأم، بينما كان البعض الآخر من أنصار اتحادها، وكانوا على استعدادٍ دائمًا لمساعدة الجزيرة حربيًّا؛ بل ومحاربة الدولة العثمانية في تحقيق هدفهم.
وقد أعلنت الحكومة اليونانية أنَّ المستقبل السياسي لجزيرة كريت يهمُّها أكثر من أيِّ دولةٍ أخرى، ومع ذلك لم يمضِ وقتٌ طويلٌ على نشوب الثورة حتى أُعلنت الهدنة لسببين؛ أوَّلهما: أنَّ الدولة العثمانية كانت قد سحبت أجزاءً من قوَّاتها من الجزيرة ووجَّهتها لمحاربة الجيوش الروسية، وثانيهما: أنَّ الثوار كانت تعوزهم الذخائر والأسلحة والأطعمة.
ولكن لمـَّا أرسل السلطان تعزيزات عسكرية إلى الجزيرة من جديدٍ ضدَّ الثوار وبدأت كفة العثمانيين ترجح كفة الثوار، تدخَّلت الحكومة البريطانية نيابةً عن مسيحيي الجزيرة لدى الباب العالي الذي وعد بأنَّه "سيعمل بالاتفاق مع الحكومة البريطانية على إدخال ترتيبات لنوعٍ جديدٍ من الحكومة في الجزيرة طبقًا للمطالب الشرعية واحتياجات الجزيرة". وشكلت حكومة مؤقتًا تتكون من سبعة أعضاء وافقت في اليوم السادس والعشرين من شهر مايو عام (1877م=1294هـ) على قبول الوساطة البريطانية، وإبرام هدنة على أساس القاعدة المعمول بها في بعض الأحوال، التي يُطلق عليها القانون الدولي العام Uti possidetis، وبذلك عاد السلام مؤقتًا إلى جزيرة كريت، ولكن سرعان ما تجدَّد نشوب الثورات تباعًا في السنوات المتبقية من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بتحريضٍ من مملكة اليونان والدول الأوربية الكبرى عسكريًّا، وكان من بين هذه الدول روسيا والنمسا والمجر وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا، لتصعيد الأزمات والأخطار في وجه السلطان عبد الحميد[6].
زوال الحكم الإسلامي من الجزيرة
واستمرَّ الصراع العثماني الأوربي حتى سنة (1316هـ= 1898م) عندما (دوِّلت) كريت؛ ومُنِحت بعد ذلك لليونان في سنة (1332هـ=1913م)، ونتيجةً للاضطهاد الديني هاجر حوالي 450 ألف مسلمٍ من جزيرة كريت؛ حيث قُلِّص التعليم الديني إلى ساعتين في الأسبوع، ولم يُسمح للمسلمين بناء مدارس جديدة لتعليم أبنائهم، وحرم عليهم بناء أو إصلاح المساجد، ولقد خلَّف المسلمون وراءهم العديد من المساجد والمدارس الدينية، ومن أبرز ٍمساجد كريت مسجد السلطان إبراهيم في مدينة الخندق عاصمة الجزيرة وقد حُوِّل المسجد إلى كنيسة (سانت نيكولاس)[7].
وعن الحكم العثماني قال السير توماس أرنولد في كتابه الدعوة إلى الإسلام: "إنَّ المعاملة التي أظهرها الأباطرة العثمانيون للرعايا المسلمين... على الأقل بعد أن غزوا بلاد اليونان بقرنين لتدلَّ على تسامحٍ لم يكن مثله حتى ذلك الوقت معروفًا في أوربا، وإنَّ أصحاب (كالفن) في المجر وترانسلفانيا طالما آثروا الخضوع للأتراك على الوقوع في أيدي أسرة هابسبورغ المتعصبة، ونظر البروتستانت إلى تركيا بعين الرغبة...، كذلك نرى القوزق الذين ينتمون إلى فرقة المؤمنين القدماء الذين اضطهدتهم كنيسة الدولة الروسية قد وجدوا من التسامح في ممالك السلطان ما أنكره عليهم إخوانهم في المسيحية..."[8].
خير ختام قول الحق جلَّ وعلا:
قال الله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران: 13].
وقال الله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 140].
المصدر: موقع التاريخ - إشراف الدكتور محمد موسي الشريف.
[1] محمد فريد بك المحامي: تاريخ الدولة العلية العثمانية ص287.
[2] محمد فريد بك المحامي: تاريخ الدولة العلية العثمانية ص298.
[3] محمد فريد بك المحامي: تاريخ الدولة العلية العثمانية ص315.
[4] محمد فريد بك المحامي: تاريخ الدولة العلية العثمانية ص413-416.
[5] علي حسون: تاريخ الدولة العثمانية ص134.
[6] عبد العزيز محمد الشناوي: الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها، 2/1084-1086.
[7] سيد عبد المجيد بكر: الأقليات المسلمة في أوربا ص81، ومحمود شاكر: العالم الإسلامي ص307.
[8] علي حسون: تاريخ الدولة العثمانية ص71.
قصة الإسلام