بناء بغداد بالشكل الدائري .. الوجود والدائرة المقدسة
عن تأسيس بغداد واختيار الشكل الدائري لها ، افرد الدكتور زهير هواري الفصل الثاني من كتابه تأسيس بغداد .. الفلسفة في رموز ، وهو احد منشورات وزارة الثقافة لمناسبة بغداد عاصمة الثقافة العربية ، طباعة دارميزوبوتاميا ، ويقع الكتاب في 296 صفحة من الحجم الكبير .
وقد أطلعنا على اسباب اعتماد هذا الشكل بدلا عن الاشكال الاخرى بين الصفحتين 223 و 247 ، فخرجنا بالحصيلة الآتية التي نضعها أمام قرائنا الكرام . ولمن يود الإطلاع على الفصل كاملاً العودة الى الكتاب المذكور والمحفوظ في خزائن دار الكتب الوثائق الوطنية التي يصدر عنها موقع ذاكرة بغداد الذي ننشر فيه هذا الموضوع :
يتناول الكاتب في هذا الفصل الذي يحمل عنوان : الوجود والدائرة المقدسة ، الاسبابالتي حدت بأبي جعفر المنصور الى اعتماد الشكل الدائري لبناء مدينة بغداد بدلا منالاشكال التي كانت سائدة آنذاك لاسيما المستطيل والمربع الشطرنجي الذي أعادالرومان احياءه مع بعض التطويرات اللازمة .
كما يستعرض الكاتب جملة من آراء المؤرخين والكتاب التي تبين الدوافع وراء بنائها بشكل دائري مسلطا ضوء ملاحظاته عليها ليكشف عنرؤية تحليلية متكاملة حول الاسباب الحقيقية وراء بناء بغداد بهذا الشكل .
ينطلق بحث الكاتب من المرجعية التي استند اليها في بناء بغداد لاسيما أن شكل المدينة وما
يرتبط بها من اساور وبوابات ومحاور هو في المحصلة الاخيرة يعبر عن فكرة ما .مؤكدا ان هذه الفكرة المجهولة حتى الآن ، لا تقتصر على ابراز الدلالات الاجتماعية تبعا لاختلاف مواقع الاحياء والمباني العامة والمركزية او لا مركزية ، بل تتعدى ذلك كله لترتبط بما هو اسمى وأعلى الا وهي (السماء) ، باعتبار ان كل مدينة وان كانت تستجيب لوظائف محدودة الا انها مرتبطة بفكرة فلسفية عن الكون والوجود والعوالم العليا والسفلى , على الاقل في ذلك الوقت , لذا مايبدو هندسيا لايعبر فقط عن وظائفيةمحددة بمقدار مايعبر عن فكرة تقبع وراء هذا التخطيط .
وثمة قضية مهمة لاتقل أهمية عن الاولى وهي المسافة او المدة التي قطعها المشروع بين كونه فكرة وتحوله واقعا على الارض ، الامرالذي يتناول شخصية ابو جعفر المنصور الذي يترجم القول والكلمة الى فعل على الواقع .
تتوزع بين صفحات هذا الفصل الاتجاهات والآراء التي استقر عليها المؤرخون من القدامى والمحدثين , بدءًا برأي (الجاحظ) الذي يكتفي بما يشبه التوصيف للشكل الدائري من خلال قوله ، ( قد رأيت المدن العظام والمذكورة بالاتقان والاحكام ، لم أرَ مدينة قط ارفع سمكا ولا اجود استدارة ولا انبل ولا اوسع ابوابا ولا اجود فصيلا من الزوراء وهي مدينة ابي جعفر المنصور كأنما صبت في قالب وكأنما افرغت افراغا ).
ووفقا لتحليل الكاتب فإن الجاحظ ينطلق من مقارنة بغداد بالمدن العظام في "بلاد الشام والروم" ليقرر موقفه من تمايز لمصلحة الاولى على صعيد السور والاستدارة والنبل واتساع الابواب حتى لكانت المدينة صبت في قالب لفرط الاتقان الذي رافق عملية انشائها .
اما المسعودي الذي يلمس الكاتب فيه انطباع الجاحظ لكن بصورة اعمق من مجرد الشكل ولربما يعود ذلك الى الفارق الزمني بين الرجلين ومدى كثافة الضخ الثقافي خلال سنوات الفارق اتاحت للمسعودى فرصة لقراءة اكثر تداخلا , يقول المسعودي لاسيما ان بغداد تقع في الاقليمالاوسط واقليم الشمس المتوسطة بين الاقاليم السبعة ( كان هذا الاقليم قبل الاسلام محل عناية ملوك الفرس نظرا لما تتمتع به من كثرة المرافق واعتدال الارض وغضارة العيش ومادة الرافدين وعموم الأمن .. ولانه على هذا النحو فقد شبهها الاوائل من العالم بالقلب من الجسد ولأن الموقع الكوني يتحكم بكل شيء ويجعل هذا الإقليم متميزا عن سواه فأن اشرف هذا الاقليم مدينة السلام ) .
يقول اليعقوبي الذي يرى الكاتب انه خطا خطوة ثالثة في رؤية المدينة لاسيما بعد دخول الجغرافيا الفلكية والبشرية في عملية الاحتساب ، وباعتبار بغداد مفترق طرق بين بحار الشرق والغرب وبلدان العرب والعجم ودجلة والفرات ولانها مفترق طرق بما يعنيه ذلك من تقاطع بين عوالم التجارة والشعوب وماتحمله من ثقافات وبضائع "فقد اختارها تدبير العهد منذ الازل فهي سرة الارض وجعلت مدورة ولا تعرف فياقطار الدنيا مدينة مدورة غيرها "
يقول اليعقوبي الذي يرى الكاتب انه خطا خطوة ثالثة في رؤية المدينة لاسيما بعد دخول الجغرافيا الفلكية والبشرية في عملية الاحتساب ، وباعتبار بغداد مفترق طرق بين بحار الشرق والغرب وبلدان العرب والعجم ودجلة والفرات ولانها مفترق طرق بما يعنيه ذلك من تقاطع بين عوالم التجارة والشعوب وماتحمله من ثقافات وبضائع "فقد اختارها تدبير العهد منذ الازل فهي سرة الارض وجعلت مدورة ولا تعرف فياقطار الدنيا مدينة مدورة غيرها "
اما الطبري فيكتفي بالاشارة الى تدويرها .
اما ابن الخطيب فنظرا لأن عمله الموسوعي يتناول المدينة فإنه يخطو خطوة اضافية في استقراء الشكل انطلاقا من اعتبار ان للتدوير معاني لا يعبر التربيع عنها.
اما المعاني التي يؤشر اليها فإنها تتعلق بموقع الملك الذي اذا كان في مركز الدائرة يكون رعاياه منه على مسافة واحدة ، اما في الاشكال الأخرى سيكون اقرب لهذا على هذا، وهذه الوجهة تتردد لدى كل الذين اخذوا عنه كأبن الاثير، وابن التغري بردي، وسواهما.
كما اورد اليعقوبي جملة ختامية أثارت دون سواها اهتمام المؤرخين المحدثين ، لا سيما بعد ما تبين لهم وجود عدد كبير من المدن المدورة ، وبالتالي فقد انبروا تباعا للرد على هذه النقطة التي تتعلق بتدوير بغداد من دون تقديم تفسيرات مركبة لاعادة الاعتبار لهذه الهندسة في بناء المدن ، ومن جملة المؤرخين الذين تناولهم الكاتب ، المؤرخ اندريه ميكيل الذي لا يكتفي بتعداد نماذج لمدن مدورة انما يؤكد أن بغداد اتقن فيها نموذج كان معروفا قبلها في المشرق والمغرب، اذ ان التدوير ليس ميزة للمدينة عن سواها وانما الميزة هي قدرة بغداد على التكيف تكيفا عظيما مع الارادة السياسية لمؤسسها الذي يريد بنائها دفعة واحدة من دون التعرض الى مجازفات.
ويوضح ميكيل مصدر المجازفة بانها تنبع من الخوف، لأن المقصود من الشكل هو تأمين مدينة الخلافة واستقلالها الذاتي والدفاع عنها من الخارج بالسور وضد الداخل ايضا.
اما ميكيل كرسويل، فإنه اثبت ان بغداد ليست وحيدة في بابها ، ويعدد مدن دائرية زيادة على اندريه ميكيل ويصل الرقم عنده الى 12 مدينة من اشرها طيسفون )المدائن(، وحران، ودابجرد،
وهرقلة ...الخ , ويعتبر كرسويل ان العودة لإحياء هذا الطراز بحد ذاته ابداع لا احد يستطيع انينكره على ابو جعفر المنصور.
اما ما ذهب اليه المؤلفون المصريون الذين اشتغلوا على المدينة في غالبيتهم ، فإن الاصل في التخطيط الدائري لمدينة بغداد تم اقتباسه من النقوش الآشورية ، مقدمين صورا لهذه النقوش التي تمثل معسكري نينوس ونيمرود من القرن الثامن والتاسع ق.م.
اما عثمان عبد الستار فيضيف الى الجانب الدفاعي المتعلق بمتانة الاسوار والتحصينات وما توفره من رؤية متكاملة وواضحة للجند المدافعين ، الجانب الاقتصادي المتعلق بالتوفير في كلفة البناء ، اذ إن بناء قطعة من الارض على شكل دائرة اقل من بناء قطعة على شكل مربع مساوي لها في المساحة بمقدر 11,27%، وهذا التوفير بلا شك يدعم الموقف الحربي بصورة غير مباشرة، فضلا عن ان الاقتصاد هو شرط من الشروط الاساسية التي ينبغي توفرها في العمارة بمعناها الصحيح.
ويشير البعض الى ان تخطيط المدينة بوضع القصر في مركزها يعبر عن الطابع الاساسي الذي كان ينشده ابو جعفر المنصور فهو المركز والقلب.
يأتي الكاتب بعد طرحه للآراء الى تحليل هذه الآراء ومدى ملامستها للحقيقة , حيث ينطلق الباحث من رأي الجاحظ الذي عبر عن صورة بغداد التى رآها بعد انتقاله الى البصرة , ليتناول حديث الخطيب البغدادي ومن جاراه على ان الملك اراد الوقوف على مسافة واحدة من رعاياه , هذا الامر على وفق رأي الكاتب تنقضه وقائع البناء التراتيبي الذي تعبر عنه المدينة فضلا عن ان الاقامة في مركز الدائرية لا تعبر عن "المساواة" لم يقل بها صاحبها ابدا ، اما من جانب اخر فإن السلطة العباسية وبشهادة معظم المؤرخين وان كانت قد حققت نقلة نوعية في عملية الدمج الاجتماعي بين العرب والموالي الا انها لم تطرح ابدا مثل هذا الاحتمال الذي يتناقض مع المقوم الاساسي الذي نهضت عليه هيبالاصل من خلال مبدأ وراثة النبوة .
كما يوضح الكاتب نفي غاية الجانب العسكري على صعيد متانة الاسوار لأن تفسيرا من هذا النوع يقزم الى المدينة حصن وهي اكبر من ذلك خصوصا ان الابراج يمكن ان تقدم رؤية شمولية يستطيع فيها المدافعون الحشد في حال الهجوم على الاسوار او توجهه نحو جانب منها تحديدا.
اما بالنسبة الى مقولة التوفير الاقتصادي الذي يوفره الشكل الدائري عن الاشكال الاخرى ، فهنا لاتساعد المصادر اصحاب هذا الرأي ، اذ ان ماذكرته المصادر عن كلفة بغداد يعلن بوضوح انه لم تكن هناك عملية حساب كلفة مسبقة للمشروع , علما ان حرص الخليفة على الحد من النفقات وتوليه الحساب لا يعتبر كافيا لمثل هذا التفسير.
يعد الكاتب رأي المسعودي واليعقوبي من خلال وصف بغداد او الاقليم الاوسط بأنهما "سرة الارض" او القلب من الجسم او " اشرف اقسامهذا الاقليم" ، المفتاح الذي يمكن من خلاله الدخول الى المدينة المقفلة وايضاح سبب اعتماد هذا الشكل خصوصا اذا ما قرنا ذلك مع ما اوردهالخطيب البغدادي عندما احضر المنصور " المهندسين واهل المعرفة بالبناء والعلم بالذرع والمساحة وقسمة الارضين فمثل لهم صفتها التي هي في نفسه " حيث تتكون من هؤلاء محصلة ثقافية علمية عربية - فارسية مختزنة لرؤية تتجاوز هاتين الثقافتين الى ما هو اوسع وصولاالى اليونانية والصينية ، اي اننا امام تراث عالمي لا سيما ضمن هذه المجموعة خلائط من التراث البابلي والآشوري والصابئي والكلدانيالقديم ، وعلى رأس هذه المجموعة وقف ابو جعفر المنصور الى جانب ثقافته العربية الوازنة من خلال تردده على المساجد وماحصل عليه من خلال اسفاره وعلاقته بالعديد من قادة المعتزلة فضلا عن المنجمين وعمله بأحكام النجوم اضافة الى آخرين من مدارس ثقافية عدة , ليجمع بين كل هذه الثقافات ويوائم بينها , علما ان المشروع لم يكن تعبيرا عن بناء عاصمة لدولة مترامية الاطراف فقط بل مشروع كوني لا تتحدد خلاله علاقة الخليفة بالسلطة فحسب بل علاقة الارض بالسماء اساسا.
من هنا حاول الكاتب ادخال الجانب الديني لتكتمل الرؤية وراء الأسباب التي دعت الى اتخاذ الشكل الدائري لبغداد ووفقاً لرأي الكاتب كانلابد من ادخال الجانب الروحاني التي تعبر عن الرغبات المعلنة او اللاواعية المكتومة او المكبوتة حيث بهذا المعنى تتعدى المدينة تكوينها المادي المباشر ويصبح الموضوع لا علاقة له بالمكان الهندسي .
وإذا كان الفن الاسلامي وقبله البيزنطي قد عرفا كيف يدعوان السماء الى الارض فإن الاخير جسد سابقة فالشكل الأكثر سماوية هو الذي تم استيحاؤه من الهندسة الفلكية البابلية وقبة الصخرة اروع نماذجها فنستطيع ان نعطف هذه القبة على كنيسة القيامة وقبتها وكنائس دمشق وجامعها الاموي وقبلهما على العمائر البابلية والآرامية وسواهما , ليتبين وجود مسار حضاري متفاعل باستمرار ، فاذا كانت هذه الانجازات الهندسية تتم على قاعدة تصورات متداخلة جاز لنا القول ان بغداد لم تكن عما سبق اذ غرفت من كل الموروثات التي آلت إليها معززة بالمرونة الاجتماعية التي مثلتها الثورة السياسية على قاعدة مشروع الدمج بين العرب والموالي .