معاهد بغداد الخيرية النسوية القديمة
في كتاب نصوص بغدادية نادرة ، الحياة الاجتماعية والاقتصادية لبغداد في المجلات الوطنية العراقية والعربية ، ضمنّ د.طارق نافع الحمداني الذي قام بجمعه ودراسته ، ماكتبه العلامة مصطفى جواد تحت عنوان : المعاهد الخيرية النسوية القديمة في العراق ، وأشار الحمداني في هامش مع الموضوع أن موضوع مصطفى جواد وإن كان جاء بهذا العنوان إلاَ أنه يتناول المعاهد النسوية الخيرية في بغداد .
ويقصد بالمعاهد الخيرية هنا المستشفيات والمدارس ودور القرآن والجوامع ، أنشأتها نساء في بغداد من أموالهن بقصد كسب الثواب .
وقد قمنا بإعداد خلاصة لماكتبه مصطفى جواد نعرضها هنا .
يراد بالمعاهد الخيرية القديمة والمؤسسات الاجتماعية المنشأة لخدمة الدين والمجتمع والثقافة وخاصة الثقافة المعتمدة على علوم الدين من مدارس ودور كتب ومارستانات اي مستشفيات وربط عرفت ايضا بالخانقاهات والخانكاهات اي التكيات وجوامع ومساجد.
ووصفها بالخيرية يطبعها بطابع الفردية اعني ان افرادا من الأمة ينشؤنها بصفتهم الشخصية لاستجلاب الثواب في الآخرة واكتساب الثواب الحسن في الدنيا ايضا وهذا الضرب في الاتجاه انما هو من محاسن الدين فلولا ايقان المنشئ منهم والمنشئة منهن بحصول المكافأة على الاعمال والافعال بالثواب او العقاب ما اسست تلك المؤسسات الاجتماعية التي ذكرت اسماءها ولحرم المجتمع ما نتج منها من منافع ومحاسن وخدمات كما يقول العصريون اليوم.
والمعاهد الخيرية النسوية القديمة في العراق قليلة لضآلة دور المرأة في المجتمع في العصور الاسلامية القديمة ولضخامة النفقات وكثرة الاموال التي تنفق في انشاء المعاهد المذكورة وكانت الثروة المالية محتكرة في العصور التي اشرت اليها اكثر مما هي عليه الآن . فالاثرياء الاغنياء عدتهم قليلة جدا ولذلك يجب ان نولي وجوهنا شطر نساء الخلفاء والسلاطين والامراء قبل غيرهن عند البحث عن تأريخ هذه المعاهد الخيرية , وينبغي ان لا يفوتنا ان انشاء المعهد الخيري كان يتأدى الى الزوال ما لم توقف على المعهد وقوف اي اوقاف تكفل باستدامة المنفعة الاجتماعية منه وهذا يصور لنا مقدار العسر والصعوبة في الانشاء من حيث هو نوع من الصدقات الاجتماعية الدارة المستدامة المستمرة. وكثير من المعاهد الخيرية زالت بعد انشائها لأنها لم تضمن استدامتها بالاوقاف ومنها مازال باستيلاء الظلمة على اوقافه او امرهم بهدمه انتقاما.
واول ما ظهر من المعاهد الخيرية النسوية اي التي من إنشاء النساء هي (المارستانات) اي المستشفيات لأن الفقراء كانوا احوج الى حفظ ابدانهم من الامراض والعلل منهم الى حفظ عقولهم من الجهل والخطل ولايقال ها هنا ان حفظ عقولهم من الخطل قد ينفي عن ابدانهم العلل لأن الامية والخرافات والجهل هي الصفات الغالبة على المجتمع يومئذ فالنساء خاصة كن مثلا يعتقدن ببغداد في خلال قرن كامل اي مئة سنة ان مرض الخواتيق اي الدفتريا تقوم به جنية اسمها (ام عنقود) لأن ابنها عنقود مات ولم تقم له نساء بغداد ماتما ولا عزاء فالشعب كان يحتاج الى ملايين الدنانير ومئات السنين لتعليمه وتثقيفه الثقافة التي تقفه على طرائق حفظ الصحة وتنجيه من الخرافات.
واول مارستان نسوي (اي ـ مستشفى) اسس في بغداد هو مارستان السيدة شغب ( بسكون الغين) ومنهم من يسميها شغب (بفتح الغين) واشتهرت بلقب (السيدة) وهي زوجة الخليفة المعتضد بالله وام الخليفة القتيل المقتدر بالله ففي محرم من سنة 306 هجرية في خلافة ابنها المقتدر امرت بفتح مستشفاها في سوق يحيى على دجلة من الجانب الشرقي ببغداد.
وفي اواسط القرن الخامس من الهجرة ظهر في العراق نوع جديد من المعاهد الخيرية اقتضته طبيعة التطور الاجتماعي وهو انشاء المدارس الليلية المنفقة والربط الصوفية الوقفية اي الخانقاهات. اما المدارس فأمرها معلوم فأما الربط فهي مساكن موقوفة على جماعات نذروا انفسهم للعبادة ورغبو في الزهد عن الدنيا ورابطوا فيها لمحاربة انفسهم اي عواطفهم لان النفس عندهم هي العدوة الكبرى. وكانت الربط من المعاهد الثقافية ايضا فكان المتصوفون يؤلفون فيها ويدونون الحديث ويسمعونه ويدرسون ويحدثون بالحديث النبوي الشريف وغيره وينشدون الاشعار.
هذا ونحن اذا راعينا التسلسل الزمني في تعريف تأريخ المعاهد الخيرية النسوية ظهر لنا اسم السيدة (تاركان خاتون بنت طراج) من ذرية افراسياب ملك الفرس القدماء وهي زوجة السلطان ملكشاه بن الب ارسلان السلجوقي وام ابنه محمود ففي سنة 485 امر السلطان ملكشاه هذا ان يبني في دار السلطنة السلجوقية بالمخرم (اي العلوازية الحالية) سوق للتجارة والشؤون الأخرى كالصباغة وخانات للتجار ودور لهم وجامع لصلاة الجمعة وامرت زوجته تاركان خاتون ببناء مدرسة لطائفة الحنفية لأن الدولة السلجوقي كانت حنفية المذهب.
واذا كان الاقتداء من طبائع البشر وخصوصا في الافعال الخيرية فإن ابنة ملكشاه الخاتون السلجوقية التي تزوجها الخليفة المستنظر بالله العباسي امرت ببناء مدرسة الحنفية على دجلة برأس درب زاخي من الجانب الشرقي وتولى ذلك مملوكها الوفق بن عبد الله الخاتوني ولذلك كانت تسمى ايضا (المدرسة الموفقية) وقد دفن الموفق في المدرسة.
وظهرت لنا في اواسط القرن السادس للهجرة (فخر النساء شهدة بنت احمد الابري البغدادية الشافعية) الكاتبة الاديبة المحدثة التي طبقت شهرتها الآفاق في عصرها وفي ما بعده فقد انشأت هذه السيدة رباطا للمتصوفين وقد قلنا انهم طائفة زهدوا في الدنيا وانقطعوا الى عبادة الله والدراسة والسماع في نوع من المنازل والدور سماها اهل العراق (الرباط) لأن المتصوفين يرابطون فيه كما يرابط المجاهدون في الثغور والحدود.
وسيرة شهدة مستضيئة في كتب التأريخ وذكرها مشهور في كتب الحديث وهي التي وردت فيما وردت كتاب (مصارع العشاق) عن مؤلفه ابن السراج توفيت وقد جاوزت التسعين من العمر ولها ذكر ايضا في معجم التراجم العالمية الفرنسي - بيوكرافي اونيفرسل - المطبوع بباريس سنة 1843م.
ويدعونا التسلسل التأريخي الى ذكر السيدة (بنفشة) وهي بنفشا بنت عبد الله الرومية مولاة الامام المستضئ بأمر الله كانت من خواصه وسراريه ولها المكانة الرفيعة عنده والمنزلة العالية والحكم النافذ والامر والنهي وكانت صالحة كثيرة الخير. جعلت دارها في أسفل بغداد على شاطئ دجلة مدرسة ووقفها على الحنابلة ووقفت عليها وقوفا وبنت قنطرة على نهر عيسى وعقدت جسرا على دجلة وبنى لها الامام المستضئ بامر الله دارا مجاورة لباب الغربة ـ يعني باب المستنصر الحالي من الشمال ـ فجاءت عالية البناء واسعة الفناء تشمل على مقاصير وحجرات ومناظر ومتنزهات ويجاور هذه الدار اربعة دواليب تسقي الماء من دجلة الى دار الخلافة المعظمة.
وفي سنة 537هجرية انشأت السيدة بنفشة رابطا للنساء الصوفيات في رجب من السنة المذكورة وعملت فيه دعوة للصوفيات فاكلن من الاطعمة النفيسة ثم خطبن في الرباط خطبا ثم فرقت فيهن دنانير وجعلت المشيخة في الرباط لأخت الشيخ ابي بكر محمد بن احمد الزوزني الصوفي.
وننهي كلامنا على هاتين السيدتين لنتعطر بذكر السيدة زمرد خاتون زوجة الخليفة المستضيء بامر الله وام الخليفة الناصر لدين الله وهي صاحبة القبة الفخمة والتربة الضخمة القائمة بجوار تربة الشيخ معروف الكرخي بالجانب الغربي من بغداد وتعرف عند العامة غلطا بالست زبيدة كما ذكرنا والسيدة زمرد كانت في الاصل مملوكة تركية ثم ولدت اولادا لسيدها المستضيء فاعتقها اكراما لها عن العبودية.
وكانت السيدة زمرد قد انشأت قبل هذه المؤسسة العلمية والخيرية رباطا للصوفية في المحلة المأمونية من بغداد الشرقية.
وانشأت السيدة زمرد خاتون ايضا رباطا للفقراء عند مشهد عبيد الله بن عمر قرب الرصافة وقرب الامام ابي حنيفة النعمان.
وانشأت ايضا مسجدا في الحظائر على دجلة ويسمى اليوم (جامع الخفافين) وهو في سوق الكمرك العتيق ومنارته اقدم المنارات العباسية في بغداد ولا تزال رصينة قوية.
ولنعطف القلم الآن على السيدة الملقبة (باب بشير) وذلك ان المتأخرين من الخلفاء كانوا يلقبون نساءهم باسم البواب الذي يقيم على دورهن وهذا يعني ان بواب السيدة اسمه (بشير) وهذه السيدة (باب بشير) هي زوجة المستعصم بالله العباسي آخر الخلفاء العباسيين الذي فقد الدولة ونفسه معا. وقد انشأت من المعاهد الخيرية دارا للقرآن يدرس فيها ابناء الفقراء ومدرسة لذوي المذاهب الاربعة الشافعية والحنابلة والحنفية والمالكية قرب الشيخ معروف الكرخي . وكانت دار القرآن على شط دجلة بالجانب الغربي من بغداد.
وكانت شمس الضحى شاهلبني بنت عبد الخالق بن ملكشاه بن السلطان صلاح الدين الايوبي التي قدمت الاشارة اليها من النساء الصالحات الخيرات وقد قتل هولاكو الطاغية زوجها ولي العهد ابا العباس احمد المستعصم بالله ولها منه بنت اسمها رابعة. وأنشأت السيدة شاهلبني مدرسة بجوار مشهد عبيد الله بن عمر العلوي ذلك القائم اليوم في شرقي الاعظمية. وفي سنة 671 هجرية تكامل بناء المدرسة وسميت (المدرسة العصمتية).
وهذه المدرسة التي لايزال بابها وقسم منها قائمين , المعروفة بجامع مرجان في شارع الرشيد انما بناها مرجان من اموال سيدته الجتاخاتون بنت السلطان ارغون بن اباقا بن هولاكو وكان هؤلاء المغول اسلموا وحسن اسلامهم وكانت هذه السيدة زوجة (ايلكان) والد الشيخ حسن الكبير مؤسس الدولة الجلايرية في العراق. وقد جاء في الكتابة المنقورة على الآجر فوق بابها ان مرجان (انشأ هذه المدرسة من فواضل هذه السيدة السعيدة أنار الله برهانها في دولة ابنها الشيخ السعيد حسن وتمت في ايام ابنه السلطان اويس).