تأسيس بغداد واختيار موقعها



بغداد مدينة صارت مثالا لحضارة العصور الوسطى في الشرق وفي الغرب ايضا، وهي التي سأل عنها الامام الشافعي يونس قائلا : يايونس هل دخلت بغداد قلت لا"قال مارأيت الدنيا ولا الناس" .
عن تأسيس بغداد واختيارها هذه البقعة من الارض عاصمة لها، توقفنا عند الروايات التي تناولت موضوعة اختيار موقع بغداد ، والذي افرد له الدكتور زهير هواري الفصل الاول من كتابه تأسيس بغداد .. الفلسفة في رموز ، وهو احد منشورات وزارة الثقافة لمناسبة بغداد عاصمة الثقافة العربية ، طباعة دارميزوبوتاميا ، ويقع الكتاب في 296 صفحة من الحجم الكبير .
وقد أطلعنا على تلك الروايات بتفاصيلها بين الصفحتين 193 و 221 ، فخرجنا بالحصيلة الآتية التي نضعها أمام قرائنا الكرام . ولمن يود الإطلاع على الفصل كاملاً العودة الى الكتاب المذكور والمحفوظ في خزائن دار الكتب الوثائق الوطنية التي يصدر عنها موقع ذاكرة بغداد الذي ننشر فيه هذا الموضوع :
تنقل ابوالعباس السفاح خلال السنوات التي امضاها في الخلافة بين ثلاثة مواضع هي الكوفة وهاشمية الكوفة وهاشمية الانبار التي مات فيها ، ولم يضع حلا مرضيا لمشكلة العاصمة ، وهو ماكان متعذرا عليه بطبيعة الحال، باعتبار ان وضع حل مرض لهذه المشكلة يتطلب استقرارا يتجاوز السياسي المباشر ويفتح على التخطيطي وكلاهما لم يكونا متوفرين .
لكن رواية تمر في حوالي السطر الواحد لدى كل من المقدس والحموي تدفع الى الشك عندما يتحدث الاخير عن بغداد فيقول"وهي مدينة كان قد اختطها اخوه ابوالعباس السفاح قرب الكوفة وشرع المنصور في عمارتها في عام145 ونزلها سنة149.
اما المقدس فيقول انه:"احدثها ابو العباس السفاح ثم بنى المنصور بها مدينة السلام". والرواية تفصل بين التخطيط والعمارة والتمصير كما هو واضح من النص .
وبعيدا عن هذه وتلك نعود الى ابي جعفر لنذكر انه هو الاخر تنقل بين الهاشمية التي سماها الرصافة وهاشمية الانبار والمدائن ، وكما واجهت المعضلة سلفه فقد واجهها هو ، الا انه كان عليه التفرغ لما هو ادهى وأمر، وخلال السنوات التي انصرفت بين وصوله الى الخلافة واتخاذ قراره تخلص من عمه عبدالله الذي خرج عليه، كما انهى "شراكة"ابو مسلم الخراساني له.
ثم يبدأ البحث انطلاقا من الكوفة ويصل برحلته صعودا حتى الموصل شمالا مرورا بجرجريا ثم بعد ان يجوب تلك المسافة ويقفل عائدا نحو وسط العراق، حيث يعسكر هناك ويرسل جماعة من اصحابه باحثين عن الموقع الملائم ، وعندما يختارون له موضعا قرب بارما باعتباره مناسبا لطيب هوائه ، يجيبهم "لكنه لا يحمل الجند والناس والحماعات ، وأنما اريد موضعا يرتفق الناس به ويوافقهم مع موافقته لي ولا تغلو عليهم فيه الاسعار ولا تشتد فيه المؤونة فإني ان اقمت في موضع لا يجلب اليه من البر والبحر شيء غلت الاسعار واشتدت المؤونة وشق ذلك على الناس".
وعندما يعثر على الموضع الذي ستقوم عليه بغداد ينتبه الى ملائمته لأنه على حد قوله"هذا موضع معسكر صالح ، هذه دجلة وليس بيننا وبين الصيف شيء ، يأتينا فيها كل مافي البحر وتأتينا المسيرة، وماحول ذلك". اما اليعقوبي فالامر في تحديد مناسبة المكان اكثر افاضة على لسان المنصور، اذ ان هذه المدينة ستكون"مشرعة للدنيا ، كل مايأتي في دجلة من واسط والبصرة والإبلة والاهوار وفارس وعمان واليمامة والبحرين، كذلك مايأتي من الموصل وديار ربيعة واذربيجان وارمينيا ومن ديار مضر والرقة والشام والتعز ومصر والمغرب.
من هذا السياق في البحث وتحديد المواصفات حتى ولو استعمل تعبير"المعسكر"كما عند الطبري الا ان هذا المكان الذي يتمتع بكل المواصفات المطلوبة لم يكن خلاء، فاضافة الى وجود قرى واديرة فيه ، كان العرب على معرفة به منذ العام13هجرية ، إذ يروي ياقوت ان اهل الحيرة ابلغوا المثنى بعد ان نجح المسلمون في تشتيت مسالح الفرس واجترأوا على شن الغارات عن قرية تقوم فيها سوق عظيمة في كل شهر مرة فيأتيها تجار فارس والاهواز وسائر البلاد ويقال لها بغداد ، وفورا ارسل المثنى الى مرزبان الانبار وعقد معه اتفاقا قدم له الاخير ادلاء على الطريق فهاجمها فهرب الناس وتركوا اموالهم فأخذ المسلمون من الذهب والفضة وسائر المتعة ماقدروا على حمله ثم رجعوا الى الانبار .
الا ان رواية اخرى يوردها ياقوت ايضا تؤكد ان هذه السوق كانت مقصد"تجار اهل الصين وكان اسم ملك الصين ( بغ ) فكانا اذا انصرفوا الى بلادهم قالوا(بغ داد) اي ان هذا الربح الذي ربحناه من عطية الملك .


واضاف المؤلف في كتابه المذكور ان ابا جعفر المنصور قد اختار هذا الموضع "لاسباب عسكرية اقتصادية ومناخية فهي تقع وسط سهل خصيب صالح للزراعة وبين ضفتي النهر يقطعه طريق خراسان ويعتبر ملتقى للقوافل ومركزا للاسواق الشعبية الشهرية وبالتالي تؤمن مصدرا وفيرا لتمويل الجيوش والسكان".
ويتضح من خلال ياقوت الحموي ان اكثر من ربع عدد الانهار في بغداد ومنطقتها اذ تصل النسبة المئوية الى 27 في المئة ، بينما نجد واسط لا تحظى الا بـ13 في المئة فقط ، والنسبة الاكبر تفيد منها البصرة ـ ميسان ، وقد نتجت النسبة العالية عن عمليات الحفر المتتالية لتلبية احتياجات الزراعات .
كما ان معجم ياقوت يظهر مسألة اضافية يتمثل في وزن المنطقة الوسطى وبنسبة تزيد عن 70 في المئة من اجمالي عدد تلك الوحدات ، تليها المنطقة الشمالية (15 في المئة) وبنسبة اقل في المنطقة الجنوبية.
مع إن هذه العناصر الايجابية الوازنة في الحسم ، الا ان مشروع تأسيس عاصمة يراد لها ان تكون ابدية وحتى يوم القيامة او ظهور المسيح ، لابد وأن يدخل فيه"علم" التنجيم وتأكيدات من الكتاب الذي يحمل طوالع الاآي من الايام للمدينة واهلها .
وانطلاقا من هذا المقدر او المقرر في كتب (اصل العلم) وغالبا ماهم هؤلاء من اهل الذمة ، يرى ابو جعفر المنصور راهب دير ويسأله اذ ماكانوا يجدون في كتبهم ان مدينة تبنى هنا يضاف الى ذلك واسقناه حول التنجيم . ومع ان هذه الرواية تتعدد بصيغ مختلفة في المصادر الا ان المؤدى واحد ، وهو ان هناك اشارة الى هذه المدينة في الكتب ، وان الذي يبنيها يدعى مقلاص او نقلاص او الدوانيق ، انا سواه فلا يكون ذلك، وابوجعفر هو المقلاص وابوالدوانيق ، يكون له ذلك ويصدر اوامره بتخطيط المدينة. ولكي يكون المشروع امامه عيانا"أمر ان يخط بالرماد ثم اقبل يدخل في كل باب ويمر في فصلانها وطاقاتها ورحابها وهي مخطوطة بالرماد، ودار عليهم ينظر ليهم والى حافظ من خنادقها، فلما فعل ذلك، أمر ان يجعل على تلك الخطوط حب القطن ويصب عليه النفط ، فنظر اليها والنار تشتعل ففهمها وعرف رسمها، وامر ان يحفر اساس ذلك الرسم ثم اُبتدِئ في عملها ثم وضع لبنة (الحجر الاساس) بيده وقال"بسم الله الرحمن الرحيم : والارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) ثم قال ابنوا على بركة الله.
لكن الشروع في البناء يختلف هو الآخر بين المؤرخين ففيما رأى البعض ان العمل بدأ مباشرة بعد وضع التخطيط ، يرى البغدادي ان الروع تم بعد ان "جمع اهل المعرفة بالبناء والعلم بالزرع والمساحة وقسمة الارضيين".
وأشار المؤلف الى ان الطبري لم يذكر من اسماء المهندسين او كبار المهندسين سوى الحجاج بن ارطأة وابي حنيفة النعمان الذي سيتولى عدد اللبن عبر طريقة حسابية تعتمد المساحة كمشرفين على هذا العمل الكبير الذي استغرق نحو الاربعة اعوام بدءأ من العام145هجرية وحتى العام149 هجرية (762-766م) ، الا ان اليعقوبي يذكر اضافة اليهما ـ علما ان الحجاج هو الذي تولى خط المسجد الجامع في الوسط ـ كلاً من عبدالله بن محرز الحجاج بن يوسف ، وعمران بن الوضاح وشهاب بن كثير، ويلصق باسماء بعضهم صفة المهندس، وبأسماء اخرى من دونها ، وقد تقلد كل هؤلاء ربعا مسؤولا عنه ، لكن هؤلاء لا يتفردون بعمل على هذا المستوى من الاهمية والاتساع ، اذ ان الطبري يذكر ان ابا جعفر المنصور ارسل داعيا الى "حشر الصناع والفعلة من الشام والموصل والجيل والكوفة وواسط والبصرة فاحضروا" ويبدو من صياغة الطبري وكأن العملية تضمنت جانبا قسريا.
ويستعمل اليعقوبي تعبير المهندسين بدل الصناع. وقبل العودة الى الاشراف على عملية الاعمار لابد من الاشارة الى الخلاف بين المؤرخين على عدد الذين شاركوا في العملية، فبينما هو لدى اكثرهم مئة الف"من اصناف المهن والصنائع". يرد الرقم لدى المسعودي خمسين الف رجل. ويبدو من تقاطع المعلومات في المصادر ان هؤلاء الاربعة الذين ورد ذكرهم لدى اليعقوبي كانوا بمثابة المهندسين للمشروع لجهة التخطيط ، اما الاشراف التنفيذي فسيتولاه قادة الجيش او كبار موظفي الدولة، فقد ولى ابوجعفر كل ربع من المدينة قائدا يتولى الاستحثاث على الفراغ من ذلك الربع وقد نصل من خلال مشاركة الجيش الى تبيان الفارق بين عدد الفعلة"المشاركين في عملية الاعمار، اذ لا يستبعد ان يزج القادة بجنودهم في العمل اضافة الى العمال، لا سيما تلك التي لا تتطلب مؤهلات فنية عالية، وفي ضوء مشاركة رجال الادارة والجيش في العمل فقد "تولى الربيع حاجبه باب خراسان ، وابو ايوب الخوزي وزيره باب الكوفة وولى عبدالملك بن حمير باب البصرة وولى ابن رغبان مولى محمد بن مسلمة الفهري باب الشام فبنوها.
ويتأكد ان هذا الاشراف الميداني لكبار موظفي ادارة ابو جعفر المنصور، لا يعني تخليه عن متابعة التدقيق في كل شاردة وواردة مهما صغرت اذ يروي الطبري انه ولى خالد بن ابي الصلت النفقة على ربع من ارباع المدينة فلما فرغ من بنائه رفع اليه النفقة الاجمالية" فحسبها بيده فبقي على خمسة عشر درهما فحبسني في حبس الشرقية اياما حتى أديتها".
ان المقصود في الهندسة المعتمدة للمدينة، ومن ضمنها دور الرحبة"تأمين مدينة الخلافة واستقلالها الذاتي والدفاع عنها ضد الخارج بالسور وضد الداخل ايضا، مادام يمكن تعطيل الحركة على السكك الدائرية في كل لحظة ، باغلاق ابواب خاصة صممت على الجادات الذاهبة من القصر الى الابواب الاربعة". فإن الخطر او الشك من الداخل يتقدم خطوة الى الامام عبر ارغام جماعة القواد والكتاب على اقفال ابوابهم عن الرحبة المفتوحة على الجامع والقصر حيث مقر الخليفة ، ويمكن الاستنتاج اذن ان هذه المدينة التي هي"عبارة عن دوائر ذات مركز واحد يقوم في قلبها قصر الخليفة ، بما هي بيئة القصر ستكون اشد انفصالا مما كانت عليه وسيصبح قادة الاجهزة الاكثر التصاقا بمؤسسة الخلافة، وحتى افراد العائلة الصغار على مسافة اضافية من شخص الخليفة، واذا كان هذا الاجراء يمكن تفسيره في الجانب الامني المضاعف، الا ان الدلالات تتعدى هذا المجال بطبيعة الحال.
ومن القصر والجامع والرحبة "ينتظم المخطط بعد ذلك انتظاما نجميا نحو ابواب المدينة الاربعة". وان اول هذه الابواب هو باب خراسان وكان يسمى باب الدولة لاقبال الدولة العباسية من خراسان، ثم باب الشام وهو تلقاء الشام ثم باب الكوفة وهو تلقاء الكوفة ثم باب البصرة وهو تلقاؤها فكان القادم اليها من الشرق يدخل من باب خراسان والقاصد من الحجاز يدخل من باب الكوفة والقاصد من المغرب يدخل من باب الشام والقاصد من فارس والاهواز وواسط والبصرة واليمامة والبحرين يدخل من باب البصرة.
ولكن قبل ان نتناول الداخلين والخارجين ومادمنا قد انطلقنا من مركز الدائرة في رؤية المدينة، لابد من ان نعرج على السكك واهلها.
المؤكد اذن انه كان هناك سور على الرحبة ، وقد يكون هذا السور بمثابة جدران بيوت هؤلاء القادة ودوائر الدولة ، بدليل ان الواجهات كانت مفتوحة على الرحبة ثم اديرت علما انه كان هناك سور يرسم حدود المساحة الداخلية المخصصة لقصر الخليفة وحده اضافية الى الجامع الكبير والديوان ومنازل ابناء الخليفة ومقرين رئيس الحرس والشرطة. وانطلاقا من هذه الرحبة هناك سكك منتظمة نجميا الا انه على طرفي كل منهما ابواب وثيقة كما يذكر اليعقوبي، اي ان للسكك مداخل ومخارج يمكن اقفالها وعزل كل واحدة منهما عن الاخرى فضلا عن عزلتها عن دار الخلافة والسكك هذه قدمت اساسا بالاصل تبعا لما يذكر اليعقوبي الى الموالي والقواد كقطائع ولذلك نسبت لهم ويبدو انه اشترط عليهم المساهمة في البناء"واخذهم بالبناء".
واعتمادا على العديد من المراجع والمصادر يظهر ان للمدينة اربعة ابواب تم استحضارها من واسط ( مدينة الحجاج ) ، وكان الاخير كما يذكر ياقوت قد اخذها من مدينة بإزاء واسط تعرف بزندورد ، يزعموننها من بناء سليمان بن داود (عليه السلام) واقام على باب خراسان بابا جيء به من الكوفة من عمل خالد القسري وعمل هو (المنصور) بابا لباب الشام وهو اضعفها على ان للمدينة ثمانية ابواب وليس اربعة"اذ هناك اربعة داخلة واربعة خارجة" فكان على كل باب قبة وجعل بين كل بابين (28) برجا الا بين باب البصرة وباب الكوفة فانه يزيد واحد، وجعل الطول بين باب خراسان الى باب الكوفة ثمنمائة ذراع، ومن باب الشام الى باب البصرة ستمئة ذراع ، وبين اول باب المدينة الى الباب الذي شرع الى الرحبة خمسة ابواب، وقد وجدت في هذه الابراج فتحات رفيعة جانبية وامامية (فراغل) للدفاع عن المدينة ومنها كانت تطلق السهام على العدو، والقول باربعة ابواب، وهو ماورد لدى اليعقوبي، يثير مسألة وجود سورين للمدينة او سور واحد.

وقبل نقاش هذه النقطة لابد وان نستكمل تعرفنا على هذه الابواب، التي يبدو انها كانت من الحديد عظيمة جليلة لا يغلق الباب الواحد منها ولا يفتحه الا جماعة من الرجال وكانت هذه الابواب مرتفعة الى الحد الذي يستطيع معه الفارس بالعلم او الرمح الطويل الدخول فيها من دون ان يثنيها.
وللوصول الى الباب هناك قنطرة فوق الخندق عرضها اربعة امتار ، وللباب فردتان ، ويتصل الباب بغرفة مستطيلة مغطاة بقبو نصف اسطواني ومساحتها 20 في30 ذراعا. ومنظرها على شكل برج بارز عن السور الخارجي للمدينة ومنها ينعطف يسارا ، وهذا النوع من المداخل يعرف بالعمارة الاسلامية باسم المدخل المنكسر وهو يساعد في انكسار هجوم العدو وتصدعه وبذلك يكون معرضا للسهام وغيرها من الابراج الموجودة بالسور الداخلي.
هنا لابد من ذكر كلمة حول الابواب وحراستها وعددها فالرقم (ألف) الذي يشير الى تعداد الحرس على كل باب هو الرقم الاقصى المعروف في ذلك العصر ، لذلك استعملوا الف الف للدلالة على المليون، ولعل تعبير "الف ليلة وليلة" استعمل للدلالة على الزيادة عن الرقم الاعلى المعروف، ثم ان الرقم اربعة هو رقم نجومي وفلسفي لكنه هنا جغرافي ايضا اي انه لا يقف عند حدود مايمكن استحياؤه على صعيدي علم الفلك والفلسفة لجهة تعدد العناصر وتأثيراتها في الانسان او العالم العلوي على العالم السفلي ، اذ يتجاوز ذلك الى جغرافيا نفوذ المدينة الذي يصل مشرفا على حدود الصين وغربا الى بلاد المغرب لذا لم يكن ياقوت مخطئا عندما تحدث عن ابواب المدينة وذكر المواضع التي سيدخل منها قاصدوها من اربعة جهات الارض .
وسرعان مادخلت التعديلات على المشروع الاصلي ، واذ كانت الخطوة الاولى هي التي تمثلت بتحويل توجيه الابواب عن الرحبة حيث القصر والجامع ، فإن خطوات اخرى تقود عمليا الى خروج المدينة عن اسوارها المدورة ، اذ يروي الطبري والبغدادي خبر ماجاء على لسان موفد ملك الروم بعد جولة له في المدينة :"ياأمير المؤمنين انك بنيت بناء لم يبنه احد قبلك وفيه ثلاثة عيوب : فأول عيب هو بعده عن الماء ولابد للناس من الماء لشفاههم ، اما الثاني فإن العين خضرة وتشتاق الى الخضرة وليس في بنائك هذا بستان ، واما العيب الثالث فإن رعيتك معك في بنائك واذا كانت الرعية مع الملك في بنائه فشى سره. . وقد وجه المنصور بشميس وخلاد فقال "مدا لي قناتين من دجلة واغرسوا لي العباسية وانقلوا الناس الى الكرخ" .
وفعلا جرى جر قناة من نهر دجيل الآخذ من دجلة وثانية من نهر كرخايا الآخذ من الفرات الى مدينته في عقود وثيقة من اسفلها محكمة بالصاروج والآجر من اعلاها ، وكل قناة تدخل المدينة وتنفذ في الشوارع والدروب والارباض ، وقد ارتبط "نقل الناس" الى الكرخ بعملية اخراج الاسواق من المدينة ، وتولى العملية مولاه ربيع من مال الخليفة ووسع طرق المدينة وارباضها ووضعها على اربعين ذراعا وامر بهدم ماشاع من الدور عن ذلك القدر.
ان بناء الاسواق في الكرخ قضى بترتيبها هندسيا ونوعيا فكل صنف في موضعه جاعلا سوق القصابين في آخر الاسواق فاإهم سفهاء وفي ايديهم الحديد القاطع. وعلى هذا الاساس انتقلت سوق البطيخ (الخضار والفواكه) من درب الزيت ودرب العاج ودرب الاساقفة ، مما يشير الى اتساعها . ولم يقتصر الامر على نقل الاسواق اذ لابد ان يكون لأهلها مسجد يجتمعون فيه يوم الجمعة لا يدخلون المدينة ويفرد لهم ، وقلد ذلك رجل يقال له الوضاح بن شبا فبنى القصر الذي يقال له قصر الوضاح والمسجد فيه.
ومع عودة المهدي من الري بنى له المنصور الرصافة وعمل لها سورا وخندقا وميدانا وبستانا واجرى لها الماء..
والاسماء التي تتردد لاصحاب القصور والطاقات والسويقات والاسواق اشد وضوحا من الجانب الغربي حيث اقيمت المدينة المدورة اذ يبدو العباسيون هم الاكثر حضورا في مضمار الملكيات ويليهم موالوهم من اصحاب الدواوين والادارة في مختلف اقسامها . والملاحظة الابرز التي لا يمكن الخروج بها هنا ان غلبة الاسماء في سكك بغداد كانت لكبار القادة بينما تراجع هذا لهذه الناحية بشكل ظاهر ، ويمكن تعليل ذلك بحرص الخليفة على ابقاء قادته محيطين به مع جماعاتهم ، علما ان اخراج الاسواق الى الكرخ اعطى المدينة المدورة مزيدا من الاتساع . وفي الوقت ذاته فإن الرصافة بما اقيم فيها من قصور وطرقات تحولت الى مايشبه ضاحية ارستقراطية لاسيما اذا ماربطنا بين بذخ المهدي وتقتير ابي جعفر المنصور.
وقامت بغداد لتعبر في تصميمها عن اهتمامات اجتماعية تنخلق حول كبار رجال الادارة الى الحد الذي لا تعتبرها دائرة المعارف البريطانية اكثر من مجمع حكومي اكثر منها مدينة سكنية مع ان قطرها كان نحو (2000) ياردة (2700م)، لكن هذا المجمع الحكومي لا يعني مجرد مساحة مخصصة للادارة وكبار موظفيها فقد كان لكل حي مسؤول ومجموعة متجانسة عرضيا (فرس-عرب) او متجانسة التوجه ، وخصص للجنود مساكن خارج الاسوار في شمال المدينة وشرقها في حين كان للتجار مساكنهم في الجنوب.
اما الاسواق فقد كان لها دورها البارز الرئيسي في مخطط المدينة ، فعلى طول كل شارع من الشوارع الاربعة التي تنطلق من السور الكبير حتى السور الداخلي قناطير عالية تحوي دكاكين وطرقات.. الا ان الخليفة لأسباب امنية ولأنه اراد ابعاد المدينة عن الضجيج وتجنب ابقاء بوابات الاحياء مفتوحة وتجنبا لتغلغل الجواسيس في المدينة قرر نقلها الى خارج الاسوار. هذا النص الذي وان كان يتحدث عن الاحياء المتجانسة اجتماعيا وعرقيا لا يستطيع ان يغطي تلك الجموع التي قطنت هذه المدينة سواء اكانت من الجنود ام العمال وارباب الصناعات والحروف والتجارة . ربما كان لدى الخليفة في مخططه الاصلي طموح باستمرار تلك الجماعات اسيرة انتماءاتها السابقة، سواء اكانت عرقية ام قبلية ام دينية ،الا ان مجرد اقامة كل هذا الحشد في تلك الدائرة يقود حتما الى ذلك التفاعل الذي تعجز عمليات التوسع والنقل والتحوير عن ضبطه ضمن أطر كأنها القمقم الذي يحتجز ماردا منذ أول الدهر والقمقم في قاع النهر حتى الازل.
بعد هذا العرض لتأسيس بغداد كما جاء في كتاب الدكتور هواري لابد من الاجمال بالقول ان المدينة المدورة نشأت في المخطط الاصلي كمجموعة من الدوائر . في المركز القصر والجامع تليها الرحبة وحولها قصور اولاد الخليفة والدواوين ثم المنطقة السكنية التي ضمت السكك والدروب خلف الفصيل الكبير، ثم الاسوار الداخلية والخارجية والبوابات الاربع وقبابها . ولا يلبث أن يطرأ تطور على المدينة بإتجاه اخراج الاسواق منها نحو منطقة الكرخ ، وتشهد تطورا عاليا تمثل مع عودة المهدي من خلال بناء الرصافة واعمارها وربطها بالمدينة المدورة .
واذا كانت الرصافة قد قامت مكان سوق الثلاثاء على الجانب الشرقي من بغداد الا انها باتت جزءا من المدينة بعد بناء الجسر الكبير . والمهم ان المدينة بدأت تنمو منذ لحظة خروجها الى الوجود على الصعيدين السكاني والعمراني .
ان الميزة الاساسية التي حملتها هذه المدينة واطلقتها من مشروع تأسيس لعاصمة الى مدينة عالمية تمثلت في هذا الامتزاج والارتباط الديني والعرقي من خلال الدائرة التي تضم فئات متنوعة دينيا وعقائديا وعرقيا واجتماعيا ، وفي مركزها الخليفة ابوجعفر المنصور.