الفتح الإسلامي لجزيرة كريت

لقد حاول المسلمون فتح جزيرة كريت عدة مرات، وكانت أولى محاولات المسلمين لفتحها في عهد دولة بني أمية؛ فقد غزاها جنادة بن أبي أمية الأزدي زمن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، فلمَّا كان زمن الوليد بن عبد الملك فتح بعضها ثم أغلق، ولكنَّها خرجت من السيطرة الإسلامية بعد سنواتٍ قلائل من غزو جنادة؛ على إثر الفشل الذي انتهى إليه حصار المسلمين الأول للقسطنطينية في سنة 60هـ، ثم غزاها حُميد بن معيوف الهمداني في خلافة هارون الرشيد العباسي، ففتح بعضها، لكن لم يلبث أن انحسرت السيطرة الإسلامية برحيل الفاتحين.

ثم غزاها في خلافة المأمون أبو حفص عمر بن عيسى الأندلسي المعروف بالأقريطشي[1]؛ أحد قادة الثورة على الأمير الحكم بن هشام الربضي (180-206هـ=796-822م) أمير الأندلس الذي ساءت العلاقة بينه وبين الفقهاء ورجال الدين لانغماسه في اللهو، فصاروا يُعرِّضون به في خطبهم على منابر المساجد، ويرمونه بالفسق والفجور، ويُلقِّبونه بالمخمور ويُحرِّضون الناس على عزله[2].

ويقول المقري: "كانت له الوقعة الشهيرة مع أهل الربض من قرطبة؛ لأنَّه في صدر ولايته كان قد انهمك في لذَّاته، فاجتمع أهل العلم والورع بقرطبة أمثال يحيى بن يحيى الليثي صاحب مالك وأحد رواة الموطأ عنه، وطالوت الفقيه وغيرهما، فثاروا به وخلعوه وبايعوا بعض قرابته، وكانوا بالربض الغربي من قرطبة، وكان محلةً متصلةً بقصره، فقاتلهم الحكم فغلبهم وافترقوا، وهدم دورهم ومساجدهم، ولحقوا بفاس من أرض العدوة، وبالإسكندرية من أرض المشرق، ونزل بها جمعٌ منهم، ثم ثاروا بها، فزحف إليهم عبد الله بن طاهر صاحب مصر للمأمون بن الرشيد وغلبهم، وأجازهم إلى جزيرة إقريطش، فلم يزالوا بها إلى أن ملكها الإفرنج من أيديهم بعد مدَّة"[3].

والفريق من الربضيِّين الذي اتَّجه شرقًا وصل إلى شواطئ الإسكندرية، فنزلوا في ضواحيها في أوائل عصر الخليفة العباسي المأمون سنة 200هـ، وكانت الأحوال في مصر مضطربة؛ إذ انتقلت إليها عدوى الخلافات التي نشبت بين الأمين والمأمون؛ فانتهز الأندلسيون المهاجرون فرصة هذه الفتن واستولوا على الإسكندرية بمعاونة أعراب البحيرة، وأسَّسوا فيها إمارةً أندلسيَّةً مستقلَّةً عن الخلافة العباسية دامت أكثر من عشر سنوات.

وعندما استتبَّ الأمر للخليفة المأمون أرسل قائده عبد الله بن طاهر بن الحسين إلى مصر لإعادة الأمور إلى نصابها سنة 212هـ، فأرسل إلى هؤلاء الأندلسيِّين يُهدِّدهم بالحرب إن لم يدخلوا في الطاعة، فأجابوه إلى طلبه حقنًا للدماء، واتفقوا معه على مغادرة الديار المصرية، وعدم النزول في أرضٍ تابعةٍ للعباسيين.

ثم اتجهوا بمراكبهم إلى جزيرة كريت وكانت تابعةً للدولة البيزنطية، وتحرَّك الأندلسيون في أسطولٍ من أربعين سفينة، ونزلوا فجأةً خليج سودا في كريت فاستولوا عليها بقيادة زعيمهم أبي حفص عمر البلوطي سنة (212هـ=825م)، وهناك أسَّسوا قاعدةً لهم أحاطوها بخندقٍ كبيرٍ فعُرفت باسم الخندق، ثم انتقل هذا الاسم إلى الأوربية على chaodax ثم Candia كانديا أو كندية، وهو اسم المدينة الحاليَّة التي تُعرف -أيضًا- بالاسم اليوناني Herakleon[4].

وتقع المدينة الجديدة في مركز متوسط؛ إذ تطلُّ على جزر الأرخبيل التي تطلَّع إليها غزاة كريت، على أنَّها كانت تفتقر إلى مرفأ طبيعي للسفن، ولم يلبث هؤلاء الأندلسيون أن فرضوا سيطرتهم على 29 مدينة، وأخضعوا أهلها[5].

وقد ازداد هؤلاء الأندلسيون قوَّةً حين لَحِقَ بهم بعض الأندلسيِّين الآخرين، وحين زادوا في بناء المراكب وغزوا الجزر المجاورة حتى أرهبوها، ونشأت بذلك دولة أبي حفص، الذي عرفه التاريخ البيزنطي باسم (Apocapso) بُوخابْس.

وتروي المصادر الروميَّة القصص الخياليَّة حول الفتح الذي استرق به العرب المسلمون سكَّان تسع وعشرون بلدًا، وغزوا فيه الجزر حول كريت عشرات الغزوات[6].

ومن الواضح أنَّ المسلمين الأندلسيين لم يجدوا مقاومةً من قِبَلِ سكان الجزيرة؛ ولعلَّ ذلك راجعٌ إلى ما يكنُّه هؤلاء السكان من الكراهية للبيزنطيين بسبب سوء سيرة عمَّالهم وظلمهم، وبسبب الظلم الضريبي والإداري، ولِمَا اشتهروا به من الهرطقة المتعلِّقة باللا أيقونيَّة[7].

وفوجئ الفاتحون بسكان كريت يُرحِّبون بهم؛ لأنَّ اليونانيِّين كانوا يتعالون عليهم، وأباطرة الرومان يعدُّونهم من مواطني الدرجة الثانية؛ فأحبُّوا العرب الأندلسيين؛ حيث رأوهم يحترمون ديانتهم ولا يتحدَّثون عن عيسى عليه السلام إلَّا بكلِّ احترام، ولأنَّهم أسقطوا عنهم ثلاثة أرباع الضرائب التي كانوا يُؤدُّونها للرومان، وكانت غالبية العرب الأندلسيين من الشباب، ولم تكن معهم أُنثى واحدة، فتزوَّجوا جميعًا من يونانيَّات، وأُقيمت الأعراس باللغتين العربية واليونانية في طول الجزيرة وعرضها.

ولم تلبث جزيرة كريت منذ ذلك الوقت أن صارت قاعدةً بحريَّةً إسلاميَّةً هامَّة، ومصدر تهديدٍ مستمرٍّ لجزر وسواحل الدولة البيزنطية؛ إذ أخذ الأسطول الكريتي يُغير على سواحل بيزنطة وممتلكاتها وتجاراتها، ممَّا تسبَّب عنه وقوع اضطرابات اقتصاديَّة وسياسيَّة داخل أراضيها.

وقد حاول البيزنطيون استعادة هذه الجزيرة مرَّات عديدة، اشترك في بعضها مئات الجنود الروس، ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل؛ والسبب في ذلك يرجع إلى الإمدادات العسكرية التي كانت تُقدِّمها مصر والشام إلى هذه الجزيرة المجاهدة، باعتبارها حصنًا أماميًّا لها ضدَّ عدوان البيزنطيين[8].

ومنذ أن تمركز الأندلسيون في إقريطش استأنفوا نشاطهم العسكري البحري في ظلِّ الدولة العباسية، فأصبحت إقريطش في التقسيم الإداري للدولة العباسية إقليمًا تابعًا لمصر، حتى سقوطها في أيدي البيزنطيين في سنة (350هـ=961م)، وكانت مراكب أهل إقريطش "تمير أهل مصر بخيرات جزيرتهم وأطعمتهم، وكانت هداياهم تصل إلى عمال مصر". وكان يُحمل من إقريطش العسل والنحل والجبن الكثير لمصر والشام، ويُسمَّى بلغة الفرنج كنديا، نسبةً إلى مدينة كندية أو الخندق قاعدة إقريطش.

وكانت مصر تتولَّى تزويدهم بالسلاح والمعدات، كما كانت دار صناعة دمياط تزوِّدهم بما يلزمهم من السفن التي تنتجها من أخشاب إقريطش[9].

ونُسب إلى (كريت) أو (أقريطش) بعض الرواة، منهم محمد بن عيسى أبو بكر الأقريطشي، حدث بدمشق عن محمد بن القاسم المالكي، روى عنه عبد الله بن محمد النسائي المؤدِّب، قاله أبو القاسم[10].

المصدر: موقع التاريخ - إشراف الدكتور محمد موسي الشريف.

[1] البلاذري: فتوح البلدان، ص330، عبد العزيز سالم وأحمد العبادي: تاريخ البحرية الإسلامية في مصر والشام، ص40-41.

[2] العبادي: في تاريخ المغرب والأندلس، ص128.

[3] نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب 1/339.

[4] الطبري: تاريخ الأمم والملوك، 5/174، وابن الأثير: الكامل في التاريخ، 5/212، والسيد الباز العريني: الدولة البيزنطية، ص266، والعبادي: في تاريخ المغرب والأندلس، ص133، ومحمود شاكر : العالم الإسلامي، ص307.

[5] السيد الباز العريني: الدولة البيزنطية، ص266.

[6] شاكر مصطفى: دولة بني العباس،2/362.

[7] السيد الباز العريني: الدولة البيزنطية، ص266، وشاكر مصطفى: دولة بني العباس،2/362.

[8] العبادي: في تاريخ المغرب والأندلس، ص134.

[9] عبد العزيز سالم وأحمد العبادي: تاريخ البحرية الإسلامية في مصر والشام، ص39-40.

[10] ياقوت الحموي: معجم البلدان، ص236.



قصة الإسلام