مدخل جغرافي عن جزيرة كريت
أقريطش أو كريت هو الاسم الذي أطلقه المؤرخون المسلمون على جزيرة كريت؛ حيث قال ياقوت الحموي: أقريطش بفتح الهمزة وتُكسر، والقاف ساكنة، والراء مكسورة، وياء ساكنة، وطاء مكسورة، وشين معجمة[1].
هي أكبر الجزر اليونانيَّة، وخامس أكبر جزيرة في البحر الأبيض المتوسط، وموقعها تقريبًا 35° ش، 24° ق، وهي تطلُّ جنوبًا على بحر إيجه، وعلى الرغم من أنَّ مساحتها لا تزيد عن 8336 كيلومترًا مربعًا وعدد سكانها أقل من نصف مليون نسمة، فهي من أهمِّ جزر اليونان من حيث أهميَّتها الحضاريَّة.
تنتصب فيها سلسلة جبلية ممتدَّة من الشرق إلى الغرب، وتحدُّها شواطئ صخريَّة، وأعلى قمَّة فيها هي قمَّة (بسيلوريتيس)، التي يصل ارتفاعها إلى 2456 مترًا فوق سطح البحر، وعلى هذه السلسلة تنتشر بساتين الزيتون والكرمة وتُزرع فيها الذرة والتبغ، وتُشكِّل جسرًا بين بلاد اليونان وآسيا الصغرى، وترتفع في وسط الجزيرة سلسلة جبال تبلغ أعلى قمَّة فيها، وهي جبل (إيد) نحو 8193 قدمًا، تحيط بها سهول ساحلية وبخاصَّةٍ في الشمال، وليس بها أنهارٌ كبيرةٌ وأكبرها هو نهر (متروبولو) في السهل الجنوبي، وهو لا يزيد عن مجرى مائي صغير يُمكن عبوره خوضًا في أيِّ موضعٍ منه.
ويبلغ طول الجزيرة من الشرق إلي الغرب نحو 156ميلًا، ويتراوح عرضها من الشمال إلي الجنوب ما بين 7 إلي 30 ميلًا، وتربتها خصبةٌ جدًّا في مناطق عديدة[2].
وأقريطش تتمتَّع بموقعٍ استراتيجيٍّ ممتاز في وسط حوض البحر المتوسط؛ فهي تُؤلِّف جسرًا يربط بين شبه جزيرة البلوبونيز وشبه جزيرة الأناضول، ولهذا فهي تتحكَّم بحكم هذا الموقع في الممرَّات المائيَّة إلى بحر إيجة وسواحل آسيا الصغرى ومقدونيا، ثم تُجاور عددًا لا يُحصى من جزر بحر إيجة مثل جزيرة رودس وسكربنتو وميلوس وساموس وخيوس ولمنوس وتاسوس وميتيلين، التي تُشكِّل جميعًا خطًّا دفاعيًّا أماميًّا لسواحل الإمبراطوريَّة البيزنطية المطلَّة على بحر إيجة وبحر مرمرة، بالإضافة إلى أنَّ الجزيرة غنيَّة بالأشجار التي يُمكن أن تُستغل في إنشاء الأساطيل، وغنيَّة بأراضيها الخصبة الممتدَّة على السهول الساحلية في شمال الجزيرة[3].
ويصفها الشريف الإدريسي بقوله: "جزيرة إقريطش وهي من أكبر الجزائر البحريَّة في بحر الشامي، وفيه من الجزائر الصغار ثمانية وعشرون جزيرة بين عامرة وغامرة؛ بل أكبرها عامر، وها نحن واصفون لها حالًا حالًا وفصلًا فصلًا والعون بالله...، وجزيرة إقريطش جزيرةٌ كبيرةٌ كما قلنا، وفيها من المدن مدينة الخندق وربض الجبن، وبها معدن ذهب وأشجار وفواكه، ويُعمل بها جيِّد الجبن الذي يتجهَّز به إلى جميع النواحي ولا يعدله شيءٌ من نوعه...، وفي أجبلها الوعول الكثيرة، وطولها من المغرب إلى المشرق اثنا عشر يومًا في ستَّة أيام، وبين آخر جزيرة أقريطش في الشرق إلى جزيرة قبرص أربعة مجار"[4].
النشأة والحضارة
منذ زمنٍ بعيد نشأت في هذه الجزيرة الحضارة المينويَّة نسبةً إلى الملك الأسطوري مينوس الذي أسَّس الحضارة والعمران في تلك الجزيرة منذ ما يُقارب من 4000 سنة وما لبثت هذه الحضارة المتميِّزة بجمال قصورها وروعة مبانيها أن بسطت سيطرتها على كامل بحر إيجة، ولا تزال هذه المعالم بارزةً في آثارها التاريخيَّة.
وينتسب الكريتيِّون إلى سلالة البحر المتوسِّط الذي يتَّصف باستطالة جماجمه؛ وإن كانوا قد تكلَّموا لغةً خاصَّةً بهم لاتعود بأصولها إلى الشرق أو الغرب في البحر المتوسط، وأنَّهم كانوا لايميلون -أسوة بالمجتمعات اليونانية القديمة- إلى التعرِّي؛ بل كانوا يرتدون ثيابًا جميلة، ويسكنون في بيوتٍ مخطَّطةٍ بشكلٍ دقيق، وأنَّ المرأة كانت تتمتَّع بمكانةٍ اجتماعيَّةٍ تُداني مكانة الرجل، كما عبدوا آلهةً من الطبيعة، لكن تقديسهم للأمومة جعلهم يعبدون إلهة أنثى أرفع مكانة من زوجها الذكر، وعلى شرف هذه الآلهة كانت تُعقد الألعاب الرياضيَّة التي احتلَّت مكانةً عظيمةً في حياة الكريتيِّين الاجتماعيَّة، التي اعتمدت على نظام اجتماعي إقطاعي؛ حيث رأس الملك نظامًا إقطاعيًّا تعهَّد بموجبه رجال الملك إمداده بالمساعدة عند الحاجة في حالات السلم أو الحرب مقابل مباركته سلطتهم في إقطاعاتهم، ولإيمان هذه المجتمعات الإقطاعيَّة بالحياة بعد الموت، قام الكريتيُّون بدفن أدوات المتوفَّى الشخصيَّة؛ وأحيانًا أثاث بيته معه في قبره.
وقد زرع الكريتيون القدماء الحبوب بأنواعها وغرسوا الأشجار المعروفة في منطقة البحر المتوسط، وأبرزها التين والزيتون والعنب، وأنَّهم ربَّوا الحيوانات الداجنة خاصَّةً الأبقار، واستخدموا الحمار وسيلةً لمواصلاتهم، وصنعوا أدواتهم من الفخار والخزف، وكذلك بعض الحلي والأسلحة البرونزية، وكانت تجارتهم المحلية مزدهرة؛ يشهد على ذلك توافر الطرق المرصوفة بين مراكز الاستيطان وكثرة المرافئ والعثور على كميَّات كبيرة من الموازين والمكاييل المدموغة بعلامات خاصَّة.
وبصورةٍ عامَّة، اتَّصفت الحضارة الميناويَّة برقيٍّ كبير، ويأتي في مقدِّمة إنجازات كريت الحضارية، تلك المجموعة القانونيَّة التي عُثِرَ عليها في مدينة غورتونا Gortyna ثالث أكبر مدن كريت بعد كنوسوس وفايستوس Phaestus، وهي مجموعة قواعد تنظِّم العلاقة بين الدولة والأفراد وكذلك بين الأفراد أنفسهم.
وعلى الرغم من كلِّ هذا التطور الحضاري في كريت فإنَّ حضارتها أفلت سريعًا وانهارت فجأةً في أواخر القرن الثاني عشر قبل الميلاد.[5]
التأثر بالحضارة المصرية القديمة
إنَّ الشواهد الدالة على أثر مصر في كريت كثيرة في كلِّ عصرٍ من عصور تاريخها، وقد بلغ تشابه الثقافتين في أول عهديهما حدًّا جعل بعض العلماء يظنُّون أنَّ موجةً من الهجرة قد حدثت من مصر إلى كريت أيَّام الاضطراب الذي وقع في عهد مينا؛ فالآنية الحجريَّة التي كشفت في مكلوس والأسلحة النحاسية الباقية من الطور الأول من العصر المينوي القديم، تشبه ما وُجِد من نوعها في مقابر الأسر المصريَّة الأولى شبهًا يُثير العجب، والبلطة المزدوجة تظهر على شكل تميمة في مصر؛ بل يظهر فيها كذلك "كاهن البلطة المزدوجة"، والموازين والمكاييل الكريتية مصرية في شكلها وإن كانت آسيوية في قيمتها؛ والأساليب المستخدمة في النقش على الحجارة الكريمة، وفي فن الخزف والتصوير تتشابه في البلدين تشابهًا جعل شپنگلر يعتقد أنَّ الحضارة الكريتية ليست إلَّا فرعًا من الحضارة المصرية.
ومن أشهر الآثار الحضاريَّة في جزيرة كريت هو قصر كونوسوس، وكذلك قصر التيه (اللابيرانث) الذي يظهر فيه التأثُّر الشديد بالحضارة المصرية القديمة؛ حيث يوجد في مصر قبله -أيضًا- مبنى (اللابيرانث المصري) الموجود الآن في الفيوم، وقد بُني في الدولة الوسطى، وقد عُثر مؤخَّرًا على بقاياه، أمَّا قصر (اللابيرانث في كريت) فقد تهدَّم ولم يبقَ منه سوى بعض الحوائط الحجريَّة القديمة، ومن اللافت في هذا القصر أنَّه اعتمد في تصميمه على أنَّ من يدخله لا يستطيع أن يخرج منه، ولا يعلم مخارجه سوى من قام ببنائه[6].
وقد عرف الكريتيون أنواع عديدة من الفنون التي تميَّزوا فيها وزاع صيتهم في العالم القديم، ومنها فن الفريسكو Fresco؛ وهو فن الرسم على الحائط؛ حيث استخدموا زخرفة الحوائط بالألوان وهي ما تزال جديدة الطلاء مبلَّلة، فينفذ اللون إلى الطلاء ويُصبح الطلاء واللون كيانًا واحدًا، وهذا ما دفع (ول ديورانت) إلى التحدُّث عن الفنان الكريتي ويقول: "من حقِّه علينا أن نقول إنَّ التصوير في العصور القديمة لم يُمثِّل الطبيعة بمثل النضارة التي مثَّلها بها التصوير الكريتي، مع جواز استثناء مصر القديمة من هذا التعميم"[7].
وقد أفل نجم تلك الحضارة وأصبحت تابعة بعد ذلك لحضارات عديدة كان آخرها الحضارة البيزنطية التي سيطرت عليها قرون عديدة وذلك قبل فتح المسلمون لها، وأعادوا إليها أمجاد الحضارة التليدة، ثم بعد محاولات عديدة سقطت مرة أخرى في يد البيزنطيين، إلى أن أعاد فتحها العثمانيون، ثم بعد ضعف الخلافة العثمانية وسقوطها أصبحت إلى الآن تابعة لدولة اليونان.
[1] معجم البلدان : المجلد 1، ص236.
[2] موسوعة ويكيبيديا الإلكترونية، مادة (كريت)
http://ar.wikipedia.org/wik، والموسوعة العربية العالمية، مجلد19، ص239، وسيد عبدالمجيد بكر: الأقليات المسلمة في أوربا، ص77.
[3] عبد العزيز سالم وأحمد العبادي: تاريخ البحرية الإسلامية في مصر والشام، ص40.
[4] نزهة المشتاق في اختراق الآفاق: الإقليم الرابع، الجزء الرابع، ص635-640.
[5] أ.د/ السيد رشدي: نشأة الحضارة اليونانية والرومانية، رسالة بحثية، كلية الآداب – قسم التاريخ والآثار – جامعة بنها.
[6] أ.د/ السيد رشدي: نشأة الحضارة اليونانية والرومانية، رسالة بحثية، كلية الآداب – قسم التاريخ والآثار – جامعة بنها.
[7] وِل ديورانت: قصة الحضارة 5/109.
قصة الإسلام