على غرار كل عام، منذ مطلع مارس/آذار يوجد احتفاء عالمي بالنساء تحت عدة أيام رسمية دولية ومحلية، يبدأ بيوم المرأة العالمي ويختتم باحتفالات عيد الأم في العديد من الدول العربية، وهو ما ينعكس على الشبكات الاجتماعية عبر زائريها الذين يعبرون بصور مختلفة عن تقديرهم لدور وتضحيات الأم في حياتهم، تحت شعارات عديدة مثل “شكراً يا أمي” أو “جملة تقولها أمك”، وربما تصبح فرصة سانحة للحديث عن أجمل الذكريات مع الأمومة.
ولكن وقبل أن يوشك الشهر على الانتهاء كان علينا أن نتعرف على الوجه الآخر للأمومة، وهو الجانب الخفي الذي ترويه الأمهات بأنفسهن.

بخلاف التعليقات الاحتفائية بتضحيات الأم العربية التي عبَّر عنها المغردون على تويتر، حيث كتبت سارة الذهبي، كاتبة مصرية ساخرة،منشوراً عبر صفحتها على فيسبوك، لاقى تفاعلا كبيراً، حيث تطرَّقت للدفاع عن الأمهات اللاتي يبحثن عن متنفس من عبء الأمومة، والحفاظ على مساحة خاصة بها، تواصل فيها التعلم والتفاعل مع عالم أرحب من جدران الأمومة، ويبدو أن الأمر لاقى قبولاً من الأمهات المتابعات اللاتي تفاعلن مع المنشور في نحو ألف تعليق و12 ألف إعجاب، ويبدو أن معاناتهن تلخصت في جملة “احنا بننزل الشغل عشان نفصل منهم شوية ونعرف نرجع نكمل معاهم تاني، الحوار كله إننا من كتر تعب الأمومة اللي هي طبعاً نعمة ما بعدها نعمة. ساعات بننسى ناخد ولو ساعة بريك لنفسنا”.
الأم لا تتعب. ولا تشتكي!

البوح عن متاعب الأمومة، ليس السائد في الثقافة الإنسانية بوجه عام، والعربية بوجه خاص، وعادة ما تقابل محاولات نساء مثل الذهبي الحديث عن حاجة الأم أن تواصل حياتها السابقة على الأمومة -وقد يكون منها العمل- باتهامات بالأنانية، والتجرد من مشاعر الأمومة. بدورها، فرقت الشاعرة والأستاذة الجامعية المصرية إيمان مرسال، في مقال بعنوان “الأمومة والعنف”، بين الأمومة السائدة، التي أطلقت عليها أمومة المتن، وتكون “عادة عطاء، تماهياً بين ذاتيْن، حباً غير محدود أو مشروط إلى حدٍّ كبير”، وبين “أمومة الهامش” التي تعبر عن الرعب والصراع والتوتر داخل الأمومة.
فسرت مرسال السبب وراء غلبة صورة الأمومة كعاطفة وغريزة فطرية خالية من أي صراع، قائلة “إن التعبير عن كل خبرة مختلفة تقابل بإدانة أخلاقيّة واجتماعيّة، ربما لهذا هناك ندرة في سرد خبرات الأمومة خارج المتن المتفق عليه”. وفي سياق الخبرة المتراكمة للنساء اللاتي يعبرن عن آرائهن على مواقع التواصل الاجتماعي، استبقت الذهبي الهجوم عليها، قائلة “لماذا لا نتقبل تعبير الأم عن إرهاقها وألمها، ولماذا نقيم المشانق للأمهات، بل ونقابلها برد مثل كل الأمهات تقوم بنفس التضحيات”، في إشارة لكونه واجباً لا يستلزم الشكر.
ولكن ملاحظة مرسال الخاصة بندرة حكايات الأمهات عن الوجه غير المألوف للأمومة شهدت بعض التغيير مؤخراً. فمحاولة الذهبي، تأتي ضمن محاولات فردية لأمهات ينشرن في الفضاء الإلكتروني، قصاصات من تجاربهن، تبوح فيها بالآثار الجانبية للأمومة؛ اكتئاب، وغيره من الأمراض النفسية والعضوية، السير كالبهلوان ما بين العمل والبيت، وشعور مزمن بالذنب. على سبيل المثال، تداولت العديد من الصفحات أو الحسابات على فيسبوك، منشوراً عن عدم واقعية مفهوم الأمومة المثالية”.
هموم مشتركة

عَوَّلت مرسال في مقالها الذي تضمن تجربتها الشخصية في الأمومة، على الحكي كوسيلة الأمهات للتخفُّف من أعبائهن، قائلة “أنْ تسردي تجربتك أو تأنسي إلى السرد الذي يساعدك على إدراك أنك لست وحدك”. مرسال التي تُدرس الأدب العربي في جامعات أميركية، تطرَّقت إلى خبرات الأمومة في فقد الأطفال منذ تجاربها الشعرية، ومع عام 2014 بدأت كتاباً، يمثل المقال السابق، الفصل الأول منه، صدر مؤخراً بعنوان “كيف تلتئم.. عن الأمومة وأشباحها”.
أما عن السيدات اللاتي لا يمتَهنَّ الكتابة أو الشعر، فبعضهن استغل المتاح من فضاء إلكتروني للفضفضة. على سبيل، الغلبة بين أكثر من 6 آلاف متفاعل مع منشور الذهبي، للنساء اللاتي أيدن معظمهن رأي الذهبي. علقت نهى عمار “كلامك بيلامس كل الصراع النفسي اللي جوايا، أنا زهقت من الأنانية نفسي زي ما بدي كل اللي حواليا يتعودوا يدوني إن شا الله أسمع كلمة شكراً ربنا يخليكي أي حاجة، مفيش كله اتعود ياخد، بادفع كل حاجه من صحتي واعصابي وعمري”.
هل الشعور بالذنب قدر الأمهات؟




الصراع، كلمة تكررت كثيراً في تعليقات المتفاعلات مع منشور الذهبي، وهو مرادف لكلمة أكثر تداولاً بين الأمهات “الشعور بالذنب”. حسب تجارب أمهات شابات، تتعدد أسباب منبع شعورهن بالذنب، قد يكون بعضها خارجياً، متمثلاً في ضغط الزوج أو الأسرة الكبيرة على الأم للوفاء بكافة الواجبات على أكمل وجه، وبعضها داخلياً، أن ترى انعكاس صورة “الأم المثالية” في مرآتها.
عن “كلام الناس” ووقعه على الأمهات، تحدثت رضوى رضوان، 31 عاماً، مهندسة وأم لطفلة عمرها 6 سنوات، عن الأحاديث في مجتمع المغتربين؛ حيث تعيش مع زوجها منذ خمس سنوات بالمملكة العربية السعودية “المجتمع يضعني تحت ضغط كبير، سواء إذا مكثت بالمنزل دون عمل فسيقولون عني لا أساعد زوجي، وإذا التحقت بعمل يُشعرونني بالتقصير تجاه ابنتي”.
ولكن الشعور بالذنب أحياناً ينتاب الأمهات، ليس فقط بسبب ضغوط من حولها، إنما أيضاً بسبب الشعور بالتقصير تجاه الأطفال، وعدم قدرتها على أن تكون أماً مثالية بالقدر الكافي، وهذا ما تؤكده إيمان رفعت، 28 عاماً، كاتبة حرة في مواقع إلكترونية، وأم لطفلة عمرها 3 أعوام، لا تلوم زوجها وأسرتها الكبيرة على شعورها الدائم بالذنب، قائلة “شعوري بالذنب بسبب أنني أحلم أن أكون مثالية، وأصبح سوبر ماما، وبالطبع أفشل في تحقيق تلك المهمة”.
لماذا تعمل الأمهات؟

عندما تناولت الذهبي خروج الأم إلى العمل، لم تبتعد كثيراً عن مفهوم “الأمومة المثالية”، حين جعلت من أسبابها الوفاء باحتياجات الأبناء المادية في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة. “حتى نستطيع سد احتياجات الأسرة ومساعدة الزوج، خاصة أن عمل المرأة لم يعد رفاهية الآن”.
سبب آخر لفتت الذهبي الانتباه إليه، وهو حاجة الأم للعمل لإشباع شخصي، كإنسانة. حيث تعاني بعض السيدات من الاكتئاب بسبب عدم الخروج من المنزل لشهور طويلة، خاصة بعد مرحلة الولادة.
وهي الحالة النفسية التي مرت بها رضوى أحمد، بعد أن تحطمت طموحاتها المهنية مع خبر حملها المفاجئ، ونقل زوجها محل إقامتهم من دولة إلى أخرى.
كيف تواصل الأمهات الاستيقاظ صباح اليوم التالي؟



وإن تعددت أسباب الحمل الذي أثقل كاهل الأمهات الشابات، ما بين ضغوط خارجية وصراعات داخلية، فإنهن أوجدن طرقاً مختلفة لمواصلة الحياة والعطاء وسط أسرهن. لم تكتف رضوى بأدوية الاكتئاب، فأصرت أن يساعدها زوجها على تحمل عبء البيت، ويكف عن مقارنتها بأمه، كما قامت بتعيين مساعدة منزلية.
سلوى، 28 عاماً، أم عاملة لطفلة وحيدة عمرها 4 سنوات، البكاء يخفف حدة شعورها بالذنب، إلى جانب تعويض طفلتها في أوقات أخرى عن أوقات غيابها، حيث تقوم بالاحتفال في أي مناسبة لإدخال البهجة على أسرتها.
مبدأ ترتيب الأولويات يساعد نهى، في التوفيق بين رعايتها طفلة عمرها خمس سنوات وعملها كصيدلانية، قائلة “أحاول ترتيب الأولويات، على الأمهات أن يدركن أن الأطفال في المنزل لا يعني بالضرورة أن يظل البيت مرتباً طوال الوقت، فمن حقهم اللعب واللهو طوال اليوم، أما عن ترتيب المنزل فيمكن تأجيله لليوم التالي”.
“يعني بما أنه عندي طفلة، فمش مهم أوي إن البيت يكون متروَّق. طبيعي اللعب في كل مكان مش أزمة يعني، ممكن اؤجل المواعين لتاني يوم”.
أما إيمان التي يؤرقها كغيرها من الأمهات شعور بالذنب متوارث من جيل إلى جيل، تعيد النظر إلى نفسها كإنسانة قبل أن تكون أماً، لديها حقوق عليها أن تطالب بها، متجاوزة الخوف من رد فعل المجتمع.