يعرف تاريخ البحرية خلال العصور الوسطى، أنَّ الفاتحين المسلمين في شمال إفريقيا واجهوا صعوبات مصدرها نشاط البحريَّة البيزنطيَّة، وقد اضطرَّهم ذلك إلى القيام بنشاطٍ بحريٍّ مماثل، فاستقدموا من مصر عددًا من صنَّاع السفن الأقباط، وأنشأوا ما أطلق عليه المؤرِّخون اسم (دار الصناعة)، وذلك أثناء ولاية حسان بن النعمان من قبل عبد الملك بن مروان، ثم لم يلبث المسلمون أن أسَّسوا أو جدَّدوا موانئ أخرى على غرار ما فعلوا في تونس، وانتظمت في الشمال الإفريقي سلسلةٌ من المراسي تعجُّ بالمسافرين وأرباب التجارات والمقاتلة نحوًا من أربعة قرون، أخذت بعدها في التراجع أمام قوى بلدان غرب أوربَّا، ثم كان ظهور المرابطين وبعدهم الموحدون، إيذانًا بتدارك هذا الضعف واستحالته قوَّةً يُحسب لها حسابها.
البحرية الإسلامية في صقلية
منذ بداية القرن الثالث للهجرة، أيَّام حكم زيادة الله بن الأغلب في تونس (201-223هـ)، نازل الأسطول الإسلامي صقلية بقيادة أسد بن الفرات، ثم تتابعت الجهود إلى أن فُتحت، وظلَّت في حوزة المسلمين أزيد من ثلاثة قرون حتى سقطت في قبضة النورمان، وإنَّ استحصار هذه الجزيرة يُنبئ عن مدى قوَّة الأسطول الإسلامي الذي اتَّخذ منها منطلقًا إلى الاحتكاك بشواطئ سردينيا ومدن الجمهوريات الإيطالية المجاورة، فضلًا عن أنَّ ضيق المجاز بين الجزيرة المفتوحة وبين رأس بونة جعل المنطقة ذات خطورةٍ لا يُستهان بها من حيث العبور.
البحرية الإسلامية في الأندلس
وهناك منطلقٌ بحريُّ آخر أقدم من سابقه وأشدُّ خطرًا وهو مضيق جبل طارق؛ فعن طريقه دخل المسلمون إلى الأندلس، ومن الأندلس حطوا في جزر البليار، وفي هذه الجزر كانوا يجدون الماء والذخيرة والطعام ليحتكوا بكورسيكا وشواطئ جنوب شرق فرنسا، ولم يكن نشاط هذه الجزر الواغلة في مياه المتوسط إلَّا جانبًا من نشاطٍ أوسع لموانئ سبتة وطريف ووهران والجزيرة وألمرية وبلنسية، ولعلَّ الدولة الأموية في الأندلس كانت أكثر حاجةً إلى الاهتمام بهذا الواقع البحري.
وليس ذلك بالنظر إلى تثبيت هيبتها تجاه جيرانها من بلدان الغرب المسيحي فحسب؛ بل كذلك لأغراضها السياسيَّة والحربيَّة تجاه منافساتها من الدول الإسلامية؛ ذلك أنَّ دولة بني أميَّة في الأندلس كانت تعتبر مسألة مراقبة مضيق جبل طارق أمرًا في غاية الأهمية، وهي لذلك بذلت الكثير من أجل إبقاء شواطئ شمال المغرب في نطاق نفوذها، وإن لم تتعنَّت ضدَّ الدول التي نشأت في المناطق الداخليَّة المصاقبة لتلك الشواطئ شأن ما فعل العبيديون مثلًا، ولم يكن يعني هذا سوى الترحيب بأيِّ حاجزٍ يُبقي سيطرتها على المضيق.
ومن الطريف أنَّ هذه الدولة، التي بذلت الجهود لصيانة أمنها وهيبتها في المتوسط، فوجئت عن طريق المحيط الأطلنطي بغاراتٍ خطرة من النورمان القادمين من الجزر البريطانية، فوصلت غاراتهم إلى قلب إشبيلية عبر الوادي الكبير، وهي غارات كبَّدت الأمويِّين أكثر من خسارة، كما برهنت على مقدرتها الحربيَّة فوق المياه.
هكذا ظلَّت الدولة الأمويَّة تمثِّل جانبًا من سيادة الإسلام في غرب المتوسط، إلى أن انتهت في مطلع القرن الخامس فأضحت بَحَرِيَّتُها تركةً واهنةً كالإمارات الصغيرة التي أعقبتها، وهو ما ستنتهي إليه تونس بعد قرنٍ ونصف.
البحرية الإسلامية زمن المرابطين
هذا النشاط البحري الذي انتهى إلى الفتور -بل كبَّد أصحابه المخاطر والخسائر- سينبعث من جديد، سينتفض على نحوٍ لا يُشبه المرحلة السابقة، سيستأنفه المرابطون فيما دخلت تحت حكمهم من موانئ المغرب الأوسط وفي المغرب والأندلس، وسيكون على باقي الشمال الإفريقي أن ينتظر قرنًا ونصف القرن حتى يظهر عبد المؤمن الموحدي؛ ليزيد البحريَّة المرابطيَّة إنماءً ثم يُشرك فيها تونس وليبيا.
عندما انطوى كلٌّ من المغرب والأندلس تحت حكم سلاطين المرابطين، كان المجال البحري في جملة ما لا بُدَّ من التفكير فيه، والمؤرخون يتحدثون عن يوسف بن تاشفين -يوم ركب السفينة ليعبر إلى الأندلس- وقد ملك التهيب عليه نفسه: إنَّه ابن الصحراء التي تموج رمالًا وليس ذا صلةٍ متينةٍ بالبحر الصاخب الأمواج! غير أنَّه إذا كان للنشأة والمحيط الصحراويَّين مواضعاتهم، فإنَّ للقيادة والطموح حوافزهما.
وقد وجد يوسف -شأن الأمويين من قبل- أنَّه لا بُدَّ من ركوب البحر في سبيل الأندلس، ثم بعد أن دفق في شئونها ازداد إدراكًا لخطورة البحر على تجارتها وحربها؛ فهي من الشرق مكشوفةٌ على البحر، وهي لا تعدم عشرات المدن الغنية العامرة في هذا الشرق المكشوف، وهي عرضةٌ إلى أعداء كثر، من جنوبيِّين وبيزيِّين وفرنسيِّين يتعاونون مع خصومه نصارى شمال إسبانيا، والبلاد -بعد ذلك- مكشوفة من جهة الغرب على المحيط الأطلسي؛ حيث أَلِفَ أن يعبر محاربوا وقراصنة بحار الشمال وإنجلترا والبلدان المنخفضة، ولا شَكَّ أنَّ هذه أمورٌ عرفها من أهل البلاد المجرِّبين، ثم رتَّب لها ما يلزم من أهبات، ولم يكن بالصعب على المرابطين أن يضمنوا هيبتهم البحريَّة بما توفَّر لديهم من مالٍ عريض ومن عناصر بشريَّةٍ ملائمة، وليس من الصدفة أنَّ أخلافهم الموحدين استطاعوا القضاء على كلِّ مظهرٍ لدولة المرابطين قبل أن يتمكنوا من القضاء عليهم في البحر؛ فقد ظلَّ نسل ابن غانية المرابطي معتصمًا في جزر البليار يتحيَّن كلَّ فرصةٍ لمهاجمة الأملاك الموحدية، ولم ينقطع لهم دابرٌ إلَّا في عهد رابع ملوك الموحدين الناصر لدين الله بن يعقوب الموحدي.
إذ حاولنا أن نجد لهذه الانتفاضة وقائع من تاريخ المرابطين، كان علينا أن نتجه نحو الأندلس خلال كفاحهم ضدَّ نصارى الإسبان، ويتعلق الأمر بالاعتبارات التالية:
1- أنَّه باستثناء قطلونيَّة كان موقع الممالك الإسبانية الأخرى لا يُمكنها من أيِّ قصبةٍ تنفس على البحر الأبيض المتوسط، وقد بذل النصارى الإسبان جهودًا كبرى للحصول على شيءٍ كهذا.
2- أنَّ الإسبان كانوا يستعينون على مبتغاهم بشتَّى الروابط التي تجمعهم بجيرانهم من بلدان الغرب المسيحي، كالطليان والنورمان في صقلية، وكالفرنسيين الذين كانت بعض أجزاء بلادهم تدين بالتبعية لبعض ملوك الإسبان، كما نجد أنَّهم استعانوا على المسلمين ببحارةٍ لا علاقة لهم بالمتوسط.
وهي اعتباراتٌ تُبيِّن مدى الجهود البحريَّة التي كان على المرابطين بذلها، فمثلًا في سنة (509هـ/1115م) استولى القطلونيون بمعاونة البروفنسيين والبيزيين على جزيرة ميورقة ليتَّخذوا منها قاعدةً ثابتةً للوثوب بمدن الساحل الشرقي، غير أنَّ المرابطين سرعان ما أخرجوهم من الجزيرة واستعادوا قاعدتهم الهامَّة، ولمـَّا كانت الخطط البحرية سبيلًا إلى اغتنام الأراضي، كان امتلاك بعض الأراضي ضرورةً لا بُدَّ منها للوصول إلى البحر، وهذا هو الوضع الذي كان قائمًا بالنسبة إلى المدن الإسلامية في "الثغر الأعلى" شمال شرق الأندلس.
لذلك فإنَّ الإسبان طالما ركزوا جهودهم للسيطرة على المدن والحصون الواقعة على ضفة نهر الإيبرو، الذي يُعتبر منفذًا ملاحيًّا هامًّا إلى البحر المتوسط، لذلك كانت حروب المرابطين في هذه المنطقة من أقسى حروبهم في الأندلس، خاصَّةً حملاتهم المتبادلة مع ملك أراجون ألفونسو المحارب، ولو أنَّ هذا الملك حالفه النصر في معركة أفراغة سنة 529هـ لانفتحت أمامه السبل إلى شواطئ المتوسط، ولخسر المرابطون شيئًا كثيرًا في مجالهم البحري.
لم يكن نشاط المرابطين قاصرًا على شواطئ المتوسط، بل شمل شواطئهم على المحيط الأطلسي، باعتبار امتداد السواحل الغربية لمملكتهم؛ فقد كان مجرى الوادي الكبير -الذي يقطع أشبيلية- طريقًا ملاحيًّا يربط هذه المدينة بسبتة وطنجة عبر قادس، كما يربطها بالموانئ المجاورة كأشبونة وقلمرية من شواطئ البرتغال، وكان بهذه الشواطئ أسطولٌ عامل.
ويذكر التاريخ أنَّ المرابطين باغتوا به اشتوريش وجليقية خلال العشرة الثانية من (القرن السادس الهجري / الثاني عشر الميلادي)، وكان معظم من يُشارك في معارك هذه الجهة -من غير الإسبان والمرابطين- بحَّارة الإنجليز والألمان والأراضي المنخفضة، وتجدر الإشارة إلى أنَّ هذا الممر عرف نشاطًا متزايدًا خلال حكم المرابطين؛ لأنَّه كان طريق هؤلاء البحارة للمشاركة في الحروب الصليبية وأحيانًا لأعمال القرصنة، وهم لذلك كانوا يعرجون على الموانئ الإسلامية أو الإسبانية قصد المشاركة في الفتح أو للتزوُّد بحاجتهم من المؤن، وبفضل هؤلاء استطاع المسيحيون الإسبان أن يستولوا على أشبونة خلال الفتنة التي نشبت في الأندلس غداة انهيار دولة المرابطين سنة 541هـ.
ذلك –بإجمال- هو الوضع البحري، كقوَّةٍ حربيَّةٍ في دولة المرابطين، ولا يقلُّ أهميَّةً عنه جانب التجارة والنقل؛ فالنشاط التجاري بين شطري المملكة لا يُمكن تصوُّره من دون عبور البحر، ومثله تنقل نسبة من الحجاج، وقد بدا خلال انهيار دولة المرابطين أنَّ الحوادث قد نالت من متانة قوَّتهم البحريَّة؛ فقد سقطت ألمرية في قبضة الأسطول النصراني سنة 541هـ، كما اقتحم القطلونيون والجنوبيون طرطوشة سنة 542هـ، مع ما رافق ذلك من سقوط أشبونة كما سبق، والواقع أنَّ المرابطين كانوا يُمثِّلون قوَّةً بحريَّةً فتيَّة، وقد ظلَّت قوَّتهم تلك مرهوبة الجانب خلال فترة عظمة دولتهم.
وعندما عملت فيهم ثورة ابن تومرت عملها، مع ما رافق ذلك من فتنةٍ في بلاد الأندلس، بدا وكأنَّ أهميَّة بحريَّتهم أخذت في النقصان، وهو أمرٌ طبيعيٌّ نتيجة قلَّة الإمداد والتحسينات، ولكنَّ الأمر لم يطل كثيرًا؛ فسرعان ما استثبتت الأمور السياسية من جديد، وتابع الموحدون نشاطهم البحري من حيث انتهى أسلافهم.
البحرية الإسلامية زمن دولة الموحدين
وأول ما يُلاحظ بصدد الجهود البحريَّة لدولة عبد المؤمن بن علي، أمران: اتِّساع رقعتها تبعًا لاتساع مملكته، وتزويدها طبقًا لأنظمةٍ أكثر دقة. لقد بلغ ملكه من الاتساع حدًّا لم يبلغه المرابطون قبل؛ إذ أضاف إليه ما كان بيد دولة بني حماد في جزائر بني مزغنة سنة 543هـ، ثم ما كان بيد فلول دولة بني مناد الصنهاجية (بني زيري) في تونس، ثم ما توج ذلك بمعركته البحرية الكبيرة لطرد نورمان صقلية من شواطئ تونس، وقد كان لاتساع ملكه على هذا النحو أن استطاع أن يوفِّر لبحريَّته موارد عظيمة، سواءٌ من حيث الصرف عليها أو من حيث تزويدها بالعناصر البشريَّة المجربة.
لقد قام بتنظيم مملكته إداريًّا وماليًّا، وكان في جملة ما فرض على الأقاليم من واجبات، تقديم عددٍ معيَّنٍ من الرجال لأداء الخدمة البحريَّة، ومع ذلك فقد كان يحرص على إعداد رجال بحريَّته بما لا يقل عن سواهم من إطارات الدولة؛ ففي معاهدة التعليمية بمراكش كانت فنون السباحة والقتال والحصار البحري وإدارة السفن موادًّا لها حيِّزها ضمن البرامج المقرَّرة، يقوم بتعليمها أمراء بحرٍ لهم تجاربهم وخبراتهم، وكان ملحقًا بهذا التعليم أحد الصهاريج؛ حيث يُمارس الطلبة (الحفاظ) مختلف تمارينهم قبل أن يأخذوها، على نطاق أوسع في المراسي المغربيَّة.
وكانت الغابات المنتشرة في الشمال الإفريقي والأندلس مصدرًا للأخشاب اللازمة لبناء السفن، وكانت ألمرية والجزيرة وسبتة وطنجة وسلا والجزائر وتونس دُورًا للصناعة تعجُّ بالعرفاء ومهندسي السفن المتفاوتة الأحجام.
ويذكر المؤرخون أنَّه في سنة 557هـ (أي قبل وفاته بعامٍ واحد) أمر بالإكثار من إنتاج السفن، فأوجدوا له سبعمائة قطعة، وإذا عرفنا أنَّ هذا العدد (وهو مجالٌ للنظر) أُضيف إلى القطع التي سبق أن استعملها في طرد النورمان من المهدية بتونس قبل ثلاث سنوات، أدركنا مدى النموِّ الذي بلغته القوَّة البحرية في الغرب الإسلامي أيَّام عبد المؤمن.
لقد قيل: إنَّ هذا الملك كان يعتزم اقتحام بلاد الروم حينما أوصى بالزيادة في عدد وعدَّة الأسطول، وقد نشكُّ في أنَّ هذا الأمر كان جَدًّا لا يشوبه روحٌ من المناورة، ولكن من المؤكَّد كان استجابةً لواقعٍ بحريٍّ خطير: وهو أنَّ بحريَّة الغرب المسيحي أخذت تتكتَّل ضدَّ بلاد الإسلام على نحوٍ أكثر من ذي قبل، وناهيك بأطراف هذا العدو مجتمعة في مدن الجمهوريات الإيطالية ونورمان صقلية والإسبان الشماليين وأتباعهم في جنوب شرق فرنسا، وبقطع النظر عن هذه القوات المسيحية كان هناك جانب لا يُمكن إغفال خطره، وتُمثِّله بقايا المرابطين في ميورقة برئاسة بني غانية.
وليس من الصدف أن تعرف البحرية هذا الازدهار في عصر عبد المؤمن بن علي؛ ذلك أنَّه لم يكن أقلَّ تعلُّقًا بالعلوم ولا أقلَّ رغبةً في استغلالها للفائدة العمليَّة، سواءٌ في مجالات السلم أو ميادين الحروب، فالأمر الذي أصدره "بتكسير" أراضي ملكه العريض سنة 555هـ يفترض معلومات جغرافية ورياضية دقيقة، كما أنَّ أساليبه في كثير من المواقع الحربية تُوحي باهتمامٍ بالغٍ بشئون الهندسة وتطبيقاتها في شئون الحروب، وهي معلوماتٌ لا يستغني عنها أمراء البحر أو قواد الأساطيل، أضف على ذلك ما يلزم لهذه الخدمة من علومٍ أخرى كالميقات ورسم الخرائط وآلات القياس، وهي علومٌ كانت ثقافة المسلمين في الأندلس وشمال إفريقيا قد تشبَّعت بها كثيرًا.
وإذا كانت للملاحة في كلِّ إقليمٍ اعتباراتها الخاصَّة -وهو ما ينعكس على طريقة ممارستها- فالمعتقد أنَّ البحرية المغربية إلى عهد عبد المؤمن كانت متأثِّرة بالأساليب العلمية لمعاهد الأندلس وإفريقيا، وهي أساليبٌ ذات أصولٍ شرقيَّةٍ عربية، خصوصًا منها ما يُلائم البحر المتوسط، ولعلَّ هذا تؤكِّده دهشة الرُّبَّان البرتغالي (فاسكو دي جاما) في (القرن التاسع الهجري / الخامس عشر الميلادي)، من اختلاف أساليبه -وهي في مجملها ميراث أندلسي عربي- عمَّا وجده عند بحَّارة المحيط الهندي.
هكذا تابع عبد المؤمن بن علي تقوية البحرية المغربية بعد دولة المرابطين، وسيأتي أخلافه بعد، ليُضيفوا إلى قصَّتها فصولًا أخرى.
______________________
المصدر: مجلة دعوة الحق المغربية، العدد 118.