بقلم: مازن لطيف علي
ولد جعفر حمندي في بغداد عام 1894 من عائلة عربية، عرفت بالصلاح والتقوى ،اتخذت هذه العائلة التجارة مهنة لها، على نطاق محدود و مارس حمندي في مقتبل حياته مهنة التجارة وفي الوقت نفسه واصل تحصيله العلمي في المدرسة الجعفرية حتى اجتياز المرحلة الثانوية، فيها واصبح مؤهلا للدراسة الجامعية، فقد تسنى له الالتحاق بكلية الحقوق و تخرج منها سنة 1925 مع مجموعة منهم: صالح جبر و رؤوف البحراني و عباس مهدي و محمد حسن كبة و منير القاضي و احمد زكي الخياط وسعد صالح جريو و عبد الرزاق الازري و عمر العلوان و احمد القشطيني. وقد تبنى الملك فيصل الاول هؤلاء الشباب و شجعهم على مواصلة دراستهم العليا، واثبتت هذه المجموعة ومنهم جعفر حمندي بانهم كانوا على قدر المسؤولية و السيرة الحسنة و النزاهة و الاستقامة و التواضع. وبعدها عين جعفر حمندي قاضيا في محاكم بغداد و الكاظمية، وبعدها قاضيا منفردا في النجف الاشرف، واصبح قائمقام لنفس المدينة، بترشيح شخصي من قبل الملك فيصل الاول عند زيارته لمرقد الامام علي بن ابي طالب، تنقل حمندي بين عدد من الاقضية كقائمقام،ثم رقي الى منصب متصرف (محافظ)وبعدها تنقل كمحافظ لعدة محافظات، و في سنة 1937، أصبح وزيرا للمعارف في وزارة حكمت سليمان و بعد استقالة الوزارة اعيد تعيينه محافظا، كان اخرها محافظة الدليم (الانبار حاليا)
بعد استقالة تلك الوزارة بسبب معارضة الوصي و نوري السعيد لسياستها السلمية مع من عاضدوا و ناصروا حركة رشيد عالي المناوئة للحكومة البريطانية و لكون الوزارة جنحت الى انتهاج سياسة التسامح معهم واخفقت في اتخاذ اي اجراء صارم ورادع ضدهم وانها لم تستجب الى طلبهما والعدول عن هذا النهج السلمي الذي اختطته في سياستها
اعيد تعين جعفر حمندي محافظا لعدة محافظات كان اخرها محافظا لبغداد حتى استقال منها عندما اشتد خلافه مع المستشار البريطاني في عهد صالح جبر وزير الداخلية آنذاك نتيجة تدخل المستشار البريطاني في امور هي من صميم واجبات المحافظ و خاصة فيما يتعلق بالمسائل المعيشية وتوجيهها لصالح القوات البريطانية على حساب الشعب العراقي الذي كان ينوء تحت اثار الحرب العالمية الدائرة آنذاك وبعد انفكاكه من وظيفته كمحافظ اتجه الى ممارسة المحاماة وعندما قررت الحكومة اجراء الانتخابات العامة للمجلس النيابي في بدابة كانون الاول سنة 1944 اثر حل المجلس السابق في 9/6/943 رشح نفسه عن محافظة الحلة (بابل حاليا) وفاز فيها وقد سجلت له اثناء عضويته في المجلس مواقف وطنية جريئة منها توجيه النقد الشديد لخطاب العرش الذي القاه الوصي في الدورة الاولى لذلك المجلس الذي انعقد في 12/1/ 1944 معتبرا انه كسابقه مليئا بالوعود دون تنفيذها، و غيرها من المواقف الوطنية دون الاكتراث بتداعيات تلك المواقف التي تثير حفيظة الحكومة و غضبها.
وبعد حل المجلس واجراء انتخابات جديدة في شهر مايس سنة 1947 في ظل حكومة نوري السعيد التاسعة، فاز جعفر حمندي للمرة الثانية نائبا عن مدينة الكاظمية التابعة لمحافظة بغداد، وبعد استقالة الوزارة وتشكيل صالح جبر لوزارته، وتضمن منهاجها عزمها على ابرام معاهدة مع بريطانيا لتحل محل معاهدة 1930 وفعلا اجريت المفاوضات لهذا الغرض مع الجانب البريطاني في بغداد تحت اشراف الوصي واستمرت هذه المفاوضات حتى بداية سنة 1948 حيث توصل الطرفان الى وضع الصيغة النهائية للمعاهدة التي اطلق عليها (معاهدة بورتسموث) و جرى نشر هذا الخبر والترجمة العربية لنصوصها في الصحف العراقية، فاعلنت الاحزاب الوطنية شجبها لها كحزب الاستقلال والوطني الديمقراطي وحزب الاحرار و الجبهه الدستورية التي تشكلت من عدد من النواب المعارضين بينهم النائب جعفر حمندي واعتبرت هذه الجهات ان هذه المعاهدة لا تلبي اماني الشعب الذي كان يتوق الى الانعتاق من براثن الاستعمار البريطاني .
وعلى اثر المواقف التي اتخذتها تلك الاحزاب من المعاهدة اجتاحت العراق مظاهرات صاخبة مطالبة بسقوط حكومة صالح جبر إلإ ان الحكومة تصدت لها وحاولت قمعها بقوة السلاح مما زاد من توسعها وتصاعدها.
وفي خضم ذلك الوضع المتأزم دعى الوصي على العرش عددا من الزعماء السياسيين بينهم رؤوساء الاحزاب و بعض الشخصيات من قيادات المعارضة وبينهم جعفر حمندي الى حضور اجتماع عاجل. اصدر المجتمعون اثر انعقاده بيانا اعلنوا فيه رفضهم الكامل لتلك المعاهدة فاستقبل الشعب هذا البيان بالترحاب.
إلا ان اصرار صالح جبر رئيس الوزاراء على عرض نصوص المعاهدة على مجلس النواب لبيان مدى تحقيقها لاماني الشعب الوطنية وذلك حسب رايه وارادته، مما اثار هذا الاصرار الرأي العام من جديد و عادت المظاهرات بشكل اعنف من ذي قبل واشتدت في يوم 26/1/1948 ما جعل الحكومة تلجأ الى استعمال السلاح ضد المتظاهرين العزل وادى الى استشهاد عدد من المتظاهرين .
وازاء تفاقم هذا الوضع المتوتر الذي وصلت اليه البلاد توالت اجتماعات السادة النواب المنتمين الى الجبهة الدستورية وروؤساء الاحزاب وبعض القادة السياسيين لتدارس ما ينبغي القيام به، اذ عقدت تلك الاجتماعات في دار جعفر حمندي احد اركان الجبهة الدستورية المعارضة وضمت الاجتماعات الكثير من القادة السياسيين انذاك منهم على سبيل المثال لا الحصر محمد رضا الشبيبي ونصرت الفارسي وجعفر حمندي عن الجبهة الدستورية وكامل الجادرجي وحسين جميل ومحمد حديد عن الحزب الوطني الديقراطي وعلي ممتاز الدفتري وسعد صالح عن حزب الاحرار ومحمد مهدي كبة وفائق السامرائي وصديق شنشل عن حزب الاستقلال وغيرهم من القادة السياسيين والنواب مثل نجيب الصائغ ونجيب الراوي وغيرهم وقرروا بالاجماع، رفع احتجاج شديد الى الوصي مطالبين الحكومة بوقف ممارساتها تلك و قدُُم هذا الاحتجاج مشفوعا باستقالة اثنين وعشرين نائبا من مجلس النواب بينهم نائب بغداد جعفر حمندي. وبعدما وصلت الازمة الى تلك المرحلة من الاحتقان وتوتر الاجواء اذعن رئيس الوزراء الى الامر الواقع فقدم استقالته منصاعا، فقبلت استقالته وكلف السيد محمد الصدر بتشكيلها فالفها، وكان قرارها الاول هو حل المجلس النيابي واجراء انتخابات عامة جديدة .
تقدم جعفر حمندي بترشيح نفسه لهذه الانتخابات مرة ثانية عن مدينة الكاظمية ضمن محافظة بغداد فقوبل هذا الترشيح من قبل اهالي المنطقة الانتخابية بالترحاب والتأييد الساحق بالنظر لمواقفه الوطنية و حسن سيرته و نزاهته إلا ان الحكومة اتخذت كافة التدابير وحتى العسكرية منها للوقوف دون نجاحه بسبب موقفه الصلب المعارض لابرام معاهدة بور تسموث وازاء الموقف الحكومي هذا آثر جعفر حمندي الانسحاب من الانتخابات درءً لما سيؤول اليه هذا الواقع من احتمال حدوث تصادم بين ابناء الكاظمية وبين القوات الحكومية فيما لو استمرت عملية الانتخابات.
وخلال تلك الفترة من الاحداث رشح جعفر حمندي نفسه لتولي رئاسة نقابة المحامين وفاز فيها لدورتين متتاليتين بعد ان حصل على شبه اجماع على ترشيحه.
وعمل اثناء تسنمه المنصب على ادخال اصلاحات كثيرة على مهنية النقابة كما دأب على رفع شأنها واعلاء مكانتها و الحفاظ على كرامة واحترام منتسبيها لدى مرافق الدولة على اختلافها.
كانت المعارضة التي تمثلت بشخصيات سنية و شيعية مستبعد فكرة الطائفية، جملة وتفصيلا، فقد وقفت ضد حكومة صالح جبر لتبنيها المعاهده الجائرة بحق الشعب العراقي فقط ، بل لم يكن هذا الأمر محل اعتبار او محط خلاف لديها. ومن أمثلة الشخصيات الشيعية المعارضة نذكر: محمد مهدي كبة، محمد رضا الشبيبي، جعفر حمندي، صادق البصام، ذيبان الغبان غيرهم. ومن المعارضين السنة نذكر: كامل الجادرجي، علي ممتاز الدفتري، وحسين جميل، ونجيب الراوي، ونصرة الفارسي.
لا بد لنا الان بعد عرض تلك الاحداث ان نعرج على ذكر ما انجزه جعفرحمندي من اعمال خلال تسلمه المناصب الادارية وغيرها بصورة مقتضبة وعلى سبيل المثال فقد تمكن بعد جهد حثيث متواصل مع الجهات المعنية من افتتاح مدرسة ثانوية في مدينة النجف الاشرف في الوقت الذي لم تكن فيه مثل هذه المدارس الا في المدن الكبرى وهي: بغداد _ الموصل _ البصرة، وآزره الكثير من سكان هذه المدينة على انجاز هذا المشروع. كما تمكن من افتتاح مدرسة للبنات في نفس المدينة، رغم المعارضة الشديدة التي اصطدم بها من قبل رجال الدين آنذاك والتهديدات التي تلقاها من بعض الجهات المنغلقة ذهنيا واجتماعيا، و التي كانت تعتبر تعليم المرأة امرا معيبا. كما انه قام بتوسيع مدينة النجف الاشرف بفتحه عدة منافذ في السور الذي كان يحيط بمدينة النجف الاشرف، وانشاء مراكز حكومية واجتماعية وحدائق ومنتزهات ومستشفى ونوادي خارج السور .. وتخصيص اراضي معدة للسكن وعرضها باسعار زهيدة تشجيعا لسكان المدينة على ترك البؤر السكنية غير الصحية ونجح هذا المشروع نجاحا منقطع النظير.
توفى السيد جعفر حمندي في مطلع عام 1952 و لم يكن تخطى الستين من عمره وشيع جثمانه تشييعا شعبيا كبيرا اشترك فيه اصدقاؤه ومحبوه، وفي ذكرى الاربعين، اقيم له احتفال تأبيني كبير شارك فيه عدد من فطاحل الشعراء الكبار منهم الشاعر محمد علي اليعقوبي والحاج عبد الحسين الازري والسيد طالب الحيدري والدكتور عبد الحسن زلزلة كما رثاه كل من الاستاذ فؤاد عباس وعالم الاجتماع الدكتور علي الوردي وانشد الشاعر محمد علي اليعقوبي رائعته العينية:
بكوا فسقوا ضريحك بالدموع صبيحة ودعوك ابا وديع
فداك الخائنون و كم تشكت بلادك من خؤون او خدوعة
لك النجف استشاط جوى و شجوا و اسبلها دموعا من نجيع
ابا زيد و من عمروٌ و زيدٌ لدى الحدثان و الهول المريع
كما رثاه الشاعر عبد الحسين الازري في منظزمته الدالية ننتقي منها هذه الابيات
أهزةٌ أيقظت من روعها البلدا أم انه الاجل المحتوم فيك حدا
يا راحلا شيعته النفس خاشعة و العين دامعة و القلب مرتعدا
و قد عهتك حرا لم يسعك اذا ما ضيم واديك ريفا كان او بلدا
لم يعجز الموت عمن يفتديك به لو شاء ساق من انذال الف فدا
كما رثاه الشاعر عبد الحسن زلزلة في معلقته او ملحمته الرائعة (العدل مات) فبموت جعفر حمندي وزيرا سابقا للعدل له مدلولاته باعتباره احد الضامنين للعدالة آنذاك منها هذه الابيات
بالامس شيعناه ملفوفا باردية القضاء
و تلاقفت جثمانه ، سمر السواعد ، حاسراتُ
الصمت يخرقه النشيج ، و حشرجات خافتات
ما بال هاتيك الجموع ، و قد تصدرها السراة؟
يمشون في نعش الضحية ، خُشَّعاً، و هم الجناة
يا ايها المُتحشّدونْ رويدكم من تحملون؟
اليوم مات العدل، في بلدي، و اجهضت الحياة
هيهات ينفع قومنا، نَدُمٌ، فأن العدل مات