لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم واقعيًّا لأبعد درجة؛ فقد قرَّر أن يدخل في إجارة رجلٍ من أهل مكة، وقانون الإجارة قانونٌ محترمٌ في مكة؛ نعم، يقوم على تطبيقه مشركون؛ لكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعامل بقوانين المجتمع المشرك ما دامت لا تتعارض مع شرع الله عز وجل، وما دام لا يُقَدِّم تنازلًا من دينه أو عقيدته في نظير الاستفادة من هذا القانون، وهو درسٌ في غاية الأهميَّة.
لقد قرَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل مكة في إجارة مشرك، ولم تأخذه الأنفة أن يتعامل مع مشرك، أو أن يدخل في حمايته؛ بل لم يُفَكِّر في الدخول في إجارة مؤمن؛ لأنَّ ذلك سيكون بمنزلة إعلان الحرب في مكة، وسيتميَّز أهل مكة إلى فريقين: مؤمنٌ وكافر، وهذا ليس وقت المواجهة، ولا بُدَّ من ضبط النفس حتى يأتي أمر الله، وفي الوقت نفسه هو لا يجد في بني هاشم على عظمها مَنْ يُجيره، فكبير بني هاشم بعد موت أبي طالب هو أبو لهب، وأبو لهب من أشدِّ أعداء هذه الرسالة، ولن يقبل أن يقوم بحماية رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُبلِّغ رسالةً هو كارهٌ لها، ولن يستطيع أحدٌ من رجال بني هاشم أن يتعدَّى على أبي لهب في هذا الأمر؛ لذلك لم يتردَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يُراسل رجالًا من المشركين من قبائل أخرى يطلب إجارتهم له، فراسل في البداية الأخنس بن شَرِيق، فرفض وتعلَّل بأنَّه حليف؛ أي ليس أصيلًا صريحًا في مكة، والحليف لا يُجير، وكان الأخنس حليفًا لبني زهرة، فلمَّا أبى الأخنس راسل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سهيلَ بن عمرو، وهو من عظماء مكة، وكان من المتوقَّع منه أن يقبل الإجارة، وكان رجلًا عاقلًا؛ ولكنَّه للأسف تخلَّى عن عقله ومروءته وقال: إنَّ بني عامر لا تُجير على بني كعب. ومن المؤكَّد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أنَّ هذه القوانين التي تَعلَّل بها الأخنس أو سهيل ليست مُلْزِمة، وإنَّه من الممكن أن يُجير الحليف، وسوف نرى أنَّ ابن الدغنة كان حليفًا لبني زهرة كذلك، ومع ذلك أجار أبا بكر الصديق رضي الله عنه، كذلك يعلم أنَّه من الممكن أن تُجير بنو عامر على بني كعب، وإلَّا لما أرسل إليهما؛ ولكن على كلِّ حالٍ فهذه كانت اعتذارات مؤدَّبة من قادة مكة.
ثمَّ فكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجلٍ آخر، وهذا التفكير وهذه الطريقة التي استخدمهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مراسلته تدلُّ على عمق الفكر السياسي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى وعيه الكامل بالجذور التاريخيَّة للمنطقة، وعلى حكمته الدبلوماسية في التعامل مع كافَّة الظروف والأطراف.
لقد راسل رسول الله صلى الله عليه وسلم المطعم بن عدي، وهو من زعماء مكة الكبار، وهو سيد قبيلة بني نوفل بن عبد مناف، وراسله عن طريق رجلٍ من خزاعة لم تذكر الروايات اسمه، ولا يعنينا اسمه في شيء؛ بل تعنينا قبيلته خزاعة، فلماذا راسل رسول الله صلى الله عليه وسلم المطعم بن عدي تحديدًا؟ ولماذا اختار رجلًا من خزاعة وهي قبيلةٌ غريبةٌ على مكة؟
إنَّ لهذا الأمر جذورًا في غاية الأهميَّة، وحتى نفقه البعد العميق في فكر رسول الله صلى الله عليه وسلم تعالوا نُقَلِّب قليلًا في صفحات التاريخ..
يعود أصل العرب إلى فرعين رئيسين: عدنان وقحطان، أمَّا عدنان فقد سكن نسله في الحجاز ومكة وما حولها، وأمَّا قحطان فقد سكن نسله في اليمن، ثمَّ مع مرور الوقت تفرَّقت الذريَّة في كلِّ أطراف الجزيرة العربية؛ لكن ظلَّ العرب يُدركون الأصول العدنانيَّة والقحطانيَّة لكلِّ قبيلة، فمثلًا من أشهر القبائل العدنانيَّة قبيلة قريش، وهي قبيلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أشهر القبائل القحطانيَّة قبائل الأوس والخزرج في المدينة، وكانت بدايتهم في اليمن ثم هاجروا إلى المدينة، وكذلك قبائل خزاعة[1].
ونجد في تاريخ مكة فترةً سيطرت فيها قبيلة خزاعة على البيت الحرام وكانت لها إدارته والهيمنة على مكة[2]، ثمَّ جاء قصي بن كلاب وهو من أجداد رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي من العدنانيِّين- وحارب خزاعة وطردها من مكة، وسيطر هو على البيت الحرام مع أنَّه كان متزوِّجًا من بنت زعيم خزاعة، وهكذا فقد حدث صراعٌ قديمٌ بين خزاعة وقريش، وطُرِدت خزاعة من مكة[3]، ضع هذه النقطة في الذاكرة.
ومرَّ الوقت والقرشيُّون يُسيطرون على البيت الحرام ويعيشون في مكة..
ثمَّ مرت الأيَّام وحدث في وقتٍ من الأوقات صراعٌ بين رجلين من رجال قريش، بين عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين نَوْفَلِ جدِّ المطعم بن عدي، ووقفت قريش إلى جانب نوفل، فماذا فعل عبد المطلب؟ لقد أرسل عبد المطلب إلى أخواله من قبيلة الخزرج[4] يطلب نجدتهم، فجاءوا بعددهم وأسلحتهم، فهابتهم قريش، ورضخ نوفل لِمَا أراد عبد المطلب، ولم يكتفِ عبد المطلب بذلك بل دعا قبيلة خزاعة للتحالف معها كذلك، وكانت قبيلة خزاعة تراقب الموقف من بعيد، فلمَّا وجدت عبد المطلب يُعَادي قريشًا وقد نُصِر بالخزرج، قَبِلَتْ بحلفه[5]؛ خاصَّةً وهناك -كما مرَّ بنا- علاقة مصاهرة بينهم وبين جَدِّ عبد المطلب؛ حيث كان متزوِّجًا من بنت زعيم خزاعة، ومن المؤكد أنَّ خزاعة فعلت ذلك نكايةً في قريش لجذور العداء القديم بين الطرفين، فتمَّ الحِلف؛ ومن ثمَّ أصبح عبد المطلب زعيمًا في قريش مؤيَّدًا بحلف الخزرج ثم حلف خزاعة، وهذا أعطاه قوَّةً كبيرةً في مكة، وفي الوقت نفسه فإنَّ نوفلًا شعر بالضعف أمام هذا الحزب الكبير.
إذًا هناك في مكة جذورٌ تاريخيَّةٌ لعلاقةٍ مضطربةٍ بين عبد المطلب وحلفائه من خزاعة والخزرج من ناحية، وبين نوفل من ناحيةٍ أخرى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم من نسل عبد المطلب، والمطعم بن عدي من نسل نوفل.
إذًا إرسال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمطعم بن عدي يطلب منه الإجارة، وإرساله بذلك مع رجلٍ من خزاعة هو تذكيرٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم للمطعم بن عدي بالأصول التاريخيَّة للمنطقة، فكأنَّه يقول له: يا مطعم إنَّني أطلب جوارك الآن، وأستثير فيك المروءة -وهي موجودةٌ فيه على كلِّ حال؛ لأنَّه من الذين شاركوا في نقض الصحيفة قبل ذلك- ولكن في الوقت نفسه فأنا لا أقف وحيدًا خارج مكة، ولا أطلب منك هذا الأمر استعطافًا، فإنَّك إن أبيت أن تُجيرني كان البديل خزاعة وقبائل الخزرج، فأفعل مثلما فعل جدِّي عبد المطلب قبل ذلك، وهكذا يستخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم موازين القوى في الجزيرة العربيَّة استخدامًا جيِّدًا حكيمًا.
وهذه الجذور التاريخيَّة تُفَسِّر انحياز خزاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية -كما سيأتي- ضدَّ قريش مع أنَّها لم تكن آمنت؛ ولكن نكايةً في قريش.
وهكذا لمـَّا وصلت الرسالة إلى المطعم بن عدي عن طريق الرجل الخزاعي دارت كلُّ هذه الأمور في ذهن الرجل الحكيم المطعم بن عدي، وفوق حكمته فإنَّه كان رجلًا صاحب مروءة؛ لأنَّه أحيانًا تُغَطِّي الخسَّة والنذالة على عقل الرجل فلا يرى الأمور على حقيقتها، ويأخذه الكبر والعناد في أمورٍ قد تُؤَدِّي إلى الهلكة، ولم يكن المطعم كذلك؛ لذلك وافق على إجارة الرسول صلى الله عليه وسلم، وخرجت كتيبة مسلَّحة من بني نوفل تستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحاطت به لحمايته، وسارت به حتى وصل إلى البيت الحرام، فصلى هناك ركعتين، وقام المطعم بن عدي، فخطب في الناس فقال: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ مُحَمَّدًا فَلا يَهْجُهُ أَحَدٌ مِنْكُمْ». ثمَّ سارت الكتيبة المسلَّحة تحمي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدخلته في بيته.
إنَّه موقفٌ عجيب! لقد تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم في منتهى الحكمة مع الأوضاع المقلوبة في مكة؛ فقد كان من المنطقي أن يدخل مكة في حماية سيوف بني هاشم وليس بني نوفل؛ ولكن نذالة أبي لهب حالت دون هذه الحماية؛ ولكن هذا الموقف من بني هاشم، ومن أبي لهب لم يُغلِق كلَّ الأبواب، فما زالت هناك أبوابٌ مفتوحة، نعم هي أبوابٌ كافرة؛ ولكن ما الضرر في استخدامها إن لم تكن مشروطةً بتنازلٍ أو تفريط؟! لقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة مرفوع الرأس وحوله الأسلحة من كلِّ مكان، بدلًا من أن يدخلها متسلِّلًا منهزمًا، وفي الوقت نفسه فهو يدخل الآن معلنًا أنَّه ما زال على الطريق ذاته؛ ولذلك بدأ بالمسجد الحرام، وصلَّى فيه صلاة المسلمين، وما هي إلَّا أيامٌ قليلةٌ وسيخرج من بيته لاستقبال وفود الحجيج يدعوهم إلى دين الله كما كان يدعوهم في حياة أبي طالب.
ومع أنَّ قبول المطعم بن عدي لإجارة الرسول صلى الله عليه وسلم كان له هذه الجذور التي ضغطت على المطعم بن عدي فإنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم ظلَّ حافظًا للجميل، فبعد غزوة بدر وأسر سبعين من المشركين -وكان المطعم قد مات قبل بدر- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ»[6].
وبالطبع قبلت قريش بإجارة المطعم بن عدي لألدِّ أعدائها الآن، ليس فقط احترامًا للمطعم بن عدي، أو فَرَقًا من قبيلة بني نوفل؛ ولكن خوفًا من سيوف خزاعة وأسلحة الخزرج، ويبقى الدرس المهم الأصيل أنَّه لا بُدَّ للحقِّ من قوَّةٍ تحميه.
وعلى الرغم من الأمان الذي تَوَفَّر لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحماية المطعم بن عدي له، فإنَّنا لا نستطيع أن نتخيَّل مقدار الألم الذي كان يعتصر قلبه في هذه الفترة الحرجة من فترات الدعوة!
إنَّها ثلاثة أو أربعة أشهر من أقسى ما يكون! فقد مات أبو طالب في رجب من السنة العاشرة من النبوَّة، وحدثت التداعيات الكبرى لذلك في مكة، وحدث الإيذاء المتناهي، ورأينا موقف سلا الجزور، وموقف عقبة بن أبي معيط في محاولته لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وتبع ذلك وفاة الزوجة الوفيَّة الحبيبة خديجة رضي الله عنها، والهموم الكثيرة التي تبعت ذلك؛ خاصَّةً أنَّها تركت وراءها بنتين صغيرتين في البيت؛ هما أم كلثوم وفاطمة رضي الله عنهما، ورسول الله صلى الله عليه وسلم منشغلٌ بأمر الدعوة والحركة، ولا يدري كيف سيرعاهما مع همومه، ثم يبدو أنَّ وتيرة التهديد له في مكة قد زادت، وتعدَّى عليه المشركون في يوم العقبة تعدِّيًا صارخًا؛ ممَّا دفعه إلى الخروج من مكة محاولًا الاستنصار بثقيف في الطائف، إلَّا أنَّه وجد أشدَّ العنت والعناد والسخرية كما رأينا، فعاد مهمومًا إلى مكة، ورفضه الأخنس بن شَرِيق وكذلك سهيل بن عمرو، ثم دخل في إجارة المطعم بن عدي، وهو من قبيلةٍ على خلافٍ مع قبيلة بني هاشم؛ لكن ليس في قبيلته العزيزة بني هاشم مَنْ يُجيره!
إنَّها أحزانٌ متراكمةٌ أحسبها أشدَّ فترات الدعوة إيلامًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم!
والله الرحيم سبحانه وتعالى يسمع ويرى، وكلُّ ما مرَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمورٍ محزنةٍ لم يكن فيها أيُّ خطأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل فعل ما عليه وأكثر، والله يعلم ذلك ويُقَدِّره، فأراد الله عز وجل برحمته وكرمه وحبِّه لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يُعَوِّضه خيرًا، وأن يُسَرِّي عنه، وأن يُسَكِّن قلبه، ويُهَدِّأ من أحزانه، فكافأه مكافأةً عجيبة، وحباه نعمةً عظيمة، وأعطاه ما لم يُعْطِ أحدًا من خلقه قطُّ!
لقد استضافه استضافةً كريمةً من الأرض إلى السماء، في احتفالٍ مهيب، واستقبالٍ عجيب، شاركت فيه ملائكةٌ كرام، واستقبلته فيه أنبياءٌ عظام، وتغيَّرت كلُّ نواميس الكون من أجل التسرية على هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فكانت أعظم رحلات التاريخ، وأبهج حفلات الدنيا..
لقد كانت رحلة الإسراء والمعراج!
[1] انظر: ابن هشام: السيرة النبوية 1/7-13، وابن كثير: البداية والنهاية 2/187-194.
[2] ابن هشام: السيرة النبوية 1/113، 114، والطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/284، 285، وقال ابن كثير: استمرَّت خزاعة على ولاية البيت نحوًا من ثلاثمائة سنة، وقيل: خمسمائة سنة. والله أعلم. البداية والنهاية 2/236.
[3] انظر: ابن هشام: السيرة النبوية 1/117، 118، وابن سعد: الطبقات الكبرى 1/56، 57، والطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/256، وابن كثير: البداية والنهاية 2/260- 267.
[4] كانت أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو النجارية من الخزرج.
[5] للمزيد راجع: الطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/250، 251. قال: فانصرفوا (أي الخزرج) عنه إلى بلادهم قال: فدعا ذلك عبد المطلب إلى الحلف، فدعا عبد المطلب بسر بن عمرو وورقاء بن فلان ورجالًا من رجالات خزاعة، فدخلوا الكعبة وكتبوا كتابًا.
[6] البخاري: كتاب الخمس، باب ما من النبي صلى الله عليه وسلم على الأسارى من غير أن يخمس، (2970) عن جبير بن مطعم رضي الله عنه، وأبو داود (2689)، وأحمد (16779).
د.راغب السرجاني