لم يكن من السهل على الكاتب الدانمركي هانز كريستيان اندرسن، الذي كان يعيش في باريس في ذلك الحين، ان يفهم لماذا اختارته سيدة مواطنة له، لكي ترسل اليه في العام 1843 رسالة تتحدث فيها عن كتاب كان ظهر حديثاً في الدانمركية لكاتب سمى نفسه فيكتور اريميتا بالعبارات الآتية: «لقد برز في سماء الأدب نجم مذنّب مشؤوم. هو هذا الكتاب الشيطاني، الشيطاني الى درجة ان المرء لا يمكنه أن يضعه جانباً اذ يفرغ من قراءته، إلا وقد استبدت به الرغبة في أن يعود الى قراءته من جديد. وفي يقيني ان ليس ثمة كتاب يثير من الاهتمام – ومنذ صدور «اعترافات روسو» – القدر الذي يثيره هذا الكتاب. القسم الأول من الكتاب يبدو لي حسياً، أي وحشياً. أما القسم الثاني فهو بالتأكيد أخلاقي، أي أقل ضرراً. ومع هذا أرى أن من حق النساء أن يغضبن من هذا الكتاب، لأن مؤلفه يبدو وكأنه يتعبدهن فيما هو لا يرى لهن من نفع سوى الانجاب وإمتاع الذكور. ان هذا الكتاب يمتلئ، في اعتقادي، بغثيان ازاء الحياة، لا يمكن أن تولده – عادة – سوى نفس متخمة بالشر».
> الكتاب الذي تتحدث عنه تلك السيدة هو «إما... وإما». أما مؤلفه، الذي كان – في ذلك الحين – يتخفى خلف اسم فيكتور اريميتا، فلم يكن في الحقيقة سوى الفيلسوف الدانمركي سورين كيركغارد (وتلفظ في اللغة الدانمركية كيركغآر)، الذي كان حين صدور ذلك الكتاب، في الثلاثين من عمره، ولم يكن على نطاق واسع على رغم انه كان أصدر عدداً من الكتب والدراسات، أبرزها رسالة الدكتوراه المعنونة «فكرة التهكم مربوطة بسقراط، في شكل مستديم». وكان كيركغارد قدم رسالته هذه وناقشها في كلية اللاهوت في العام 1841. أما كتابه «إما... وإما»، فقد أنجزه، كما تقول لنا سيرة حياته، بعد أن عاد من برلين ليعيش في كوبنهاغن عيش المتشرد الأفّاق، متجولاً في الأزقة والمقاهي، وقد فسخ خطوبة كان أقامها مع حبيبته وآلى على نفسه أن يعيش عيش الأعزب، تحضيراً لتدريس فصل عن هيغل راح يحضر له. اذاً في هذا الجو، وضع كيركغارد هذا الكتاب، الذي – حتى وإن كانت مواطنته تتحدث عنه على الشاكلة التي وصفنا – لم يبد واضحاً ما اذا كان كتاباً في الفلسفة، أو في الشعر، في الحب أو في النقد الأدبي والفني. هو في نهاية الأمر، يبدو خليطاً من ذلك كله. ويبدو - مثلما كان عيش مؤلفه في ذلك الحين - متشرداً في عالم الأدب والفن والفلسفة يحاول أن يوجد، بعد كل شيء، معنى للوجود. وهنا قد يكون من المفيد أن نذكر أن كثراً من مؤرخي الفلسفة الحديثة، يعتبرون سورين كيركغارد، المؤسس الحقيقي للنزعة الوجودية التي ازدهرت أواسط القرن العشرين. والحال أن فيلسوفنا هذا كان «وجودياً» في حياته في ذلك الحين، أكثر مما كان وجودياً في كتابته الفلسفية. فهو، من منطلق عبثي مطلق، كان فسخ خطوبته معلناً أن الفكر والزواج لا يتفقان، وشعاره أن «من يناضل في سبيل الوجود الأسمى، عليه أن يحرم نفسه من أفراح الوجود الدنيا»، خصوصاً أن عقله كان يقول له ان أي تحقق لأي شيء ما، انما هو الغاء له. وينطبق هذا على الحب. فأنت حين تحب فتاة يجب ألا تتزوجها، لأن في الحب سمواً يأتي الزواج – المادي بطبعه – للقضاء عليه.
> والحقيقة ان جزءاً أساسياً من فلسفة كتاب «إما... وإما» تقوم على هذا المبدأ، كما تشير الى ان مؤلفه انما هو شاعر وفيلسوف في الوقت نفسه... لكنه صاحب مشروع وجودي متكامل: لقد ضحى بالحب. وهو الآن سيضحي بالفن على مذبح العقل والفكر، الموصلين الى أسمى درجات الوجود، وبالتالي ستكون خطوته المقبلة التضحية بالذات: وفي ذلك السبيل سيقبع مفكراً بأن الله الذي كان سبق أن أخذ منه كل شيء، سيعطيه الآن كل شيء، في بداية جديدة. بالنسبة الى كيركغارد، البداية الجديدة... والجديدة دائماً هي الشيء الأهم في هذا الوجود. والحقيقة أن هذا كله نجده في ثنايا كتاب «إما... وإما».
> ينقسم الكتاب، أصلاً، الى قسمين أحدهما عنوانه «أوراق ألف» والثاني «أوراق باء». ومنذ البداية يقول لنا المؤلف انه ينطلق هنا من اكتشافه مجموعة من المخطوطات العتيقة، هي التي يصنفها على النحو الذي ذكرنا. وفي المجموعة الأولى من هذه المخطوطات، نجد الكتاب يتحدث عن «التصور الجمالي للوجود»، حيث تبدأ «أوراق ألف» بالبحث عن منظومة «تسمح بتمجيد هذا الوجود على أسس جمالية». وهنا بفضل جدلية يتقنها كيركغارد جيداً، ولا تخلو من نفحة شاعرية، بل عاطفية، يعرض أمامنا المؤلف تصوراً للحياة وللعالم، جديداً كل الجدة، وهو التصور نفسه الذي سنراه في معظم مؤلفاته اللاحقة. وكذلك سنراه ذا تأثير حاسم في عدد من كتّاب الشمال الأوروبي من أمثال سترندبرغ وأبسن. وبعد أن يعرض لنا كيركغارد هذا التصور الجمالي الخالص، يقدم سبع دراسات جمالية أشهرها الدراسة حول أوبرا «دون جوان» لموزارت منظوراً اليها نظرة اباحية – على اعتبار انها أصلاً عمل اباحي -. وتلي هذا دراسات حول «تأثير التراجيديا القديمة في التراجيديا الحديثة» ونصوص حول «الآثار والظلال» وحول «الأكثر تعاسة» و «الغراميات الأولى» و «التوحد». ويختتم المؤلف هذه المجموعة بالنص، الذي سيصبح واسع الشهرة بمفرده وعنوانه «يوميات معوٍ» وهو نص أثار سجالات ولا يزال، ومن الواضح أنه في خلفية كلام السيدة التي بدأنا بها هذا النص. اذ هنا، يقدم لنا المؤلف «رؤية شاعرية وسيكولوجية للعلاقات الغرامية مبنية على فكرة الاحتفاء بالسمات الجمالية للحياة نفسها. وآية ذلك أن جوهانس، وهو اسم المغوي في هذا النص، يستخدم كل ما لديه من حيل كلامية وعملية لإغواء الشابة كورديليا، التي تقع في حبائله على رغم رهافتها وذكائها. وهو يهجرها لاحقاً حين يكون قد أقنعها بأن الزواج علاقة بورجوازية تافهة، وبعد أن كانت سلمت اليه نفسها على الضد من كل قناعاتها ومن كل المواثيق والأعراف الاجتماعية.
> وفي القسم الثاني من الكتاب، ويتحدث عن «أوراق باء» يقدم لنا كيركغارد الأخلاق كنقيض للجمالية يقف تماماً في التعارض معها. وهذه المجموعة تبدأ برسالتين: «المشروعية الجمالية للزواج» و «التوازن بين الجمالية والأخلاقية في صناعة الشخصية»، ثم موعظة لقسيس ريفي حول «النعمى التي نحصل عليها اذ نفكر بأننا دائماً مخطئون تجاه الرب». ويرى المؤرخون، عادة، أن هذا النص الأخير انما هو مقدمة لتصور كيركغارد حول الدين. وفي اختصار يرى هؤلاء المؤرخون ان كتاب «إما... وإما» هو الأكثر دلالة ومعنى في مسار كيركغارد الذي «يأخذ على عاتقه هنا – بحسب مؤرخيه – القيام بمهمة مؤلمة هي اقتياد قرائه نحو الحقيقة»... ولكن عبر مرآة ذاته، حيث ان هؤلاء المؤرخين يرون أن «إما... وإما» كتاب يمكن أن يعتبر أيضاً «سيرة مواربة» للمؤلف نفسه.
> وسورين كيركغارد (1813 – 1855) الذي لم يعش طويلاً يعتبر واحداً من كبار المفكرين الأوروبيين خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر. وعلى رغم أن مؤرخيه نظروا الى كتبه كلها على أساس أنها أقرب الى أن تكون سيرة ذاتية له، تعتبر سيرته قصيرة وخالية من الخبطات المسرحية، بحيث لا تملأ بالنسبة الى من يريد كتابتها سوى سطور قليلة. مهما يكن كان الرجل دائماً عامر القلب بنوع خاص من الإيمان، وكان وحيداً دائم الكآبة والحزن... وهي كلها أمور عبر عنها في كتب عدة أصدرها خلال حياته، أبرزها – الى ما ذكرنا –: «فتات فلسفي»، «مفهوم القلق»، «مراحل على درب الحياة» و «ما تعلمنا اياه زنابق الحقل وطيور السماء».
نقلاً عن مقال "«إما ... وإما» لكيركغارد: الأخلاق في مواجهة الجمال" - الحياة - 13/05/06/
بقلم ابراهيم العريس