قصة أشهر أدوية تساقُط الشعر




وفقاً لموقع American Family Physician فإن إجمالي ما يُنفَق في مجال إنبات الشعر المتساقط، سواءً أكان التساقط وراثياً أو عرضياً يصل إلى 900 مليون دولار سنوياً، المبيعات السنوية للمينوكسيديل 2.0% تربو على 162 مليون دولار أميركي منذ عام 1996، وفي عام 2015 بلغ حجم الاستثمار العالمي في مستحضرات تساقُط الشعر زهاء 7.2 بليون دولار مع توقعات بأن يتخطى حجم مبيعات المنتجات المتاحة بدون وصفة طبية OTC ما يزيد على 1.2 بليون دولار.
في أميركا وحدها يعاني 50 مليون رجل بالإضافة إلى 20 مليون سيدة من مشكلة تساقط الشعر، أما في الصين فإن 8% من السيدات جنباً إلى جنب مع 21% من الرجال يقعون في دائرة تساقط الشعر الناجم عن التغيرات الهرمونية، كل هذه الأرقام تجعلنا فاغري الأفواه حيال المستحضر العجيب الذي يبدو للكثيرين منا في ثوبٍ قشيب، كأنه الملاذ الأخير للحفاظ على ما تبقى في الرأس من الشعر.
المينوكسيديل.. هذا المستحضر الذي نستشف من قصته العديد من المعاني في شتى مشاهد يومنا دون أدنى مبالغة، القصة تبدأ من كالامازو بولاية ميشيغان عام 1886 حيث أسس الطبيب ويليام آبجون William Upjohn شركة طبية صغيرة، وكان باكورة إنتاج الشركة حبيبات هشة سهلة المضغ للمساعدة على الهضم، وبمرور الوقت توسعت الشركة واندمجت مع شركة فارماسيا تحت اسم فارماسيا - آبجون عام 1995، وفي عام 1999 انضوى تحت لواء فارماسيا - آبجون شركة مونسانتو التي نكصت على عقبيها وآثرت الانسحاب من هذا التحالف عام 2000. قامت فارماسيا - آبجون ببيع بعض علاماتها التجارية المسجلة لصالح بعض الشركات الكبرى، ومن بينها جونسون آن جونسون التي ابتاعت مستحضرات مثل موترين Moterin وكورتيد Cortaid وغيرها، وبالأخير استحوذت فايزر على فارماسيا - آبجون عام 2003.
خلال عقد الأربعينات من القرن الماضي كانت آبجون تتوسع بخطى ثابتة، وتوصلت الشركة لابتكار مادة كيميائية أُطلِقَ عليها مينوكسيديل في الخمسينات، وكان الهدف من ابتكار المينوكسيديل توظيفه لعلاج التقرحات.
بدأت التجارب الأولية على الكلاب وفشل المينوكسيديل فشلاً ذريعاً في علاج التقرحات، لم ينجح المينوكسيديل في المهمة الموكلة إليه، ولكنه أبدى براعته كموسع للأوعية الدموية!! استرعت قدرة المينوكسيديل على توسيع الأوعية الدموية أنظار فريق البحث، وهرولوا إلى تخليق 200 مركب مختلف من المينوكسيديل، ومن بينها النوع الذي تم تسويقه عام 1963 باسم مينوكسيديل 63.

نال مينوكسيديل 63 موافقة منظمة الغذاء والدواء الأميركية FDA للاستخدام عن طريق الفم كعلاج لارتفاع ضغط الدم تحت الاسم التجاري Loniten وذلك مطلع عام 1979، وحصلت آبجون على تصريح من FDA لإجراء المزيد من الدراسات حول فاعلية العقار الجديد في علاج ارتفاع ضغط الدم. قامت آبجون بإسناد مهمة تنفيذ الأبحاث الجديدة للطبيب شارليز شيدسي Charles A. Chidsey الأستاذ المساعد بكلية طب جامعة كولورادو، وعلى الفور استهل شيدسي دراسته بإجراء نموذجين مغايرين من الأبحاث.
النموذج الأول كانت نتائجه تسير بشكل طبيعي، في حين أن النموذج الثاني كان يحمل العديد من المفاجآت. لاحظ شيدسي أن النموذج الثاني من أبحاثه على العقار نجم عنه نمو شعر غير متوقع؛ صُعِقَ شيدسي لهذه النتيجة، ومن فرط صدمته لم يتمالك نفسه واقتادته خطاه إلى جونتر كان Gaunter Kahn وأفرغ ما في جعبته من أسرار الشركة التي يعمل لديها، وأسهب في سرد تفاصيل الأبحاث التي قام بها، واقترح على جونتر أن يقوما معاً بتوسيع رقعة البحث، ومحاولة الاستفادة من هذا الاكتشاف المذهل.
لم يكن جونتر بنفس سذاجة شيدسي، بل كان رابط الجأش استمع إلى ما قاله الأخرق شيدسي، ثم قرر من فوره أن يبدأ الأبحاث دون اللجوء إلى خدمات شيدسي. ساق جرانت الأحداث لوجهةٍ مغايرة حيث استدعى زميله وصديقه المقرّب بول جرانت Paul Grant وحصلا على عينة من مادة المينوكسيديل، وقاما بإجراء التجارب في عزلة تامة عن شيدسي وآبجون. قاما "كان - جرانت" بتجربة تحضير محلول كحولي من المينوكسيديل بتركيز 1.0% من خلال تخفيف المينوكسيديل بأنواع مختلفة من الكحولات مع إضافة البروبيلين جليكول؛ كمادة مساعدة على الاختراق. وبعد محاولات مستميتة للتوصل لنتيجة وبعد صراعٍ شرس مع عقارب الساعة، وصلا إلى نتيجة مرضية، قاما على أثرها بقرعِ أبواب مكتب براءات اختراع ميتشغان لتسجيل المحلول الجديد باسمهما ليحوزا قصب السبق في مضمار المينوكسيديل قبل آبجون وشيدسي؛ لكن القدر فرض كلمته، فقد كانت آبجون قد اجتازت هذه المرحلة، وهو ما وضعَ "كان - جرانت" في حيص بيص فلما يخطر ببالهما أن تتوصل آبجون لنتيجة منجزة لا سيما مع شكاوى شيدسي التي لا تتوقف.
لم ييأس كان وصديقه من إفلات الأمور من يديهما وثابرا ليحظيا بأكبر نصيبٍ ممكنٍ من المائدة، فنقلا رحى الحرب إلى ساحات المحاكم مع الاستعانة بالأبواق الإعلامية للضغط على آبجون. تحقق بالأخير الغرض الذي رسمه الشخصان الانتهازيان، وذلك أن إدارة آبجون استدعتهما في نهاية 1986، وتم التفاوض بين الطرفين على أن يُدرج "كان - جرانت" ضمن فريق أبحاث ابتكار محلول المينوكسيديل الموضعي لعلاج تساقط الشعر، ويصبحا شريكين في نسبة من الأرباح السنوية التي تحققها آبجون.
خلال هذه الآونة اكتسب المينوكسيديل صيتاً مترامي الأبعاد، الأمر الذي حدا بالأطباء أن يكتبوا أقراص لونيتين (أقراص المينوكسيديل المستخدمة لعلاج ضغط الدم) كأحد علاجات تساقط الشعر، وذلك بشكلٍ غير رسمي. وبحلول 18 أغسطس/آب 1988 أقرت منظمة FDA استعمال المينوكسيديل الموضعي لعلاج الصلع لدى الرجال تحت اسم Rogain بعد رفض المنظمة للاسم المقترح من آبجون Regain وذكرت المنظمة في حيثيات رفضها للاسم الذي أدلت به آبجون "أن الاسم يحمل في طياته نوعاً من التضليل؛ حيث إن العقار لن يكون موائماً لكل المرضى"، كانت الدراسات الميدانية قد أكدت ظهور تحسن ملموس لدى 39% من الرجال الذين يعانون من صلع منطقة تاج الرأس، وهي نتائج جيدة في ذلك التوقيت، بحلول عام 1990 أنتجت آبجون مسنوكسيديل بتركيز 2.0% للسيدات، وفي 12 فبراير/شباط 1996 حظي المينوكسيديل بموافقة FDA لإتاحته للجمهور بدون وصفة طبية OTC وعلى الفور ردت آبجون على هذه الخطوة المهمة بأن خفضت سعر المينوكسيديل إلى نصف سعر المينوكسيديل الذي يتطلب وصفة طبية، فبلغت مبيعات المينوكسيديل عنان السماء وحقق مكاسب مهولة.
في عام 1997 قامت آبجون بتدشين مينوكسيديل 5.0% لعلاج الصلع لدى الرجال، وفي عام 1998 سمحت FDA ببيع المينوكسيديل 5.0% بدون وصفة طبية.
في عام 2014 أصبح المينوكسيديل العلاج الموضعي الوحيد الذي اعترفت به FDA لعلاج تساقط الشعر الوراثي، ومتاحاً للبيع بطريقة OTC في أغلب دول العالم.


محمد محمد الشبراوي
محكم محلي ودولي للمناظرات باللغة العربية-مصري