13 آذار/مارس 2017
بقلم دكتور "ماركو بالدان" كبير جراحي الحرب لدى اللجنة الدولية للصليب الأحمر
لا تُفارق رائحة الدم واللحم البشري المحترق أنفي بعد إذ حُفرت في ذاكرتي، ولا تفتأ صور ضحايا الإصابات المروّعة من البالغين والأطفال حيّة ماثلة تطاردني في أحلامي...
أنا جرّاح مختصّ في جراحة الحرب. عملت على مدى أكثر من عشرين عامًا على لملمة أجساد الضحايا الذين بترت القنابل والألغام أطرافهم أو مزقهم الرصاص. عملت في أوغندا، والصومال، وأفغانستان، وليبيا، وسورية، واليمن وغيرها ضمن قائمة طويلة من البلدان التي مزقتها الحروب.
في جميع هذه البلدان، أجريت التدخلات اللازمة لعلاج جرحى الحروب الذين يتدفقون بشكل مستمر، في عموم الجسد من الرأس إلى أخمص القدم. أديت ذلك في أقسى الظروف وتحت وابل من القنابل والقذائف.
إذا ما أخذنا في الاعتبار كمية الطاقة التي تنتج عن انفجار القنابل والألغام والرصاص، لأمكننا تخيل حجم الضرر الذي تحدثه بالجسم البشري. ويتطلب التعامل مع هذا الضرر مجال خبرة طبية خاص لا توفره الدراسة في معظم كليات الطب. ويُعرف هذا المجال باسم "جراحة الحرب" أو "رعاية إصابات الحرب".
ومع الزيادة الحادة للنزاعات المسلحة في المنطقة، يواجه الأطباء والممرضون الشباب الجدد بشكل متزايد إصابات متعلقة بالحرب في مرحلة مبكرة من مسيرتهم المهنية. فنجد مثلًا طبيبًا لا يتجاوز الثلاثين يعمل في مستشفى رئيسي في إسرائيل أو غزة عايش بالفعل حالات تدفق كبير للمصابين وتعامل مع مجموعة من الإصابات المُروّعة؛ كالجروح الناجمة عن انفجار، والعديد من حالات بتر الأطراف.
ولا بد من إدراج رعاية إصابات الحرب بوصفها فرعًا لا يتجزأ من المناهج الدراسية في جميع كليات الطب في البلدان المتضررة من النزاعات. فهذا يحسّن فرصنا كأطباء في إنقاذ أرواح جرحى الحروب عن طريق اكتساب الخبرة الفنية.
وفي بعض الأحيان تنطوي مهنتنا على بواعث للإحباط الشديد، ويتجلى ذلك بدرجة أكبر لدى ممارستها في ظروف النزاع المسلح. فهناك أوقات يكون غاية ما يمكن أن نقدمه للمريض هو أن نسيطر على شعوره بالألم، لنكفل له ميتة كريمة. ففي هذه الحالات تكون كرامة المريض قد انتهكت قبل وصوله إلى طاولة العمليات الجراحية.
لا شيء يسلب الناس كرامتهم كما تفعل النزاعات المسلحة، التي تُعمِل مخالبها لتنخر في مقوّمات كسب عيشهم وتُقوّض الخدمات الأخرى التي يعتمدون عليها، قبل أن تسلبهم حياتهم وحياة أحبائهم. تاركة إياهم أشلاء وأشتاتًا يبكون ماضيهم.
أجيال كاملة تحمل ندوب الحرب التي لا تندمل؛ أعداد كبيرة من الرجال والنساء والأطفال كُتب عليهم للأسف أن يلتحقوا بتلك الأجيال. وسيظل مصير هؤلاء قاتمًا ما لم يكن ثمة تحرك عالمي وسياسي محلي.
أحيانًا وأنا أجري عمليات جراحية لمرضى اخترق الرصاص أجسادهم أو مزقتهم الانفجارات، أتمنّى لو رافقني بعض السياسيين من صناع القرار في البلدان التي تعصف بها الحروب؛ تُرى هل ستتغير قراراتهم إذا ما رأوا بأعينهم، بشكل يومي، الكلفة البشرية للحرب في أصدق تجلياتها؟ عندما يرون أمامهم بشرًا صاروا كقطع اللحم، ليسوا إلا بقايا بشر.
لقد خلفت المآسي التي عاينتها إلى الآن خلال مسيرتي المهنية ندوبًا غائرة استقرّت في وجداني. وهذه الندوب خفية عن الأعين، بخلاف الجراح الظاهرة التي تصيب كثيرًا من مرضاي.
بعد عشرين عامًا أمضيتها في هذه المهنة، أجد في نفسي الشجاعة لأن أقول: "ينبغي ألا تسير الأمور على هذا النحو".
بصفتي مختص في جراحة الحرب، آليت على نفسي أن أبذل ما بوسعي لأداوي جراح الناس وأخفف عنهم. لكنني أخشى أن تكون جهودي وجهود زملائي من الأطباء والممرضين مجرد سعي حثيث لا طائل منه بالنظر إلى حال العالم اليوم. لن يمكننا أبدًا أن نعالج وحشية الإنسان تجاه أقرانه من بني البشر.