رُسمت الدهشه على وجوه الحاضرين. توقفت الأفواه عاجزةً عن الكلام … ساد صمت رهيب ظهر معه دقات عقارب الساعات الفاخرة. ماهى إلا ثوانى وتعـالت الأصوات من كل اتجاه! مزيج بين صيحات الانبهار ورنين التصفيق وتهتهات المفاجأة. هنا وُلِدَت لحظة عجيبة شهدت ” أول كلمات تمر من خلال أسلاك فى التاريخ” معلنةً عن أعظم اختراع فى تاريخ الاتصالات وأحد أهم الاختراعات على الاطلاق!
“الهاتف – Telephone” يرى النور أخيراَ عام 1876 م على يد العالم الأمريكى الاسكتلندى (ألكسندر جراهام بيل – Alexander Graham Bell) صاحب العديد من الاختراعات العظيمة، من بينها أسطورة اختراع ” الهاتف التقليدى” أوصله لمكانة خاصة جدًا بين عظماء غيروا من شكل العالم.
حـاولت الغوص أعمق داخل هذا المارثون الطويـل لأحصل على صاحب السبق بين هؤلاء، لكنى اصطدمت بحقيقة مغايرة تماماً ومحزنة للغاية تستحق الكثير من الحديث. حقيقة شخص مُهمش، منسـى، ومُستبعد من ركن العظماء لدى مكتبة التاريخ، على الرغم من أنه يجب أن يتواجد بينهم بكل قوة وربما يستحق مكانة أفضل من دور البطولة!
من حارس بوابة إلـى مخترع فَذٍّ!
أنطونيو ميوتشي- Antonio Meucci، مخترع ايطالى ولد فى 13 أبريل 1808 م بسان فريديانو القريبة من فلورنسـا. التحق بأكاديمية الفنون الجميلة بفلورنسا وعمرة 15 عام فقط كأصغر من التحق بهـا فى ذلك الوقت، ودرس خلالهـا الهندسة الكيميائية والميكانيكية والتصميم الفنى إلى جانب دراسة الفيزياء.
بدايته العملية كانت حارس لبوابة من أجل الحصول على المال الكافى لتكملة دراسته. لازمه هذا العمل حتى انتهى من دراسته تماماً لينتقل للعمل فى مسرح Teatro della Pergola كمصمم لديكور المناظر الطبيعية، ثم هاجر إلى كوبا عام 1835م ومعه زوجته للعمل بمسرح “هافانا الكبير” الذى كان بمثابة المسرح الأكبر فى الأمريكتين فى ذلك الوقت. عمل بعد ذلك مساعداً لصديق كان يعمل طبيباً بهدف تطوير جهاز يساعد المرضى الذين يعانون من التهــاب المفاصل… وهذه تعتبر نقطة فاصلة.
رُبَّ ضَـــــارَّةٍ تبتكـــر هاتف!
فى عام 1854 م أُصيبت زوجته بمرض “روماتيزم المفاصل” مما جعلها طريحة الفراش وغير قادرة على الحركة، ما دفعه لتكثيف أبحاثه حول “المبادئ الأساسية لنقل الصوت الكهرومغناطيسية” مستعينًا بابتكار سابق له ” telegrafo parlante – التليغراف المتحدث” محاولة منه لمساعدتها بأى طريقة. بعد هذا الحدث بعامين توصل أخيراً إلى فكرة عبقرية تُشجعه لمواصلة أبحاثه بكوخه فى الدور السفلى كما اعتاد أن يعمل بجانب التحدث مع زوجته فى نفس الوقت بحجرتها بالدور العلوى، عن طريق نقل الذبذبات الصوتيه بينهما خلال أسلاك منزلية البسيطة .. وهذا ما عُرف فيما بعد بـ “اختراع الهاتف الكهرومغناطيسى”!
لا يوجد من يسمع لـصوت ميوتشي
بعد هذا الاكتشاف المدهش بعامين، دعا أنطونيو الفنان “Nestore Corradi” لرسم مخططاته حول اختراعه العجيب، كنوع من التوثيق وتقديمه فيما بعد كبراءة اختراع. وحاول استغلال أوراقه لاقناع بعض رجال الأعمال الإيطاليين لتمويـل مشروعه لكن الوضع لم يكن مستقر فى إيطاليا بسبب كثرة النزاعات العسكرية.. فلم تلاقي ترحيبًا يُذكر!
محاولة أخرى كانت فى عام 1871م عند ذهابه إلى المكتب الأمريكي لبراءات الاختراع لتسجيل اختراعه بجانب علامة تجارية خاصة، لكنه وجد أن المال الذى يملكه يكفيه لتسجيـل براءة اختراع مبدئية فقط، لذلك تعتبر محاولة فاشلة هى الأخرى. بعد هذه القصة بثلاث سنوات قرر أنطونيو تقديم أفضل ما عنده والذهاب إلى “نيوجيرسى” فى مغامرة لتقديم اختراعه لشركة “ويسترن يونيون – Western Union” بغرض اختبار وتشغيل أفكاره على خطوط التلغراف الخاصة بالشركة التي كانت أكبر شركة للتلغراف على مستوى العالم قبل أن تُغيّر اعمالها استسلاماً للتكنولوجيـا. وبالفعل قدم جميع أفكاره و مخططاته إلى المسئولين، لكن الصدمة جاءت بالتهميش التام، ورفضتها الشركة فى النهاية والحجة هذه المرة كانت “لقد اختفت أوراقك”!
فقر يمحو كفاح سنوات
ولأن المصائب لا تأتى فرادى، فإن الرجل تعرض لحادث مأساوى على باخرة عودته لدياره، أدى إلى إصابته بحروق خطيرة مما دفع زوجته لبيع كثير من متعلقاته الشخصية لتاجر خردة من أجل الحصول على قليل من المال لعلاجه. وكان من ضمنها للأسف النماذج النهائية لـ “اختراع الهاتف “!
وبعد أن تعافى اتجه إلى نفس التاجر بأمل استعادتها مرة اخرى لكنه فوجىء بأنه باعها لشخص مجهول، لم يتم معرفته حتى اللحظة! ولنقل أن هذه الحادثة كتبت آخر سطور قصة صراع أنطونيو من أجل تقديم اختراع ثورى للعالم … لكنها لم توقف نضــاله الذى سيبدأ بعدها بأعوام.
مراحل اكتشاف هاتف ميوتشي بالأرقــام
1856 اكتشف طريقة لنقل الصوت من خلال نقل الذبذبات الصوتيه بأسلاك منزله البسيطة
1858 دوّن فكرته عن طريق رسم من تنفيذ الفنان “Nestore Corradi”
1860 طبق الهاتف بشكل فعلى وبصورة أدق بين حجرة زوجته المريضة وكوخه الصغير “معمله الخاص”
1865 طوّر من فكرة الهاتف وجعلها أكثر قوة ودونها عن طريق نفس الرســام
1870 استطاع أن يزيد من كفاءة الهاتف للعمل حتى مسافة “ميــل كامل” عن طريق “لفة النحاس الدقيقة المعزولة بالقطن”
1871 تقدم إلى المكتب الأمريكي لبراءات الاختراع لإثبات فكرته لكنه لم يستطع تكملة ذلك بسبب فقره الشديد.
1874 سافر إلى نيوجيرسى لعرض اختراعه على شركة “ويسترن يونيون” الشهيرة للحصول على الدعم المناسب مقابل جزء من الأرباح، لكنه قوبل بالرفض.
الفترة بين عامى ( 1874 – 1875 ) فقد كل النماذج التى نفذها بين 1856 – 1865م لشخص مجهول.
فى صبيحة يوم 10 مارس -1876 م، تغنى العالم باختراع يُدعى “هاتف” وتعالت أصوات الصحف بهذا الإكتشاف على يد باحث اسكتلندى يدعى “جراهام بيل”! ,,, هذا الخبر كان كفيلاً بالقضاء على حياة ميوتشي بهدوء، لكنه أعاد إليه روح الصراع مرة اخرى وجعل هدفه الأخير هو النضال من أجل إثبات أسبقيته فى هذا الاختراع الثورى.
كفاح عظيم يكتب نهــاية يُرثى لهـا!
فى الفترة بين “1858 – 1860″ نشر أنطونيو مخططاته فى مجلة ” L’Eco d’Italia” الإيطالية، لكن الظروف العسكرية والوضع السياسى المتدهور لم تساعد على الإنتباه إلى فكرته الثورية، وأراد أن يرجع للجريدة لتكون سند له فى نضاله لكنه صُدم باختفاء هذا العدد من الصحيفة!
بحلول عام 1861 م أصبحت حالته المادية مُنعدمة تماماً فاضطر لبيع منزله بالكامل، لكن صاحب المنزل الجديد سمح له بالعيش فى كوخة الصغير! وقبل أن يتقدم لتوثيق اختراعه قام بعقد اتفاق مع مسئولين إيطالين عام 1871م يقضى بمساعدته مادياً لإثباته مقابل تاسيس شركة تحت اسم ” telettrofono ” لكن قوبل بدعم مالى ضئيل جداً.
صراع ميوتشي على اللقب!
بعد دعوات متعددة وقضايا كثيرة من ميوتشى على كل ما يتعلق بجراهام بيل استمرت لسنوات، حكومة الولايات المتحدة الأمريكية تتحرك بجدية في 1887م لإلغاء براءة الاختراع الممنوحة إلى جراهام بل على خلفية النصب والخداع، لكن ذلك لم يحدث! وفي عام 1889 م، اعترفت أخيراً إحدى محاكم نيويورك بشكل مبدئى بأن أنطونيو على صواب وقررت إعداد جلسة اخرى للإستماع لكلا الطرفين وتقديم مزيد من الأدلة … ولكن للأسف ذلك أيضاً لم يـتم!
إلى أن جاء يـوم 18 اكتوبر 1889، والذي شهد وفاة العالم العبقرى و”الوفى” أطونيو ميوتشي وحيـــداً بعد رحلة صغيرة مع المرض استمرت سبعة أشهر…. وتوقفت معه جميع الأعمال القضائية ضد جراهام بيل!
لكن، وبعد وفــاته بثلاثة عشر عامًا، وبالتحديد فى يوم 11 يونيو عام 2002م، أصدر مجلس النواب الأمريكى قرار رقم 269 بأحقية ” أنطونيو ميوتشي “ببراءة اختراع أول هاتف فى التاريخ” وبالتالى إقرار “خدعة ” جراهام بيل” الكبرى وأنه مجرد ناقل لأفكار العالم الايطالى العبقري!
نقــاط تدعو للتفكيــــر
هناك معلومات تفيد أن المخترع “انسونزو ماتزيتى – Innocenzo Manzetti” هو أول من ناقش فكرة “التلغراف الناطق” عام 1844م، وتم تكرار نشر فكرته عام 1854 م عن طريق “Charles Bourseul” فى مجلة L’Illustration تحت عنوان “انتقال الصوت عن طريق الكهرباء”.
قام الفيزيائى “يوهان فيليب – Johann Philipp Reis” بالإعلان عن اختراع لنقل الصوت بالأسلاك لمسافة 100 متر يحمل اسم “ريس- Reis” بأحد معاهد فرانكفورت – ألمانيا وذلك عام 1861م.
كان هناك صراع قديم بين كلاً من جراهم بيل، وأليشا جراى، ويوهان فيليب على براءات الاختراع التى تخص الهاتف والتى يدعى كل منهما أسبقيته. كل هذا فى الفترة بين 1861 و 1875.
كشفت الوثائق بعد ذلك أن جراهام بيل بعد أن وثق اختراع الهاتف عام 1876، قام بنقل مخططت أليشا جراى التى كان ينوى تقديمها قبله إلى مذكراته بخط يده وبصورة مطابقة تماماً، مما دفع أليشا جراى بإلغاء طلبة لبراءة اختراعه!
الخلاصة
ربما تقول هذه الحقائق التاريخية أن “انسونزو ماتزيتى” هو صاحب شرارة البداية، وربما أيضاً أن “يوهان فيليب” صاحب السبــق، أو تؤكد أن بطل اليوم هو من قدم فكرته “الإضطرارية” كأول مبتكر لهاتف فى التاريخ. ومن المرجح أن جميعهم اشتركوا فى تقديم “بداية” هذا الاختراع الاستثنائي إلى عالمنا. لكن المؤكـــد فى جميع الأحوال أن “جراهام بيل” ليس مخترع الهاتف كما يُقال. ربما يكون مجرد “مرحلة تُضيف له … أو “مخادع” سرق مجهود الكثيرين.
لكن أكثر ما تبين لــنا هو أن هذا الرجل “انطونيو ميوتشى” عبقرى “مًخلـص” ومجتهد من أعلى طراز. غلبه الفقر، ولم ينصفه القضاء فى الماضي وإن فعل فى الحاضر .. ومع ذلك ظلمه التاريخ!
المصدر : http://feedproxy.google.com/~r/ibda3...3/6pS8dwfs72A/