أدركت قبيلة بني هاشم صعوبة الصدام مع القبائل القرشية الأخرى؛ خاصة بعد أن رأوا جدية قريش في مقاطعتهم أثناء حصار الشِّعْب، ومن الواضح أن مواجهة بني هاشم لقريش في السنوات الماضية كانت معتمدة بشكل كلِّيٍّ على أبي طالب، الذي كان يتحمَّل عبء قيادة بني هاشم ضد قريش بصفة شخصية بحتة غير مرتبطة بأي قيادات أخرى من بني هاشم، حتى ما رأيناه من موقف حمزة رضي الله عنه حين دافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم بعدها، حتى هذا الموقف كان تصرُّفًا فرديًّا من حمزة رضي الله عنه، ولم يكن له أيُّ تبعات في داخل القبيلة. فإذا أضفنا إلى ذلك قيادة أبي لهب الحالية لبني هاشم أدركنا أن القبيلة قد خرجت بشكل قاطع من معادلة الصدام، وبرز هذا بشدَّة عندما فشلت القبيلة بكاملها في إجارة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند عودته من الطائف، ويبدو أن هذا الفشل كان ظاهرًا بوضوح للدرجة التي منعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجرَّد التفكير في طلب الإجارة منهم، فسعى إليها عند قبائل أخرى منافِسة، وهذا أمر نادر الحدوث في هذا المجتمع.
ولعله من المناسب هنا أن نذكر ملاحظة عجيبة لاحظتُها في أحداث السيرة النبوية، وهي أن المؤمنين من قبيلة بني هاشم، قبيلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا قلَّةً للغاية لدرجة تستدعي التوقُّف والانتباه والتدبُّر! فلا نعلم، حتى هذه اللحظة في العام الحادي عشر من البعثة، مؤمنين منها سوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأخوه جعفر رضي الله عنه، وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه! ومن النساء صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها، والقبيلة تُعتبر بذلك أقل قبائل قريش إيمانًا في فترة مكة! فقد أسلم من الفروع الأخرى كبني مخزوم، أو بني جمح، أو بني سهم، أو بني عامر، أو غيرهم، أكثر من ذلك بكثير!
إن هذا يسترعي الانتباه فعلًا!
إن أعمام الرسول صلى الله عليه وسلم كُثُرٌ! فله من الأعمام عشرة أو اثنا عشر على اختلاف الروايات، ولم يُدرك الإسلام منهم إلا أربعة أو خمسة؛ هم أبو طالب وأبو لهب، وماتا كافرين، وحمزة والعباس رضي الله عنهما، وأسلما وكانا من الصحابة الأجلاء، وخامسهم ضرار، ولم يُسلم، وقد مات غالبًا أول أيام الوحي فلم تصل إليه الرسالة، والله أعلم، أمَّا الأعمام الذين ماتوا في الجاهلية قبل الإسلام فهم: الحارث، وقُثَم، والزبير، وعبد الكعبة، والمقوَّم، والمغيرة، ومُصعب المشهور بالغيداق[1].
ومع أن الكثير من أعمامه صلى الله عليه وسلم قد ماتوا في الجاهلية فإن لهم أولادًا كثيرين؛ فعائلة عبد المطلب -جدِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم- عائلة كبيرة شريفة، ومع ذلك فلم يُسلِم مبكرًا من العائلة إلا عليٌّ وجعفر وحمزة رضي الله عنهم، بالإضافة إلى صفية رضي الله عنها، وتأخَّر إسلام العباس رضي الله عنه كما هو معلوم، وتأخَّر كذلك إسلام أولاد العمِّ؛ أمثال: عقيل بن أبي طالب، وربيعة وعبد الله والمغيرة ونوفل أولاد الحارث، وعتبة ومعتب ولدي أبي لهب، وقد تأخَّر إسلام معظم هؤلاء إلى العام الثامن من الهجرة، زمن فتح مكة، قبله أو بعده بقليل.
وكلُّ مَنْ ذكرناهم سابقًا هم عائلة عبد المطلب فقط، وقد كان لهاشم جدِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاد آخرون؛ هم: أسد، وأبو صيفي، ونضلة، وهؤلاء جميعًا وذريتهم يُكوِّنون قبيلة بني هاشم، وما قلناه على تأخُّر إسلام عائلة عبد المطلب، ينطبق كذلك على كل عائلة هاشم نفسه، فنَتَجَ ما قلناه آنفًا من ملاحظة أن قبيلة بني هاشم بشكلٍ عامٍّ كانت من أقل قبائل قريش اعتناقًا للإسلام، على الأقل في مراحله المبكِّرة!
هذه هي الملاحظة العجيبة!
فما تفسيرها؟ وما الحكمة من حدوثها؟
قبل الخوض في التحليلات لا بُدَّ أن نفهم أن الهداية بيد الله عز وجل؛ قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[القصص: 56]، فمن المؤكَّد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كرسول يُريد الهداية للبشر جميعًا؛ ولكنه كإنسان يحبها بشكل أكبر لذوي قرابته، وأهل بيته؛ وذلك لما زرع الله عز وجل في قلبه من حبٍّ فطري للرحم، وعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: «يَا أَبَا يَزِيدَ إنِّي أُحِبُّكَ حُبَّيْنِ، لِقَرَابَتِكَ مِنِّي، وَحُبٌّ لِمَا كُنْتُ أَعْلَمُ مِنْ حُبِّ عَمِّي إِيَّاكَ»[2]. وقد قال تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[الشورى: 23]، وحكى لنا القرآن موقف نوح عليه السلام وهو يُناجي ربَّه في أمر موت ابنه على الكفر؛ قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}[هود: 45]، مع أن نوحًا عليه السلام قال قبلها، وبقوة -كما نقل القرآن الكريم-: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}[نوح: 26]. كل هذا يُؤَكِّد الحب الفطري عند الرسل لأهلهم وأقاربهم؛ نعم هذا لا يُؤَثِّر مطلقًا على طريقة دعوتهم، فهم يوجِّهون القَدْر نفسه من الاهتمام للجميع، ولا يُوقِعهم هذا الحب أبدًا في محاباة أو حيف، حاشاهم وهم المعصومون؛ لكنهم في النهاية بشرٌ، وسيظل دائمًا في القلب أملٌ أن يفتح الله قلوب الأقربين للإيمان، ومع كل ذلك فإن الله عز وجل أراد أن يحدث هذا التأخُّر في الإيمان عند بني هاشم، مع كون هذا -ولا شك- يُحْزِن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتبقى الأسئلة المحيِّرة: لماذا لم تُسرع بنو هاشم إلى اعتناق دينٍ يقوده أحد أبنائهم، بل أعظم أبنائهم مطلقًا؟! وما الحكمة الربانية في جريان الأمر على هذه الصورة؟
الذي أراه أن بني هاشم كانت تخاف من «التورُّط» في طريق يُفْقِدها المزايا الكثيرة التي حققتها على مدار العقود الماضية! لقد حازت بنو هاشم شرفًا كبيرًا، في مكة خاصة وفي العرب بشكل عامٍّ، عندما وصلت إليها رفادة الحجيج؛ أي إطعامهم، ثم جَمَعَت مع الرفادةِ سقايةَ الحجيج، وتناقل هذا المجد الأولاد والأحفاد بعد الجدِّ الأكبر هاشم بن عبد مناف، فحاز هذين الشرفين أخوه، وهو المطلب بن عبد مناف، ثم ابنه عبد المطلب بن هاشم جدُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حفيده أبو طالب عمُّ الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أخيرًا العباس رضي الله عنه. وقد مرَّت بنو هاشم بتجارب مريرة من أجل الحفاظ على هذين الشرفين، وحدث بينها من ناحية، وبين قريش كلها من ناحية أخرى، صداماتٌ كادت تُفضِي إلى معارك، والكتب تحمل من قصص هذه المعاناة الكثير، خاصة في أيام عبد المطلب[3]، ولقد انتصر عبد المطلب على منافسيه غير مرَّة، وأحيانًا كان يستعين بمساعدات من قبائل خارجية كالخزرج وخزاعة، حتى استتبَّ له ولأبنائه الأمر، ثم مرَّت الأيام وضعفت بنو هاشم، وقلَّ مالها، وزادت في الوقت نفسه أعداد وأموال منافسيها من قريش؛ مما جعلها في حرج شديد، حيث قد يجتمع القوم عليها لتحقيق أطماعٍ ما استطاعوا تحقيقها في تاريخهم البعيد والقريب، ولعلَّ صورة المقاطعة الاقتصادية والاجتماعية التي بدأت من العام السابع من البعثة إلى العاشر منها تعطينا فكرة عن طموحات البطون القرشية المختلفة، خاصة بني مخزوم بقيادة أبي جهل، في الكيد لبني هاشم. إن هذه الخلفية تُفَسِّر لنا إحجام بني هاشم عن الإيمان بنبوَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك حتى لا تستعدي قريشًا عليها، ويُسْحَب بساط الشرف من تحت أقدام القبيلة، في وقتٍ بلغوا فيه من الضعف ما يُعْجِزهم عن مقاومة تيار مكة كله، ولقد عبَّر عن كل هذه المخاوف أبو لهب في أول أمر الدعوة -كما مرَّ بنا- بقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «واعلم أنه ليس لقومك في العرب قاطبة طاقة، وأن أحقَّ من أخذك فحبسك بنو أبيك، وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش وتمدهم العرب..». فهذه هي المخاوف الحقيقية التي كانت عند أبي لهب، وقد صرَّح بها أمام جميع رجال بني هاشم، وهكذا انتقلت هذه المخاوف بشكل مباشر إلى أبناء العائلة، ولم يشذ عنهم إلا العم العطوف أبو طالب، الذي كان لا يستطيع أن يُغالب حبَّه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقف أمام العائلة بكاملها، وأرغمها على تحمُّل تبعات المواجهة ضد قريش المتربِّصة، ولم تجد بنو هاشم بُدًّا من طاعة قائدها وسيدها؛ ولكن كان من الواضح أنها كانت طاعة بلا قناعة؛ لأن حماستهم في الدفاع عن ابنهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم انهارت تمامًا وفورًا بعد موت أبي طالب، ولم نجد صوتًا واحدًا مناوِئًا لأبي لهب، الزعيم الجديد لقبيلة بني هاشم، بعد أن قرَّر بوضوح خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم!
هذا في رأيي ما منع بني هاشم من الإقدام على الاعتناق المبكر للإسلام واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنها لا تريد «المغامرة» بمركزها، الذي تُحافظ عليه بصعوبة؛ وذلك من أجل الانخراط في دعوة لا يُعْلَم مستقبلُها بعدُ!
أما الحكمة الربانية الكاملة وراء تأخُّر إسلام معظم أبناء بني هاشم فلا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك فطَرَفٌ من هذه الحكمة -فيما يبدو لي- في تحقق أمرين مهمَّيْنِ للغاية!
أما الأمر الأول: فهو إشعار المؤمنين دومًا بالحاجة إلى الله عز وجل؛ لأنه في حال إيمان قبيلة بني هاشم في بداية أمر الدعوة فقد يعتمد على ذلك المؤمنون، ويضعف توكُّلهم على الله عز وجل، وهذا يحدث كثيرًا عندما يرتكن الإنسان إلى سندٍ مادي، أو عونٍ بشري؛ ولكن إذا غابت هذه الإعانات الأرضية فإن التوجه إلى الله عز وجل يُصبح كاملًا، وهذا أحفظ للعقيدة، وأثبت للإيمان. ولعلَّ هذه العلَّة كانت السبب في أن الله عز وجل أراد أن يقبض أبا طالب مبكرًا قبل أن يُمَكَّنَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى عكس ما كان يتمنَّى المؤمنون؛ وذلك لئلا يَنْسِب أحدٌ الفضلَ إليه لا إلى الله، فنَزَعَ الله عز وجل أسباب التمكين الأرضية، وجعل النصر من عنده وحده، ففَهِم المسلمون ذلك، وصحَّت عقيدتهم؛ قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}[آل عمران: 126].
وأما الأمر الثاني: فهو دفع شبهة خطيرة متوَقَّعة، وهي أن يعتقد الناس أن المعتنقين الأوائل للإسلام ما فعلوا ذلك إلا قبليَّة وعصبيَّة، لا عن صدق إيمان، وقوَّة قناعة بالحق الذي فيه. لو آمنت بنو هاشم مبكرًا لظنَّ الناس أنهم فعلوا ذلك بحثًا عن السيادة والريادة، ويتحوَّل الإسلام -في معتقدهم- إلى دين عنصري يجمع الأهل والأقارب والعائلة، وتختفي بذلك القضايا العميقة التي يتحدَّث عنها هذا الدين؛ كوحدانية الخالق، وبَعْثِ الناسِ للحساب يوم القيامة، وتبرز مكانها القضايا الدنيوية السطحية العادية؛ كالتنافس على الملك، والتصارع على القيادة. لقد شاء الله عز وجل أن يتأخَّر إسلام بني هاشم، ليَظْهَر للناس دينٌ عجيب يدعمه في البداية رجالٌ من قبائل منافِسة لقبيلة قائده، وينصره بعد ذلك أنصارٌ من بلادٍ بعيدة لا تربطهم بالقائد علاقات نسب أو قرابة؛ ليظل الرابط الوحيد بين هؤلاء المعتنقين لهذا الدين هو قناعتهم الكاملة بكون هذا الدين من عند الله سبحانه وتعالى؛ ومن ثَمَّ تندفع أيُّ شبهةِ عنصريةٍ أو قبليَّة، ويُصبح التأليفُ بين قلوب أتباع هذا الدين، وقد جاءوا من كل حدبٍ وصوب، معجزةً حقيقيةً تُذْهِل كلَّ مَنْ قرأ عن تاريخ هذه العقيدة أو واقعها؛ قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال: 63]، وبهذا صار ممكنًا للإسلام أن ينطلق بسهولة من المحليَّة إلى العالميَّة، ومن مكة أو جزيرة العرب إلى الدنيا بأسرها.
هذان الأمران اللذان ذكرناهما ما سعى الرسول صلى الله عليه وسلم أو المسلمون لتحقيقهما بإرادتهم؛ بل كانوا يدفعون بقوَّة في الاتجاه الآخر، وهو اتجاه إيمان بني هاشم، لكن الله عز وجل يُسَبِّب الأسباب، ويُجْرِي الأمور وَفْقَ ما يُريد، حتى يحفظ دعوته، ويُثَبِّت الإيمان في قلوب عباده المؤمنين، ويُظْهِر قوَّته وإعجازه -سبحانه- للناس أجمعين.
بعد كل ما ذكرناه من حقائق خاصة بقبيلة بني هاشم أعتقد أن هذا الوضع كان دافعًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يُخْرِج القبيلة تمامًا من حساباته، على الأقل في هذه المرحلة، ويسعى إلى بدائل أخرى تناسب الوضع المتأزم، وسنتعرَّف على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن بعد أن نُكمل استعراض الموقف في مكة في أوائل العام الحادي عشر من البعثة.
[1] انظر: ابن هشام: السيرة النبوية 1/108، وابن سعد: الطبقات الكبرى 1/71-76، وابن سيد الناس: عيون الأثر 2/360، والمزي: تهذيب الكمال في أسماء الرجال 1/201، وابن كثير: البداية والنهاية 2/310، والصالحي: سبل الهدى والرشاد 11/82-84.
[2] الحاكم (6464)، والطبراني: المعجم الكبير (14198)، وقال الهيثمي: رواه الطبراني مرسلًا، ورجاله ثقات. انظر: مجمع الزوائد 9/273. وابن سعد: الطبقات الكبرى 4/33، والبغوي: معجم الصحابة 4/399، وابن عبد البر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3/1078، وابن عساكر: تاريخ دمشق 41/18، وابن الأثير: أسد الغابة 4/61، وقال الصالحي: روى الإمام إسحاق والطبراني والبغوي وأبو عمر برجال ثقات عن محمد بن عقيل، والطبراني في الكبير والحاكم وابن عساكر عن ابن إسحاق مرسلًا، والحاكم عن حذيفة رضي الله عنه. انظر: سبل الهدى والرشاد 11/114.
[3] اختلفت قريش مع عبد المطلب اختلافًا شديدًا حول حق امتلاك بئر زمزم التي أعاد عبد المطلب اكتشافها، وقد نقل ابن إسحاق طرفًا من هذا الاختلاف في سيرته، فقال: فَقَالُوا -أي بطون قريش كلها-: يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ، إنَّهَا بِئْرُ أَبِينَا إسْمَاعِيلَ، وَإِنَّ لَنَا فِيهَا حَقًّا فَأَشْرِكْنَا مَعَكَ فِيهَا. قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلِ، إنَّ هَذَا الْأَمْرَ قَدْ خُصِصْتُ بِهِ دُونَكُمْ، وَأُعْطِيتُهُ مِنْ بَيْنِكُمْ. فَقَالُوا لَهُ: فَأَنْصِفْنَا فَإِنَّا غَيْرُ تَارِكِيكَ حَتَّى نُخَاصِمَكَ فِيهَا. قَالَ: فَاجْعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مَنْ شِئْتُمْ أُحَاكِمُكُمْ إلَيْهِ. قَالُوا: كَاهِنَةُ بَنِي سَعْدٍ هُذَيْمٌ. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَكَانَتْ بِأَشْرَافِ الشَّامِ. فَرَكِبَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ بَنِي أَبِيهِ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَرَكِبَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ نَفَرٌ. قَالَ: وَالْأَرْضُ إذْ ذَاكَ مَفَاوِزُ (صحارى). قَالَ: فَخَرَجُوا حَتَّى إذَا كَانُوا بِبَعْضِ تِلْكَ الْمَفَاوِزِ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ، فَنِيَ مَاءُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَصْحَابِهِ، فَظَمِئُوا حَتَّى أَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ، فَاسْتَسْقَوْا مَنْ مَعَهُمْ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ، فَأَبَوْا عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: إنَّا بِمَفَازَةٍ، وَنَحْنُ نَخْشَى عَلَى أَنْفُسِنَا مِثْلَ مَا أَصَابَكُمْ. فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ الْمُطَّلِبِ مَا صَنَعَ الْقَوْمُ وَمَا يَتَخَوَّفُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَصْحَابِهِ، قَالَ: مَاذَا تَرَوْنَ؟ قَالُوا: مَا رَأْيُنَا إلَّا تَبَعٌ لِرَأْيِكَ، فَمُرْنَا بِمَا شِئْتَ. قَالَ: فَإِنِّي أَرَى أَنْ يَحْفِرَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ حُفْرَتَهُ لِنَفْسِهِ بِمَا بِكُمُ الْآنَ مِنَ الْقُوَّةِ، فَكُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ دَفَعَهُ أَصْحَابُهُ فِي حُفْرَتِهِ ثُمَّ وَارَوْهُ، حَتَّى يَكُونَ آخِرُكُمْ رَجُلًا وَاحِدًا، فَضَيْعَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَيْسَرُ مِنْ ضَيْعَةِ رَكْبٍ جَمِيعًا. قَالُوا: نِعْمَ مَا أَمَرْتَ بِهِ.. فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَحَفَرَ حُفْرَتَهُ، ثُمَّ قَعَدُوا يَنْتَظِرُونَ الْمَوْتَ عَطَشًا، ثُمَّ إنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: وَاللَّهِ إنَّ إلْقَاءَنَا بِأَيْدِينَا هَكَذَا لِلْمَوْتِ، لَا نَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ وَلَا نَبْتَغِي لِأَنْفُسِنَا، لَعَجْزٌ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْزُقَنَا مَاءً بِبَعْضِ الْبِلَادِ، ارْتَحِلُوا. فَارْتَحَلُوا، حَتَّى إذَا فَرَغُوا، وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ يَنْظُرُونَ إلَيْهِمْ مَا هُمْ فَاعِلُونَ، تَقَدَّمَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إلَى رَاحِلَتِهِ فَرَكِبَهَا. فَلَمَّا انْبَعَثَتْ بِهِ، انْفَجَرَتْ مِنْ تَحْتِ خُفِّهَا عَيْنُ مَاءٍ عَذْبٍ، فَكَبَّرَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَكَبَّرَ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ نَزَلَ فَشَرِبَ وَشَرِبَ أَصْحَابُهُ وَاسْتَقَوْا حَتَّى مَلِئُوا أَسْقِيَتَهُمْ، ثُمَّ دَعَا الْقَبَائِلَ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: هَلُمَّ إلَى الْمَاءِ، فَقَدْ سَقَانَا اللَّهُ، فَاشْرَبُوا وَاسْتَقُوا. فَجَاءُوا فَشَرِبُوا وَاسْتَقَوْا. ثُمَّ قَالُوا: قَدْ وَاللَّهِ قُضِيَ لَكَ عَلَيْنَا يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ، وَاللَّهِ لَا نُخَاصِمُكَ فِي زَمْزَمَ أَبَدًا، إنَّ الَّذِي سَقَاكَ هَذَا الْمَاءَ بِهَذِهِ الْفَلَاةِ لَهُوَ الَّذِي سَقَاكَ زَمْزَمَ، فَارْجِعْ إلَى سِقَايَتِكَ رَاشِدًا. فَرَجَعَ وَرَجَعُوا مَعَهُ، وَلَمْ يَصِلُوا إلَى الْكَاهِنَةِ، وَخَلَّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا. انظر: ابن إسحاق: السير والمغازي ص24، 25، وابن هشام: السيرة النبوية 1/142-145، والبيهقي: دلائل النبوة 1/93-95، وابن كثير: البداية والنهاية 2/303، 304، والسيرة النبوية 1/167، وقال مجدي فتحي السيد: إسناده جيد والخبر صحيح، انظر: سيرة النبي صلى الله عليه وسلم 1/190، وذكر القصة أكرم ضياء العمري في كتابه السيرة النبوية الصحيحة 1/92، وقال إبراهيم العلي: أخرجه ابن إسحاق بسنده... وقد صرَّح ابن إسحاق بالسماع، فسنده صحيح، وله شاهد من مرسل الزهري عند عبد الرزاق في المصنف... فالحديث بهذا صحيح من طريق البيهقي وابن هشام. انظر: صحيح السيرة النبوية، ص35، وانظر: عبد الرزاق: المصنف، 5/313، وقال الصوياني: خبر صحيح الإسناد إلى علي بن أبي طالب، رواه لنا ابن إسحاق... وإسناد ابن إسحاق قوي... وعلي رضي الله عنه لم يُدرك جدَّه فهو مرسل سمعه من أحد أعمامه أو غيرهم. انظر: الصوياني: السيرة النبوية 1/12، وقال محمد بن رزق بن طرهوني: أخرجه ابن إسحاق بسند صحيح رواته من الأئمة... عن علي بن أبي طالب بالقصة، وهي إما سمعها علي من النبي صلى الله عليه وسلم أو كانت مشتهرة في أهله. انظر: صحيح السيرة النبوية 1/135-137، وحاشيته رقم (114) 1/267.
د.راغب السرجاني