في العام الحادي عشر من البعثة، صار الأمر في مكة معقدًا للغاية! وبلغ الرفض للإسلام ذروته في هذه المرحلة الشاقة من مراحل السيرة النبوية، ويُؤَكِّد ذلك أن الدعوة الإسلامية لم تكتسب -على الأغلب- في السنة الأخيرة، ومنذ خروج المسلمين من الشِّعْب، أيَّ مسلمين جدد من أبناء مكة، ولم يُضَفْ إلى جماعة المؤمنين في الفترة السابقة إلا أفرادًا من خارج مكة؛ بل من بلاد بعيدة جدًّا عنها؛ وهم: الطفيل بن عمرو الدوسي، وأبو ذر الغفاري، وسويد بن الصامت، وإياس بن معاذ، رضي الله عنهم جميعًا.
إننا نحتاج أن نقف وقفة الآن لنُعيد ترتيب الأوراق لنفهم وضع المسلمين في العام الحادي عشر من البعثة؛ وذلك حتى نفهم خلفيات القرارات النبوية في هذا التوقيت، وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفكر؛ ويمكن أن نُجمل تحليل الوضع في هذه النقاط المختصرة، التي توضِّح بجلاء مدى شدَّة حرج الموقف الإسلامي:
أولًا: خروج بني هاشم من معادلة الصدام؛ بمعنى أن القبيلة لن يكون في مقدورها في المرحلة القادمة أن تُقَدِّم أيَّ دعمٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: ازداد حنق الكافرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أكثر من أي وقت مضى.
ثالثًا: توقَّفت الدعوة تقريبًا في مكة؛ حيث هاجر أكثر من نصف المسلمين إلى الحبشة، وكَمُنَ الباقي دون حِراك، ولم تكتسب الدعوة فردًا مكيًّا واحدًا خلال السنوات الأربع الماضية.
رابعًا: الرسول صلى الله عليه وسلم في إجارةٍ غير آمنة؛ حيث إن المجير كافر، وليس من بني هاشم، وهناك خلفيات تاريخية معقَّدة تجعل ارتباطه بحماية رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مُطَمْئِن.
خامسًا: لا يستطيع الرسول صلى الله عليه وسلم مغادرة مكة إلى غيرها من المدن بغير إجارة واضحة منها، وإلا يخسر إجارة المطعم بلا تعويض.
سادسًا: أهل مكة عاشوا أزمة اقتصادية خطيرة قادتهم إلى كسر كبريائهم، والرضوخ لمحمد صلى الله عليه وسلم، وطلب الدعاء منه؛ مما ضاعف غضبهم عليه، ونفورهم من الإسلام.
إننا نحتاج أن نقف وقفة، ونلتقط الأنفاس، ونتفهم الملامح الرئيسية السابقة التي ميَّزت هذه المرحلة؛ أعني العام الحادي عشر من البعثة، وبعدها يمكن أن نتوقَّع ما سيفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد هذه المرحلة، وما رؤيته الاستراتيجية[1] في التعامل مع الموقف.
إذا راجعنا هذه النقاط الست التي ذكرناها فهمنا أن الخطوة القادمة ينبغي أن تكون محاولة الخروج من مكة بأسرع وسيلة آمنة ممكنة؛ وذلك لتجنُّب أيِّ محاولات تعدٍّ أو استئصال للجماعة المسلمة كلها، والهروب من هذا الجوِّ المحتقن قبل أن تتطوَّر الأمور إلى أسوأ من ذلك، وحيث إننا ذكرنا في النقطة الخامسة أن الخروج من مكة بلا إجارة صريحة من المستضيفين يعني خسارة كبيرة قد لا نستطيع تعويضها فإن التفكير الاستراتيجي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المرحلة القادمة يجب أن يكون مُنْصَبًّا على البحث عن نصرة من إحدى القبائل العربية القوية، ولقد حاول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك مع الشخصين الذَيْن أسلما في آخر العام العاشر من البعثة؛ وهما: الطفيل وأبو ذرٍّ رضي الله عنهما؛ لكنه للأسف لم يجد أمرهما مناسبًا، حيث كان الطفيل رضي الله عنه منفردًا في قبيلته وليس معه أعوان؛ بينما كان أبو ذرٍّ من قبيلةٍ اشتُهِرت في ذلك الوقت بقطع الطريق، ولا يمكن أن يُطلَب منها نصرة الإسلام في هذه المرحلة.
ومن هنا فقد بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أواخر العام الحادي عشر من البعثة في تغيير طريقته في الدعوة تغييرًا خطيرًا؛ فهو لن يكتفي الآن بدعوة الناس إلى الإسلام فقط كما كان يفعل من قبل؛ بل سيدعوهم كذلك إلى النصرة ضدَّ قريش، وبشكل صريح!
وفي المقالات التالية سنستعرض، هذه النقاط المميزة لتلك المرحلة بالتفاصيل، ثم نعرج إلى خطة الرسول القادمة، بإذن الله.
[1] الاستراتيجية Strategy: من الفنون العسكرية ويقصد بها التخطيط وتحديد الوسائل التي يجب الأخذ بها في القمة والقاعدة لتحقيق الأهداف البعيدة، وتستعمل أيضًا في الخطاب السياسي. عبد الغني أبو العزم: معجم الغني ص815.
د.راغب السرجاني