بكيتُ على بغداد من مهجتي دما ومن فرط ما عانيت أسرى بي الـعمى

يقولون لي : بغداد لاتسمع البـُكا ولم تستطعْ منذ ارتحلتَ التكــــــــلــّـما

فقلتُ لهم هذي ضلوعي رصفتها سأجعلها جسرا ً إليها وسُلـــَّـــــــــــــمـا

فقالوا أما تدري بأن فؤادهـــــــا جريحٌ يهيلُ الدمع ، يشكو ا لتــــــألـّــمــا

فقلتُ لهم إن جفَّ ريقُ حبيبتي أيا ليتني والله متّ من الظمـــــــــــــــــــــ ا

فقالوا أتهواها وتبكي لبعدها فقلتُ لقد مُزِّقتُ روحا ً وأعظمـــــــــــــــــا


بعد نهاية العهد الملكي في العراق في تموز 1958 وبدأ مرحلة التدهور والتخلف في عملية رجوع الى الوراء فريده من نوعها تسببت في انهار من الدم وهدر الحريات وحقوق الانسان وتدهور في اقتصاديات العراق وتوقف لعملية البناء التي كانت تسير بخطى واعده حتى جاء عقد السبعينات وهو من عام 1971 وحتى عام 1980 والذي اعاد الى الاذهان تلك الحقبه الجميله من حياة بغداد في الخمسينات والستينات والذي يعتبره العراقيون الذي عاشوا تلك الفتره من اجمل العقود واكثرها حريه وانطلاق وترفيه وفيه الكثير من الامور التي فقدها العراقيين على مر السنين مع بعض التغيرات في مجال الحريات الشخصيه وحقوق الانسان .


في عقود الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي تتشابه الكثير من مفردات الحياة حيث لم يكن اهتمام العراقيين ينصب سوى في مجالين رئيسين هما السياسه واللهو وكان العراقي يفكر في الطرب وام كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفريد الاطرش والافلام العربيه والاجنبيه والمطربين الاجانب مثل الفس بريسلي وتوم جونز وديمس روسس...


ويتابعون اخبار الوطن العربي السياسيه والاجتماعيه والفنيه من خلال المجلات والصحف وخاصة الموعد والشبكه والكواكب واخبار الفنانات وشارع الحمرا وبلاجات بيروت...


وكان الناس بعضهم وليس جميعهم يفكرون بالسفر الى الخارج وقد تم زيادة اعداد العراقيين للسفر في عقد السبعينات حتى وصل الامر الى سفر البقال والعامل والى دول معروفه غربيه وشرقيه وباتت العاصمه البرطيانيه وكانها احدى ضواحي بغداد في تلك الفتره .


بغداد كانت مدينة جميلة و نظيفة ومبانيها كبيرة وما نراه اليوم من اهمال وتداعيات فهذا لم يكن يخطر في بال احد لقد كانت بغداد جميلة و جديدة وشامخة، و كانت هذه المدينة الرائعة قد بدأت تنهض وتضع على وجهها جمالا خاصا و تحاول أن تلحق بركب العواصم الأوربية الأنيقة في الوقت التي كانت فيه أكثر العواصم العربية والخليجية مجرد مدن بسيطة أو قاحلة ..


فكان في بغداد حمله سريعه وعمل جدي للنهوض من شوارع مرور سريع وتلفونات عموميه حديثه وقوانين شرعت لصالح المواطن مثل قانون الزام المواطن العبور من الاماكن المخصصه وقانون التامين الالزامي والتعليم المجاني والرعايه الصحيه واجبار الراكب والسائق على وضع حزام الامان لحماية ارواح الناس واجراءات فعاله لنظافة المدينه وسلال النفايات الموزعه في الشوارع وتوفير جميع متطلبات المواطن بواسطه الاسواق المركزيه التي كانت او ( مولات ) في الشرق الاوسط .. وتجديد سيارات الاجرة بسيارات اعتمدتها الدوله ووفرتها للمواطن .


ابو نواس رئة بغداد

جوهرة بغداد ورئتها و هو المتنفس أي الهواء والماء و الخضراء و الوجه الحسن وطبيعي أن أبناء الجيل الحالي و اللذين لا يتذكرون سوف يتجه تفكيرهم إلى متنزه الزوراء وهو متنزه رائع ايضا أتحفتنا به أمانة بغداد في منتصف السبعينات بعد أن بدأت أمور مدينة الألعاب القديمة التي افتتحت في منتصف الستينيات في منطقة زيونة تؤول إلى الإهمال و التدهور رغم انها كانت من أكبر مدن الألعاب في المنطقه. ولكن عندما تسمى رئة البغداديين فإنما هي شارع أبي نواس وهذا بالتأكيد ما اتجهت إليه ذاكرة من عاش فترة الشباب في الخمسينات الستينات والسبعينات.


لايوجد بغدادي لايخزن في ذاكرته موضوعات وحوادث جميله عن الشارع الجميل ابو نواس الذي يمتد على شواطئ دجلة بدءا من جسر الجمهورية و حتى الى ما بعد الجسر المعلق في زوية الكرادة والجادريه و تجد على رصيفه الأيمن من جانب النهر ضفة اسره بجمالها الأخاذ بأنواع الأشجار و الورود و عطرها الذكي الممزوج بنسيم دجلة ورائحته المنعشة وفي هذا الجانب و ما بين الرصيف و النهر ستجد الكازينوهات التي تقدم المشروبات الدافئه مثل الشاي و القهوة والمرطبات اضافة الى وسائل اللهو البريء كالعاب الشطرنج و البليارد و الدومينو والطاولي ومن هذه الكازينوهات مثل ( كازينو كاردينيا و السلام و البيضاء والخضراء و الحمراء و الكازينو البغدادية وزناد والركن الهادىء والشاطىء الجميل وغيرها ) ...


وتجد بجانب هذه الكازينوهات هناك اماكن لشوي السمك المسكوف الذي اشتهر به البغداديون ....


والمشويات الاخرى (التكه و الكباب والمعلاك و الضلوع و الباچه) ،هذا إضافة إلى هذه الكازينوهات و باتجاه نهر دجله حزام أخضر آخر يسير موازيا مع النهر و هو حزام من الحدائق و المتنزهات الخضراء المشجرة و الورود الجميلة الملونة في حديقه وسطيه تفصل بين الشارع في ذهابه وايابه و أماكن لجلوس العائلات و الأشخاص وملاعب الأطفال وهي عامة للجميع و تلامس أطرافها نهر دجلة وطبعا كل هذه الحدائق و المتنزهات مزدانة ليلا بأضواء جميلة ساحرة إضافة إلى أضواء الكازينوهات و أصوات أغاني أم كلثوم و عبد الحليم وياس خضر و يوسف عمر وغيرهم تصدح منها و صخب الناس فيها و لعب الأطفال و مرحهم و ضجيج السيارات وهكذا تستمر الحياة و الترفيه البريء إلى ساعات متأخرة من الليل بدون أي مقاطعة من احد حكومي او غير حكومي.


وفي نهاية خط الكازينوهات على الجهه اليمنى تجد مرسى جميل تجد فيه زوارق كبيره لاغراض النزهه النهريه للعوائل وتكون السفره باتجاهين واحده للشمال صعودا ضد مجرى النهر وتصل الى جزيرة بغداد السياحيه والاخرى الى الجنوب نزولا مع مجرى النهر وتصل الى جزيرة ام الخنازير ( الاعراس ) اضافة الى قيام هيئة السياحه يتسير زوارق حديثه المانيه تسع لاربعين راكب بمقاعد مريحه وسقف وجوانب زجاجيه لغرض التجول في دجله .


ونجد أيضا وفي الجانب الآخر من الشارع أمورا مختلفة تماما عن جانب ضفة النهر وهو الجانب الايسر المحاذي لشارع السعدون ( أي الرصيف المقابل ) إذ تنتشر فيه على طول الشارع ، الحانات و البارات والمطاعم والفنادق و التي تقدم المشروبات الكحوليه مثل العرق العراقي المشهور(عصريه ، مسيح)...


و البيرة العراقية (فريده ، لاكر ، امستل ) و الأنواع الجيدة من المشروبات الاجنبيه والراقيه مع مزات متنوعه ولذيذه والطعام الفاخر في مطاعم مثل مطعم الجندول المشهور وكذلك ستجد الفنادق السياحية المحترمة و مطاعم الباچه و المشويات و الگص والكبة وكذلك ستجد على هذا الجانب بعض الدوائر الحكومية مثل الدوائر التابعة لشرطة المرور أو الجيش و بعض قاعات عرض اللوحات الفنية كمعارض لأعمال الفنانين و كذلك ستجد فروعا تؤدي إلى شارع السعدون وتجد أيضا أن بعض الدول و المنظمات كانت تتسابق للفوز بمبنى تستأجره لتتخذه مركزا لها في ذلك الجانب من شارع أبي نؤاس نظرا لجمالية المكان و موقعه التجاري و قربه من مركز العاصمة والفنادق و المطاعم و الحانات.


فتجد مثلا بأن هناك تقع بناية برنامج التنمية التابع لمنظمة الأمم المتحدة ، و كذلك المركز الثقافي السوفيتي و المركز الثقافي الفرنسي و وكالة الأنباء العراقية (واع) في البناية ذات الخمسة عشر طابقا و نادي الإعلام وفندق بغداد وفندق السفير على نفس الجانب من أبو نؤاس ( جانب السعدون ) يمكن أن نجد واجهات لمنازل عوائل بغدادية عريقة و معروفة و معظمهم من العوائل المسيحية و اليهوديه و هي بيوت ذات طراز إنكليزي و تركي رائعة الجمال ولكنها مهملة للأسف و معظم سكانها هجروها منذ زمن بعيد بعد تموز 1958وبعضها تحول الى حانات بطراز بغدادي فولكلوري والشيء الجميل بخصوص هذا الشارع انه كان يبدو هادئا في النهار إلا من بعض السيارات التي تمر به و بعض المارة و بعض العشاق الذين كانوا ينزوون بين الأشجار بعيدا عن أعين الفضوليين أو قد تجدهم وقد احتلوا مقاعدا (في ركن بعيد هاديء ) ، و تجد هناك أيضا بعض عمال النظافة و المزارعين ( الحدقجيه) وعمال الخدمات البلديه لا اكثر، ولكن وما أن يبدأ وقت العصر و خصوصا في فصلي الصيف و الربيع حتى تجد أن هذا الشارع قد دبت فيه الحياة و الحركة و الزحام , الكازينوهات و المطاعم و الحدائق على جهة النهر تمتلئ بالشباب و العوائل و الأطفال.


البعض من العوائل و المجاميع كانوا يأتون مباشرة لقضاء العصرية و المغربية و الليل في أبي نواس و البعض يخرج من دور السينما في شارع السعدون بعد فترة العرض التي تنتهي في السادسة مساءا أو بعد فترة العرض المسائيه الثانيه التي تنتهي في التاسعة و يتجهون ليكملوا سهرتهم في أبي نؤاس فمنهم من يجلس في الحدائق و منهم من يتعشى في المطاعم المنتشرة هناك ومنهم من يجلس في الكازينوهات والمقاهي أفرادا و عوائل و تجد في الجانب الآخر شبابا و هم يرتادون الحانات ويخرجون و هم منشرحون و منتشون بما احتسوا من نبيذ و عرق و بيرة و لكن نشوتهم هذه التي يشعرون بها لم تكن لتجعلهم يتجاوزون حدود الأداب ليتعرضوا أو ليزعجوا العوائل المتواجدة في نفس الشارع حتى ولو في ساعات الليل المتأخرة , فالكل يعرف حدوده و شرطة النجدة متواجدة أيضا وسياراتهم الجديدة جاهزة لمتابعة الامن دائما .


عندما تقضي الليل في ابي نواس وتعود الى البيت سائرا على قدميك او في سيارة اجره لاتفكر في ايقافك او سؤالك من قبل اي شخص حتى وان كانت معك صديقه او زوجه او جماعة فكانت الشرطه مكلفة بحماية الناس وليس ازعاجهم او التعدي عليهم ولن يخطر على بالك تفجير او اغتيال او عبوه ناسفه او عصابه خطف او سيطره او منع تجول .

هكذا كانت بغداد جميله وكل مافيها جميل ......