لم يكن يعلم شاعر عفك الكبير (حميّد آل سرهيد 1925 ـ 1996 ) ان الحرائق التي كان يخمدها على الأرض بحكم وظيفته " اطفائي" يعود ليذكيها في القلوب بحرارة اشعاره الملتهبة بجمال المفردة وحكمة التجربة ، فهو بهذا كمن يدفع البلاء عن الغرباء ليلقي به - دون قصد ــ الى احضان الاصدقاء ، بل حتى هو لم يسلم من تلك الحرائق فنراه يستغيث من هولها :
دوّرت بالدلال وبكل الاكتار ماشفت بي شريان ماحرگته النار
سبعون عاما تفتقت عن شاعرية فيها بساطة واضحة ومحببة ، نطقت بالحكمة المباشرة والمؤثرة ، ذلك انها لامست الواقع بصدق مما وجدت طريقها سالكا الى القلوب والوجدان ،تجربة شعرية شاعت فيها الكثير من القيم النبيلة و السخرية من الغافلين عن هذه القيم ومن التعساء اللاهثين وراء جمع الثروة وكنز المال:
الچفن مابي جيب مثل الدشاديش تركض تلم افلوس حسبالك تعيش
تلك هي حكمة الشيخ المجرب الذي اتعبته السنوات وهده المرض لكنه آثر الكتمان مع الالم على البوح باسراره وشكواه الى الاخرين:
الحمل موش العوز المرض حملي محد يگلچ ليش ياعين اهملي
ومحدثا القلب بلغةالعارف ان يسكن و يكف عن الجري وراء سراب الاماني ذلك ان الايام مهما تظاهرت بالوداعة والالفة عليك بالحذر منها فانها خادعة ليس لها أمان :
يالگلب بسك عاد اهجع ولك نام تغدر بغير اسباب عادات الايام
الغدر الذي اشد مايكون عليه من الفداحة و الالم حين يأتي من القريب معيدا على اذهاننا معاناة الشاعر" طرفة بن العبد" في معلقته الشهيرة(وظلم ذوى القربي اشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند)
فكذلك تحدث "بن سرهيد" :
لحد يلوم شبيه من نشف ريجي حيل اوجرت وياي طگت صديجي
وكيف لايكون الشيخ الطاعن بالعشق على هذا القدر من الاحساس بعمق الاساءة وهو المرهف والمولع بحب الارض حبا سرمديا ، فقد تعلق بمدينته " عفك" وعاش فيها كالجذر النابت بالارض وكانت له الجمال الذي يعادل كل جنان الدنيا :
الدهر گص گص طواريفي ولبنان وبعد لامال ينفعني ولبنان
أنه اباريس لوعيشن ولبنان احن العفـﭻ من غصبن عليه
سبعون عاما من الكدح والتجارب المّرة اوصلته الى حال لم يعد فيه يطيق العيش منكسرا تحت وطأة الشيخوخة وثقل السنوات العجاف فتنسال معاناته شعراً مضمخاً بالالم والحسرة على ماذهب من عنفوان الشباب وسحره :
امثالث وتدريج وتوّچي ممشاي كلش كرهت الروح من وصلت الهاي
هكذا ينتهي به الحال منفردا ينوء بحمل اوجاعه في اخر الركب بعدما كان يتقدم الفرسان في مضمار الوفاء والنبل:
چنت اسبگ الخيّال واوصل للعزاز تالي العمر ظليت ابروحي جناز
وعلى طريقة شيخ خزاعة " حمد آل حمود" يوم اوصى باخراج يديه من الكفن ليرى الملأ انه لم يأخذ من الدنيا الاّ قبض ريح ، يختم " بن سرهيد" تجربته بحكمة يتركها تحت وسادته موصيا ذويه ان تقرأ على الملأ الذي سار في جنازته وهو ماتم فعلا حيث يتوقف الموكب المهيب الذي حمل النعش على اطراف الاصابع ويتلو احد اصدقائه تلك الحكمة :
فتشني بالتغسيل يالتمشي جناز ماخذت بيدي وياي كلشي من العزاز
هذا هو "حميّد آل سرهيد"شاعرقنع بمجد الكلمة و اتخذ من القيم الانسانية مادة لبناء شخصيته ومجده الشعري وظل ثابتا ، امينا عليها موصيا نجله "وائل " :
انصت يوائل دوم وامتثل بيه بالك تطخ الراس اعله الرديه
ويرحل راضيا مطمئنا على ان ماخلفّه من ارث انساني سيظل مصونا وذلك بعد ما ياتيه القسم من ولده المذكور بان باب السجايا الطيبة سيظل بعده مشرعا مضيافا:
حنيته هذا الباب بجموع الاحباب عكبك يبن سرهيد ماينسد الباب