لا يمكن لأي منهج تنويري هدفه النهضة أن يقف على قدميه دون المرأة ، فقضية المرأة التي يقولون عنها في مناسبات كثيرة أنها نصف المجتمع محورية في النهضة ... وكيف تنهض مجتمعات ينكفئ نصفها خارج الزمن والجدوى ؟
كيف تنهض وهي تكبّل المرأة بأغلال الأيديولوجيا والدين والتراث وتعزلها عن الوعي والتأثير ؟!
لا تخفى على أي متابع لقضية المرأة حقيقة أنها في مركز اهتمام القراءة الدينية المتداولة ...
فلو تناهى الى اسماعنا أنّ دولة ما اختارت أن تطبق الشريعة الأسلامية لتبادر الى ذهننا مباشرةً أنها ستفرض الحجاب على النساء بالقهر والقوة وكأنّ هذا الأمر من ذاتيات الدين لا من أعراضه فلا يكون الدين ديناً بدونه ..
وكأن النبي بعث ليحجّب النساء .. ولو حاولت الأستماع الى برامج الشيوخ الدينية في الفضائيات لوجدت جزءاً معتداً به يدور حول جسد المرأة والحديث بتفصيل مبالغ فيه عن حيضها واستحاضتها .
والحثّ على حجرها وعزلها ، هذه المركزية تطرح من طرفٍ خفيّ مشاكل متجذّرة في اللاوعي تحضر سافرةً كلما حان زمن الانحطاط.
لو تأملنا في تاريخنا المعاصر ، وبعد غزو العراق للكويت عام 1990 وما تلاه من حرب عالمية ضد العراق وانكسار مهول للجيش الذي دخل حرباً معروفة النتائج للجميع إلا الطاغية .
وما تلاه أيضاً من انهيار في البنى التحتية العراقية والاقتصاد العراقي ( الذي كان موشكاً اصلاً على الانهيار بعد حرب الخليج الاولى ) ...
كان الفقر والجوع حاضراً بكثافة ..
مضافاً الى ذلك تنامي طغيان السلطة المفرطة في الطغيان من الاساس أقول بعد كل هذه الانهيارات الكارثية لم يشهد العراق بوادر حركة وعي أو نهوض . كل ما لاحظناه أمران مترابطان في الاسباب والنتائج :
الأول : ظهور التدين بشكل مفرط في الشارع وكأنّه ردّة فعل لحال الخذلان العام من كل الأيديولوجيات والشعارات والقهر العام ... هكذا اختار الشعب الى اللجوء الى الجهة الوحيدة التي افترض انها ستنقذه بعد نفاد الحيل وضيق السبل الى الجهة الوحيدة التي يمكنها ايضاً أن تخذله دون ان يعوزه التبرير أنّ هناك حكمة ما تقف وراء خيبات الامل المتعاقبة .
الثاني : وهو مرتبط قطعاً بالأول وهو انتشار الحجاب بشكل مثير للانتباه ، فالحجاب لم يكن ظاهرة شائعة في العراق قبل هذا التوقيت .
هذا ما ينبثق عن الازمة فالأمران كانا بشكل او بآخر ارتداداً فالتدين الذي ظهر كان ارتداداً الى هوية سابقة تفترض الذاكرة أنها كانت منتصرة .. فلا شيء أفضل في وقت الهزائم والانكسارات
من تلبّس هوية المنتصر وأذا كانت الحكومة وقتها تصرّح بأنتصارها المزعوم ضد الحلف الثلاثيني ( في محاولة لعلم نفس معاكس مغرق في الأنكار )
كانت جموع العامة تبرر الهزيمة بأسباب تتعلق في جوهرها بالأبتعاد عن منهج السماء وقلة الألتزام بالدين وأحكامه .
والغريب ان التدين الجديد الذي طال الطائفتين في العراق ( السنية والشيعية ) أخذ شكلاً طائفياً واضحاً . فقد ظهرت في الشارع السني السلفية والوهابية بشكل كثيف وفي الجانب الآخر عادت الشعائر الشيعية للظهور بإفراط
اما فيما يخص الحجاب فهو جزء من الحملة الإيمانية التي بدأها رأس النظام أنذاك مضافً إليه تماهيه مع حركة التدين الطارئة التي طفت على السطح ،
مضافاً إليه الارتداد الى هوية زائفة متوهمة في إطارها الذكوري بإمتياز ، محاولة للخروج من الهزيمة باستدراج أمثلة الرجولة لكن ليس ضد الطاغية المتسبب بالهزائم ولا ضد أمريكا وحلفها التي كسرت الصورة المتوهمة الأولى . بل ضد النساء ..
نعم النساء الهدف الأيسر في المتناول والمقدور عليه .
من المعروف أنّ الظواهر الأجتماعية لا تبدأ أو تنتهي لأنّ أحداً ما رغب بذلك وحسب .. كل ما يحصل هو تفاوت ظهورها بين السر والعلن .. فلو منع تداول السجائر أو الكحول ومنع إنتاجها واستهلاكها لا يعني ذلك أنّ الناس ستتوقف عن عاداتها ، بل العكس كل ما سيحصب هو أنتقالها من السطح الى العمق .
وفي العمق لا سيطرة ولا تقنين ، ومثل ذلك القراءة الدينية المتداولة والمأزومة بامتياز في خطابها الانتقائي في سبيل العفاف والفضيلة .. فمن جهة هي تحمّل المرأة وحدها مسؤولية الرذيلة وتبريء الرجل منها وتكتفي بنصحه وحثّه بالحسنى ومن جهة أخرى تبالغ في شيطنة المرأة عموماً . فعامة أهل النار في نصوصها من النساء ( حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل أخبرنا التيمي عن أبي عثمان عن أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين وأصحاب الجد محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر بهم الى النار وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء ) * فتح الباري في شرح صحيح بخاري رقم الحديث 6181
وفي حديث الاسراء والمعراج أعاجيب عن نساء معذبات بأفانين من العذاب .. بل يروي الحديث لهن ذنوباً لا تختص بهن فهناك امرأة تعذب بسبب الغيبة وهناك امرأة لا تتطهر وهناك امرأة زانية إضافة الى الذنوب النطية كالتبرج وعدم الحجاب .
وهكذا ترى القراءة الشائعة أن تنصح الرجال وتقهر النساء بالتشريع السماوي والوضعي . بل وتبالغ في تعظيم الرجل وتحقير المرأة أيّما مبالغة ... ( حق الزوج على زوجته أن لو كانت به قرحة فلحستها ما أدت حقه ) ، ( أو انتثر منخراه صديداً أو دماً ثم ابتلعته ما أدت حقه . وعند أحمد في رواية : ... والذي نفسي بيده لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تنبجس بالقيح والصديد ثم أستقبلته فلحسته ما أدت حقه ) * رواه الأمام أحمد في "المستند"(65/20) ، ومن طريقه الضياء في "المختارة"(265/5) ، ورواه ابن ابي الدنيا في "العيال" (رقم/527) والنسائي قي "السنن الكبرى" (363/5) ، والبزاز في "المستند" (رقم/8634) ، وأبو نعيم الأصبهاني في "دلائل النبوة" (رقم/277)
هكذا تتهاوى المرأة في المستوى الإنساني لحساب الرجل العربي المأزوم بهزائمه وانكساراته المتتالية .. ينهزم الرجال في الحروب ويعودون الى منازلهم ليهزموا نساءهم .
تصادر السلطة الجائرة حقوقهم وإنسانيتهم فيعودون الى منازلهم ليصادروا حقوق وانسانية زوجاتهم ... فتأخذ المرأة حصتها من القهر مضاعفاً بما يرضي الله
حصتها من القهر العام وحصتها من القهر الخاص .. ومن أفضل من القراءة الدينية المأزومة لتصنع الأنتصارات الموهومة في واقع منحط ؟!
المصدر :
لمن يجرؤ على العقلانية ـ د. ميثم الحلو