ربما كانت عطلةَ عيد أو أيام مناسبة دينية أخرى تلك التي وفّر لي فيها أحمد سعداوي فرصة الاستمتاع بقراءة مخطوط روايته الجديدة (باب الطباشير)، لقد كانت متعة ملأت لي أيام العطلة حيث وضعتني أمام عمل روائي مهم وممتع، المتعة باتت مؤخراً هي دافعي الأساس للتواصل أو الانقطاع عن قراءة أي كتاب.
جانبٌ أساس من التأليف الأدبي والشعري هو المتعة التي تحقّقها الأعمال الناجحة للمؤلف أثناء عملية الكتابة وللقارئ وهو يقرأ.
المتعة هي في الاكتشاف؛ ما يتفاجأ به الكاتب من أفكار وخيالات وأساليب ومن توصّلٍ إلى ما لم يكن مخططاً له (الكتابة في أحيان سعيدة هي ما تقترح على الكاتب هذه الهبات وتهيئها له، الكتابة تشارك الكاتب عمله)، والاكتشاف بعد ذلك هو ما يتفاجأ به القارئ من لذة التنزّه والمشاركة في هذه العوالم التي يخلقها مؤلف ويودعها في
كتاب.
ورواية أحمد سعداوي (باب الطباشير) الصادرة مؤخراً عن دار الجمل يقوم موضوعها الأساس عل تغير الإنسان وتحوله وتقلبه بين عوالم متعددة، إنها رواية صور العوالم المتعددة لعالمنا الواحد الذي نحن فيه، عوالم مرئية لنا وأخرى مستترة نتحول ونتجول فيها مرئيين ومستترين. هذه فكرة لا صلة لها بمبدأ تناسخ الأرواح، حتى وإن استفاد منها المؤلف، لكن فكرة (العوالم المتعددة) تقدمها رواية (باب الطباشير) كتطوير نوعي ومختلف تماماً عن حياة فرانكشتاين حيث كانت محور العمل الروائي السابق (فرانكشتاين في بغداد) لأحمد سعداوي.
واحد من تعريفات الكاتب انه الشخص الذي يكتب..الكتابة بموجب هذا هي مبّرر وجود الكاتب وتعريفه وهويته، لكن يمكننا إضافة معادل آخر لهذا التعريف إذا أمكن لنا القول إن الكاتب هو الذي يجعل القارئ يقرأ.ينجح الكاتب عندما يكون موفقاً ويحفز القارئ على مواصلة القراءة، و(باب الطباشير) رواية تنجح كثيراً في ذلك.
تدور أحداث رواية سعداوي في أجواء العنف العاصف بالحياة في بغداد في السنوات ما بعد 2003، وهي أجواء وحياة ما زالت أرضاً بكراً يُتوقَع أن تنتج الكثير من أعمال الأدب، الروائية بشكل أخص. لكن قابلية (ظرف عام) على توفير إمكانية مفتوحة ومغرية لإنتاج كثير من نصوص الأدب تظل مشكلة وتحدياً أمام الأدب؛ الأدب هو كيف للأديب أن يلتقط من هذا العام المشاع ما هو (خاص) وكيف له أن يقدم هذه اللقية برؤية خاصة.
لقد نجحت هذه الرواية في التحرر من أسر الانشغال بموضوع سيكون من الصعب التحرر من
أسره.
أن نكتب عن مأساة نحن ما زلنا تحت وطأتها فهذه محنة، إلى جنب محن وتحديات كتابة الأدب نفسه.. لقد كان هذا جانباً من مشكلة كنت أتحسبها عند بدء التعرف على مجال وموضوع رواية (باب الطباشير) حين كنت بصدد قراءة مخطوطتها قبل الدفع بها للطبع.
لكن أحمد سعداوي، وهو كاتب لمّاح ودؤوب في ترسيخ مهاراته، يختار هنا أفقاً آخر يأخذ إليه أبطاله والأحداث والمكان كله، وبما يساعده على تقديم عمل حياة روائية تضارع حياة البطل على الأرض وتتقاطع معها حيناً وتنأى عنها أحياناً؛ الفن في هذه الرواية يجترح عوالم متعددة لتلك الحياة الروائية، وبهذا يمسك سعداوي بشعرية روايته، وينجح من خلال ذلك في خلق عمل روائي استثنائي ليضعنا أمام متعة اكتشاف الفن التي يمكن الوقوف عليها حتى في أشدالأعمال تراجيدية.
لقد نجحت (باب الطباشير) في أن تخلق اشتغالاً فنياً حسّاساً مثل هذا الذي اعتمدته، وهو المتعلّق باستخدام يوتوبي واقعي للعوالم المتعددة وبما يحيل إليه من فكرة التناسخ والعود. يتحرر الكاتب، وتتحرر معه روايته، من هذه الإحالة المباشرة وذلك حين عمد إلى خلق (سبعُ تعاويذ سومريَّة للخلاص من هذا العالَم)،وهذا عنوان فرعي للرواية، تكون بموجبه التعاويذ التي كتبها المؤلف مستفيداً من خبرته الشعرية موجِّهاً فاعلاً ينبغي الوقوف عند أهميته في تسيير أحداث الرواية وتقلّب عوالمها، وحتى في الفكرة الأساسية للرواية التي تنشغل بمصير حياة قدر انشغالها بمصائر أبطالها.
مهارة الكاتب تعبّر عن نفسها في إدارة الحالين؛ حال موضوعها (تراجيديا العراق)، وهي موضوع عام ومشاع، وحال وسيلتها الفنية باختلاق العوالم المتعددة وتنقل حيوات الشخوص والواقع فيها..وبهذه المهارة قدم لنا سعداوي عملاً روائياً مميزاً.
أعتقد، وهذه آراء سريعة، أن الاشتغال الفني هو ما أنقذ الموضوع من احتمالات أن يكون موضوعاً تجري فيه الأحداث والسرد بمسارات متوقعة قد تعززها العواطف المتوقعة من كاتب عاش محنة حياة العنف والفوضى وتحدياتها، لكن الركون إلى أي مسار متوقَع في الأدب يظل مشكلة تُضعف من قيمة النص وتدرجه في سياق وأعداد أعمال تظل تُذكر تاريخياً أنها اهتمت بهذا الموضوع. الأدب المهم شأن آخر غير القبول بالاندراج وغير الانضباط في سياق.وهذه الرواية حققت جانباً مهماً في هذا المسعى.
إنها رواية تمتزج فيها المصائر؛ مصائر الأفراد ومصائر المجموع، وتمتزج فيها فرص التعرف على تفاصيل ومحركات وحركة الواقع مع فرص التأمل والاستبصار لما يمكن أن تمضي به المسارات. وهذا أمر ينتظره القارئ من عمل روائي، وهو ليس قليلاً وليس من اليسر أن تظفر به رواية.
لا بأس في القول إنّي كنت متحسباً؛ ما الذي سيفعله أحمد سعداوي، وهو صديق، بعد نجاح عمله الروائي (فرانكشتاين في بغداد)؟
(باب الطباشير)، وبعد قراءتي مخطوطتها ما قبل الطبع، لم توقف تلك التحسبات فحسب وإنما ايضاً عززت الثقة بما سيأتي من أعمال لكاتب يشارك زملاءه في صنع بدايات جديدة للرواية في العراق، وكل عمل أدبي ناجح هو بداية جديدة.
الكاتب:عبد الزهرة زكي
02/2/2017 12:00 صباحا