في هذا العام الأليم عام الحزن تعرَّض النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى أشدِّ المصائب، فكانت مصيبة وفاة خديجة رضي الله عنها بعد أسابيع قليلة من وفاة أبي طالب، ولم تهزَّ هذه المصائب مشاعر قريش قطُّ، إنَّما على النقيض من ذلك؛ فقد فَقَدوا كلَّ نخوتهم، وزادوا من إيذائهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليزيدوه حزنًا على حزنه!

ولقد كان إيذاؤهم له في هذه الفترة مختلفًا عن كلِّ المرحلة المكيَّة السابقة؛ فعلى الرغم من تعرُّض رسول الله صلى الله عليه وسلم للأذى من أوَّل يومٍ جَهَرَ فيه بالدعوة، وحتى يوم موت أبي طالب؛ فإنَّه لم يرَ مثل هذا الإيذاء قط! قال ابن إسحاق: فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتَهُ وَالتُّرَابُ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَامَتْ إِلَيْهِ إِحْدَى بَنَاتِهِ تَغْسِلُهُ وَتَبْكِي، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا تَبْكِي يَا بُنَيَّةُ، فَإِنَّ اللهَ مَانِعٌ أَبَاكِ». وَيَقُولُ بَيْنَ ذَلِكَ: «مَا نَالَتْ مِنِّي قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ»[1].

فالرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمات يعتبرُ كلَّ الأذى الذي تعرَّض له قبل ذلك وكأنَّه لم يكن بالقياس إلى ما حدث بعد وفاة عمِّه؛ فإنَّ قريشًا تجرَّأت عليه وناصبته العداء صريحًا دون حياء ولا خجل، وهذه طبيعة السفهاء من أهل الباطل؛ حيث لا يطلبون جنَّة، ولا يخافون نارًا، ولا يرجون حسابًا ولا نشورًا، فيفعلون ما بدا لهم وإن كان منكرًا في عرف الكرام.

ولم يكن هذا أمرًا ينفرد به أحدٌ دون أحدٍ؛ إنَّما كان عموم المشركين يفعلونه، نعم هناك أكابر المجرمين الذين بالغوا في تطاولهم؛ ولكنَّ أمر الإيذاء فشا في مكة حتى صار العوامُّ يجتمعون عليه صلى الله عليه وسلم يؤذونه، ومن هذا ما رواه الْحَارِثُ بْنُ الْحَارِثِ الْغَامِدِيُّ رضي الله عنه حيث يحكي موقفًا له في طفولته يوم كان يزور مكة مع أبيه فقال: قُلْتُ لأَبِي: مَا هَذِهِ الْجَمَاعَةُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى صَابِئٍ لَهُمْ. قَالَ: فَنَزَلْنَا فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو النَّاسَ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ عز وجل وَالإِيمَانِ بِهِ، وَهُمْ يَرُدُّونَ عَلَيْهِ وَيُؤْذُونَهُ، حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ وَانْصَدَعَ عَنْهُ النَّاسُ، وَأَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ قَدْ بَدَا نَحْرُهَا تَحْمِلُ قَدَحًا وَمِنْدِيلًا، فَتَنَاوَلَهُ مِنْهَا وَشَرِبَ وَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: «يَا بُنَيَّةُ خَمِّرِي عَلَيْكِ نَحْرَكِ، وَلَا تَخَافِي عَلَى أَبِيكِ». قُلْنَا: مَنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: زَيْنَبُ بِنْتُهُ[2]. وواضحٌ أنَّ زينب رضي الله عنها قد ألْهَتْها مصيبة إيذاء أبيها عن إصلاح ثوبها، فجاءت مسرعةً من بيتها، تحمل الماء له ليغسل تراب المشركين عن رأسه ووجهه، حتى لفت رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرها إلى إصلاح خمارها، وطمأنها برفقٍ على حياته.

كان هذا هو إيذاء العامَّة لرجلٍ واحد، وهو إيذاءٌ يلفت نظر الزائرين والأطفال، حتى تطوَّع السفهاء بالإيذاء باجتهادٍ منهم ودون أمرٍ من سادتهم، وكثيرًا -للأسف- ما نرى العوامَّ البسطاء الفقراء المعدومين يتحمَّسون لحرب الحقِّ دون تروٍّ ولا تفكير، ويسيرون على نهج الكبراء الظالمين دون أن يكون لهم ناقةٌ ولا جمل في الأمر؛ بل أحيانًا يكونون أشدَّ غلظةً، وأكثر سفاهةً من أسيادهم! ولذلك فإنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يعفيهم من العقاب يوم القيامة؛ بل يُدْخِلُهم مُدْخَل كبرائهم، فتضيع بذلك آخرتهم كما كانت دنياهم ضائعة، وكأنَّهم باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم! قال تعالى: ﴿وَبَرَزُوا للهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ﴾ [إبراهيم: 21].

ويبدو أنَّ موت أبي طالب كان مؤْذِنًا بذهاب كلِّ ذرَّة مروءة أو خُلُق عند معظم زعماء قريش؛ لأنَّنا رأينا في هذه المرحلة أنَّ مستوى التدنِّي في الأخلاق في التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ حدًّا لا يُمكن أن نستوعبه؛ خاصَّةً إذا علمنا شرف رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبًا وأخلاقًا وقيمةً في مجتمع مكة، وإذا علمنا كذلك أنَّه في هذه الأحداث قد بلغ الخمسين من عمره، فهو شيخٌ له مكانته ووضعه، فوق أنَّه الصادق الأمين الذي يشهد له القريب والبعيد بالتفوُّق على أهل مكة؛ بل على أهل الأرض جميعًا، ثم ها نحن نجد السفاهة تصل بالقرشيِّين إلى هذا المستوى؛ الذي إن حدث من غلامٍ سفيهٍ استغربناه، فما بالنا نراه من زعماء كبار، وسادة متمكِّنين! ولكن يبدو أنَّ هذه سُنَّة ماضية؛ وهي أنَّ أهل الباطل يفقدون عقولهم في حال رؤية أهل الحقِّ ثابتين على دينهم، فتخرج منهم بعض المواقف التي يتعجَّب لها العقلاء! وكان منها هذا الموقف السفيه الذي يرويه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الكَعْبَةِ وَجَمْعُ قُرَيْشٍ فِي مَجَالِسِهِمْ؛ إِذْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَلَا تَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا الـمُرَائِي؟ أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى جَزُورِ آلِ فُلَانٍ، فَيَعْمِدُ إِلَى فَرْثِهَا وَدَمِهَا وَسلاها، فَيَجِيءُ بِهِ، ثُمَّ يُمْهِلُهُ حَتَّى إِذَا سَجَدَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَاهُمْ -وفي رواية: عقبة بن أبي معيط[3]-، فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَثَبَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدًا، فَضَحِكُوا حَتَّى مَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ مِنَ الضَّحِكِ، فَانْطَلَقَ مُنْطَلِقٌ إِلَى فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ -وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ- فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى، وَثَبَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدًا حَتَّى أَلْقَتْهُ عَنْهُ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَسُبُّهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ، قَالَ: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ». ثُمَّ سَمَّى: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعُمَارَةَ بْنِ الوَلِيدِ». قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى القَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَأُتْبِعَ أَصْحَابُ القَلِيبِ لَعْنَةً»[4].

ولنا مع هذا الموقف الصعب عدَّة تعليقات:

أولًا: أشدُّ ما يغيظ أهل الباطل والكفر أن يستعلن المسلمون بدينهم؛ لأنَّهم يعلمون أنَّ هذا الدين هو دين الفطرة، وأنَّه لو تُرِك الناس لفطرتهم فإنَّهم سيُسْلِمون حتمًا؛ ومن ثَمَّ فإنَّ وسيلة أهل الباطل الرئيسة في حرب الإسلام هي التعتيم عليه، وعدم إظهار أخباره أو آثاره للناس، ومن هنا فَزِع قائلهم -وفي روايةٍ أنَّه أبو جهل[5]- فقال: أَلَا تَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا «الـمُرَائِي»؟ فكانت مشكلته الرئيسة في عين أبي جهل أنَّه يُظْهِر أمره للناس، ولو تكتَّم الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته ما تعرَّض له، ولو صلَّى في بيته ما فكَّر في إيذائه، ولَكِنْ مَنْ يُعَلِّم الناسَ دينَهم إنْ تكتَّم الدعاةُ أمرَهم؟! فلا بُدَّ من الإعلان إذًا كلَّما سمحت الظروف بذلك، ولِنعلم أنَّ الإيذاء أمرٌ متوقَّع؛ بل هو حتمي؛ ولكنَّه ثمنٌ مقبول، بل زهيد، لتوصيل رسالة ربِّ العالمين.

ثانيًا: مسألة السخرية والاستهزاء والضحك من المؤمنين أمر متكرِّر في قصص كلِّ الصالحين؛ فقد رأيناه مع الأنبياء السابقين، ورأيناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان المشركون في هذا الموقف يضحكون حتى يميل بعضهم على بعضٍ من شدَّة الضحك! وإنَّ المرء ليعجب! ما الذي يُضحكهم عند رؤية شيخ يُصَلِّي وقد ألقوا القذر على ظهره، وكأنَّهم يُشاهدون لقطةً فكاهيَّةً لا يملكون أنفسهم عن التمايل من شدَّة الضحك عليها؟! إنَّها السفاهة والحماقة التي تدلُّ على خفَّة العقل وتفاهته.. وهذا ما نراه في أيامنا هذه في بعض البرامج التلفزيونيَّة حين يقوم أحد الإعلاميِّين أو المهرِّجين بالسخرية من رجال الدعوة، أو علماء الإسلام، وتكون سخريَّتهم لاذعة سخيفة، في حين أنَّهم يتناولون موقفًا جادًّا من مواقف هؤلاء الدعاة أو العلماء؛ سواءٌ في خطبةٍ دينيَّةٍ أم سياسيَّةٍ أم غير ذلك من الأمور المهمَّة، فيَقْلِبون الحدث إلى فكاهة، وتكون متعتهم في هذا الإسفاف!

ذكر الله عزَّ وجلَّ أمر هؤلاء حين قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المطففين: 29-36].

ثالثًا: أثْبَتُّ هذه الرواية في هذه المرحلة الزمنيَّة، وليس في مرحلةٍ سابقة من مراحل مكة، لأسباب كثيرة؛ منها أنَّ هذا التعدِّي الصارخ من الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا بعد موت أبي طالب، فقد كان إيذاؤه قبل ذلك في مواقف فرديَّة بعد مناظرةٍ أو حوار، أمَّا هذا التعدِّي الذي حدث في العلن، ومن مجموعة من القادة من قبائل مختلفة فلم يحدث إلَّا بعد وفاة أبي طالب؛ ومنها أنَّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ذَكَر أنه انطلق منطلقٌ إلى فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخبرها بالأمر؛ وذلك حتى تأتي وترفع سلا الجزور من على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان أبو طالب حيًّا لذهب إليه هذا الإنسان ولم يذهب إلى طفلةٍ صغيرة؛ ومنها أنَّ فاطمة رضي الله عنها في هذا الموقف تفقه وتتحرَّك بقوَّة، وتذهب إلى زعماء قريش تسبُّهم، وهذا يعني أنَّها عاقلة وفاهمة.. نعم هي ما زالت جويرية -أي جارية صغيرة- ولكنَّها ليست بالصغيرة التي لا تعي ما تفعل، فإذا عَلِمنا أنَّها وُلِدَت قبل البعثة بسنةٍ تقريبًا، فهذا يعني أنَّها كانت في هذا الموقف في الحادية عشر من عمرها، وهذا مناسبٌ لما قامت به من دفاعٍ عن أبيها، ومن تصدٍّ لزعماء المشركين بالسباب، ومنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش تصريحًا، ولم يكن يفعل ذلك قبل وفاة أبي طالب؛ حيث كان مجال الدعوة مفتوحًا نسبيًّا فكان يُؤَمِّل في إسلامهم؛ بل إنَّه دعا على أبي جهل تحديدًا، وكان قبل ذلك يقول: «اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَامَ بِأَحَبِّ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَوْ عَمْرِو بْنِ هِشَامٍ -أي أبا جهل»[6].

وهذا الاجتهاد في تحديد موعد هذه القصَّة مهمٌّ؛ لأنَّ راوي الحديث هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وكان يُشاهد بعينيه الحدث، لا يحكيه روايةً عن أحد؛ حيث يقول في إحدى رواياته: «وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ، لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم»[7]. ووجود عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في هذا الموقف الذي حدث في العام العاشر من البعثة بعد موت أبي طالب -أي بعد شهر رجب من هذا العام- يُساعد على تحديد موعد الهجرة الثانية إلى الحبشة؛ لأنَّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان مشاركًا فيها، ومصاحبًا لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في رحلته إلى هناك، وهذا سيأتي تفصيله عند الحديث عن الهجرة الثانية إلى الحبشة إن شاء الله.

رابعًا: ذكرنا منذ قليل -في النقطة السابقة- أنَّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان ينظر إلى الحدث؛ لكنَّه لم يستطع أن يتقدَّم لرفع الأذى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بحسرة: «لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم». فعبد الله بن مسعود رضي الله عنه لم يكن من أهل مكة الأصليِّين؛ إنَّما هو من هذيل، وكان يُحالف بني زهرة، وكان رجلًا فقيرًا يعمل في رعاية الغنم لعقبة بن أبي معيط، وعقبة هو أحد الزعماء الكبار المشاركين في هذا الموقف؛ بل هو الفاعل الرئيسي فيه، فتحرُّكُ عبدِ الله بن مسعود رضي الله عنه لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف يعني قتله بشكلٍ مباشر، والمسلمون ما زالوا مأمورين حتى هذه اللحظة بالإعراض عن المشركين مهما بلغ الأذى؛ ولذلك لم يتحرَّك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مع شدَّه ألمه لِمَا يتعرَّض له رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ومن ثَمَّ آثر الانتظار، ولم يوجِّه له رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لومًا ولا عتابًا، دلالةً على إقراره صلى الله عليه وسلم لردِّ فعل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وسنعرض لموقفٍ قريبٍ يكون فيه ردُّ فعلٍ مختلف من أبي بكر الصديق رضي الله عنه ونذكر الفارق إن شاء الله.

خامسًا: لم يذهب هذا الإنسان الذي أخبر فاطمة رضي الله عنها إلى حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه لكي لا يضعه في صدامٍ أو حرجٍ مع كبير العائلة الآن أبي لهب، ولم يذهب إلى أحد فرسان المسلمين كعمر بن الخطاب أو الزبير بن العوام رضي الله عنهما أو غيرهما؛ حتى لا يُؤَدِّي إلى صدامٍ بين المسلمين والمشركين في وقتٍ لا نقدر فيه على ذلك.

سادسًا: أتوقع أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا على هذه الأسماء السبعة تحديدًا بعد أن أخبره الوحي أنَّهم جميعًا سيموتون على الكفر؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم كان طويل الصبر، وواسع الصدر، ويَحْلُم كثيرًا على المتعرِّضين له بالإيذاء والجهل، وما رأينا الدعاء على المشركين إلَّا في مواطن معيَّنة محدودة في السيرة، ولعلَّ هذا الموقف من أوائلها، إن لم يكن أولها على الإطلاق، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي من الألم على كفر الناس وبُعدهم عن الإيمان، وكان حرص الرسول على هداية الكفار أوضح ما يكون في كلِّ مراحل الدعوة، حتى قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فاطر: 8]؛ ومن ثَمَّ فهو لم يكن لِيَدْعُوَ عليهم بالهلكة على الكفر إلَّا إذا عَلِم أنَّ إيمانهم لن يتحقَّق أبدًا، وهذا لا يُعْرَف إلَّا بالوحي، وبالإضافة إلى ذلك فإنَّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ذَكَر أن جميع مَنْ دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُتِلوا يوم بدر، ولم يتحوَّل أحدهم إلى الإسلام قطُّ، ولقد رأينا غيرهم ممَّن اشتدَّ على المسلمين في فترةٍ من فترات مكة، بل لعلَّه كان أكثر شدَّة من هؤلاء، ولم يَدْعُ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه سيتحوَّل إلى الإسلام بعد ذلك؛ أمثال: عمير بن وهب، وفضالة بن عمير، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أميَّة، وغيرهم، وهذا يُؤَكِّد أنَّ في الأمر وحيًا، وأنَّ الأصل أن ندعو للكفَّار بالهداية، فإن اشتدَّ طغيانهم جاز أن نتحوَّل إلى الدعاء عليهم، ويبقى إسلامهم أحبَّ إلينا من موتهم على الكفر.

واستكمالًا لهذا الموقف الذي ذكرناه فإنَّ هناك روايةً أخرى مؤثِّرة للغاية تشرح حدثًا ترتَّب على هذه القصَّة، وفيه بعض الاستفادات الدعويَّة؛ لهذا آثرتُ أن آتي به ليكمل المعنى.

فقد روى البزار بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود قال: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَشَيْبَةُ، وَعُتْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَرجلانِ آخَرَانِ كَانُوا سَبْعَةً، وَهُمْ فِي الْحِجْرِ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، فَلَمَّا سَجَدَ أَطَالَ السُّجُودَ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيُّكُمْ يَأْتِي جَزُورَ بَنِي فُلَانٍ، فَيَأْتِينَا بِفَرْثِهَا، فَيُلْقِيهِ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؟ فَانْطَلَقَ أَشْقَاهُمْ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، فَأَتَى بِهِ، فَأَلْقَاهُ عَلَى كَتِفَيْهِ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ لَمْ يَهْتَمَّ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَأَنَا قَائِمٌ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَتَكَلَّمَ لَيْسَ عِنْدِي مِنْعَةٌ تَمْنَعُنِي، فَأَنَا أَرْهَبُ؛ إِذْ سَمِعَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَقْبَلَتْ حَتَّى أَلْقَتْ ذَلِكَ عَنْ عَاتِقِهِ، ثمَّ اسْتَقْبَلَتْ قريشًا تَسُبُّهُمْ، فَلَمْ يُرْجِعُوا إِلَيْهَا شَيْئًا، وَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ كَمَا كَانَ يَرْفَعُ عِنْدَ تَمَامِ السُّجُودِ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاتَهُ، قَالَ: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ». ثَلَاثًا «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعُتْبَةَ، وَعُقْبَةَ، وَأَبِي جَهْلٍ، وَشَيْبَةَ». ثمَّ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَلَقِيَهُ أبو البختري، وَمَعَ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ سَوْطٌ يتخصر به، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أنكر وجهه، فَقَالَ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «خَلِّ عَنِّي». قَالَ: عَلِمَ اللهُ لَا أُخَلِّيَ عَنْكَ أَوْ تُخْبِرَنِي مَا شَأْنُكَ، فَلَقَدْ أَصَابَكَ شَيْءٌ؟ فَلَمَّا عَلِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ غَيْرُ مُخَلٍّ عَنْهُ أَخْبَرَهُ، فَقَالَ: «إِنَّ أَبَا جَهْلٍ أَمَرَ فَطُرِحَ عَلَيَّ فَرْثٌ». فَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: هَلُمَّ إِلَى الْمَسْجِدِ. فَأَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ، فَدَخَلَا الْمَسْجِدَ، ثمَّ أَقْبَلَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ إِلَى أَبِي جَهْلٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ، أَنْتَ الَّذِي أَمَرْتَ بِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) فَطُرِحَ عَلَيْهِ الْفَرْثُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَرَفَعَ السَّوْطَ فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَهُ، قَالَ: فَثَارَ الرِّجَالُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ قَالَ: وَصَاحَ أَبُو جَهْلٍ: وَيْحَكُمُ هِيَ لَهُ، إِنَّمَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُلْقِيَ بَيْنَنَا الْعَدَاوَةَ، وَيَنْجُوَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ فَلَمَّا رَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ، حَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ الْمَلأَ مِنْ قُرَيْشٍ»[8].

مع مرارة هذا الموقف الذي مرَّ بنا، ومع شدَّة حزننا على ما عاناه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هناك بارقة أملٍ تظلُّ موجودةً في كلِّ مجتمع، مهما كان مشركًا أو معاديًا للإسلام، فهذا أبو البختري بن هشام لا يكتفي بنقض الصحيفة الظالمة قبل ذلك؛ ولكنَّه يدخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهامة، ويضرب أبا جهل بالسوط في رأسه، مُعَرِّضًا نفسه لغضب بني مخزوم، ومُحْدِثًا أمرًا قد يُفضي إلى صراعٍ خطرٍ في داخل مكة، مع أنَّه ليس مسلمًا، وليس من قبيلة بني هاشم؛ ولكنَّه رجلٌ شهمٌ يُؤَيِّد الفضيلة، ويكره الظلم، ولقد شفى الموقف صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين قليلًا، ورفع شيئًا من الحرج الذي أصاب المسلمين.

إنَّنا ينبغي أن نبحث عن مثل هذه النماذج في مجتمعاتنا، فلن يخلو مجتمع من رجل أو رجال أمثال أبي البختري بن هشام، وهؤلاء قد يُقَدِّمون عونًا كبيرًا للقضيَّة الإسلاميَّة، وإن كانوا لا يعتنقونها، ولا يؤمنون بها.

ولعلَّ سائلًا يسأل: ولماذا لم يَقُمْ بهذا الدور حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وهو فارس قريش، وعمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأجدر بحمايته من أبي البختري بن هشام، كما أنَّ حمزة رضي الله عنه في يومِ إسلامه ضَرَب أبا جهل، ولم يتحرَّك أحدٌ من بني مخزوم، وكان ضَرْبُه لأبي جهل في موقف أهون من الموقف الذي يتعرَّض له الرسول صلى الله عليه وسلم الآن؟

والإجابة أنَّ حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه الآن مسلم، وتصرُّفاته محسوبة على المسلمين وليس على بني هاشم، والمسلمون مطالبون بكفِّ اليد، والإعراض عن المشركين، وقيام حمزة رضي الله عنه بضرب أبي جهل لن يُفْضِيَ في الواقع إلى حرب بين بني هاشم وبين بني مخزوم؛ ولكن سيفضي إلى ما هو أخطر! إنه سيُفضي إلى حرب بين المسلمين وبين الكفار، وهذا لا يُناسب المرحلة؛ لذلك لم يتحرَّك حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه في هذا الموقف ولا غيره حتى لا يتخطَّى المسلمون مرحلة من المراحل ولم يستعدوا لذلك الاستعداد المناسب.

ومرَّ موقف أبي جهل وعقبة بن أبي معيط دون آثار كبيرة في مكة، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا قبيلة تُدافع عنه؛ خاصَّةً أنَّ زعيم قبيلته صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبي طالب كان أبا لهب، وهو من أشدِّ المحاربين للإسلام، وهذا الموقف المتأزِّم دفع عقبة بن أبي معيط إلى زيادة وتيرة الإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ففكَّر في الإقدام على خطوة متهوِّرة للغاية، وهي محاولة قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم!

[1] ابن هشام: السيرة النبوية 1/416، والطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/344، والبيهقي: دلائل النبوة 2/350، وابن عساكر: تاريخ دمشق 66/338، وذكره الذهبي في تاريخه وقال: غريب مرسل. انظر: تاريخ الإسلام 1/235، وذكره ابن كثير وقال: قد رواه زياد البكائي عن محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه مرسلًا، والله أعلم. انظر: البداية والنهاية 3/164، وقال مجدي فتحي السيد: إسناده مرسل، والحديث حسن. انظر: سيرة النبي صلى الله عليه وسلم 2/29.

[2] الطبراني: المعجم الكبير (3374)، واللفظ له، وابن عساكر: تاريخ دمشق 11/407، وقال الهيثمي: رواه الطبراني، ورجاله ثقات. انظر: مجمع الزوائد 6/21.

[3] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة، (3641)، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين، (1794).

[4] البخاري: أبواب سترة المصلي، باب المرأة تطرح عن المصلي شيئًا من الأذى، (498)، واللفظ له، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين، (1794).

[5] فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان. مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين، (1794).

[6] الحاكم (6129) واللفظ له، والطبراني: المعجم الأوسط (1860)، ورواه الترمذي (3681)، وقال: حديث حسن صحيح. وأحمد (5696).

[7] مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين، (1794).

[8] البزار: البحر الزخار 5/241، واللفظ له، والطبراني: المعجم الأوسط (762)، وأبو نعيم الأصبهاني: دلائل النبوة ص267، وقال الهيثمي: حديث ابن مسعود في الصحيح باختصار قصة أبي البختري، رواه البزار، والطبراني في الأوسط، وفيه الأجلح بن عبد الله الكندي، وهو ثقة عند ابن معين، وغيره، وضعفه النسائي، وغيره. انظر: مجمع الزوائد 6/18.

د.راغب السرجاني