بما ان البشرية في ذلك الوقت لم تصل بعد لمرحلة النضج الفكري وكانت تسير نحو التكامل الإنساني في تطور مستمر في الفكر والثقافة وتحصيل العلوم وحصول التجارب وغير ذلك من التطور البشري.
ولذلك كانت رسالة كل نبي من الأنبياء أو الرسل أكثر شمولاً لمتطلبات الحياة ومتطلبات العصر من الرسول السابق له ومكملة لرسالته، إلى أن جاء النبي محمد (صلى الله عليه وآله) حينما وصلت البشرية لمرحلة من التطور الفكري بحيث تستطيع أن تستوعب هذا المشروع الإلهي الكبير فوضع الدستور المتكامل للحياة والذي يمثل أيضاً دستور الدولة الإلهية الموعودة، ونزلت هذه الآية ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (1).
وبذلك أُكملت الرسالات السماوية ووضعت النظرية المتكاملة لأهل الأرض وجاءت رسالة النبي محمد (صلى الله عليه وآله) خاتمة لجميع الرسالات وناسخة لها جميعاً.
ولعل هناك من يتساءل مادام الدين قد اكتمل، والبشرية وصلت لمرحلة النضج الفكري عندما جاء النبي محمد (صلى الله عليه وآله) فلماذا لم تطبق هذه الحكومة الإلهية في حينها على كل الأرض؟ ومادام قد وُضع الدستور المتكامل لكل البشر فلماذا لم يوضع موضع التنفيذ الفعلي في جميع المعمورة؟ ولماذا يبشر النبي بالمهدي من ولده في آخر الزمان وأنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملأت ظلماً وجوراً ؟ ولماذا لا يكون النبي محمد (صلى الله عليه وآله) هو المنفذ لهذه الحكومة الموعودة ؟
والجواب أن البشرية في ذلك الوقت واقعاً وصلت لمرحلة النضج الفكري بحيث تستطيع فهم هذا المشروع الإلهي الكبير، إلا أنها لم تصل بعد لإمكانية التطبيق العملي لهذا الدستور الكامل في جميع الكرة الأرضية ولم تصل بعد لمرحلة الاستعداد الحقيقي للتطبيق الفعلي لهذا المشروع.فعلى سبيل المثال لا الحصر إذا راجعنا الروايات التالية نفهم أنه في زمن المهدي (عليه السلام) لن يكون هناك غني وفقير...! فحينما يطبق العدل على الجميع سيكون الكل غنياً ولا وجود للمحتاجين في ذلك المجتمع المثالي.فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (يخرج المهدي حكماً عدلاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير، ويطاف بالمال في أهل الحواء ـ أي أهل الحي ـ فلا يوجد أحد يقبله)(2).
وعنه (صلى الله عليه وآله) قال: (أبشركم بالمهدي يقسم المال صحاحاً بالسوية ويملأ الله قلوب أمة محمد غنى، ويسعهم عدله حتى يأمر منادياً فينادي: من له في مال حاجة)(3).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (فحينئذٍ تُظهر الأرض كنوزها وتُبدي بركاتها، فلا يجد الرجل منكم يومئذٍ موضعاً لصدقته ولا لبره لشمول الغنى جميع المؤمنين)(4).
إذاً فلنا أن نسأل من الذي سوف يعمل في الأعمال الشاقة والمتعبة في ذلك الزمان، ومن الذي سيعمل في بعض الأعمال الدنيئة كمهنة الزبال مثلاً أو خلافه مادام الكل غنياً ولديه المال الكافي...؟
والجواب أنه بعد أن ترى البشرية من الظلم والفجائع مالا تطيقه، وبعد امتلاء الأرض جوراً وظلماً، وبعد تجربة جميع الأطروحات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية وبعد فشلها جميعاً، ستصل البشرية لحالة من اليأس بحيث تطلب فيها إقامة دولة العدل الإلهي الموعودة.
وستطالب البشرية بتطبيق هذا المشروع الإلهي الكبير في الأرض مهما كلفها الأمر، وسيعمل الجميع حينئذٍ لإنجاح هذه الحكومة العادلة وحتى إذا استدعى الأمر للعمل في الأعمال الشاقة طلباً للأجر والثواب من الله فقط.ولقد جاء في بعض الأخبار أنه في زمان الإمام المهدي (عليه السلام) لن يكون هناك أجر مالي للبضائع في أثناء البيع وإنما الصلاة على محمد وآل محمد فقط...!
وحتى إذا قلنا بعدم صحة هذه الأخبار إلا أنه لن يكون هناك مانع عند أحد ما من العمل في الأعمال الشاقة والدنيئة مادام في ذلك قيام الدولة الإسلامية وبقاؤها وديمومتها.ولذلك كان بعض من مهام الأئمة المعصومين (عليهم السلام) من بعد النبي (صلى الله عليه وآله) هو إيصال الأمة إلى هذه المرحلة من الاستعداد والجاهزية.فعن بريد العجلي قال: قيل لأبي جعفر الباقر (عليه السلام) إن أصحابنا بالكوفة جماعة كثيرة فلو أمرتهم لأطاعوك واتبعوك، فقال (عليه السلام): يجيء أحدهم إلى كيس أخيه فيأخذ منه حاجته ؟ فقال: لا، فقال(عليه السلام): فهم بدمائهم أبخل، ثم قال: إن الناس في هدنة نناكحهم ونوارثهم ونقيم عليهم الحدود ونؤدي أماناتهم حتى إذا قام القائم جاءت المزاملة ويأتي الرجل إلى كيس أخيه فيأخذ حاجته لا يمنعه(5).
وكان كل إمام من الأئمة (عليهم السلام) يقوم بمهام تتناسب مع مرحلة التطور في الأمة والوضع الاجتماعي الذي يعاصره، فنرى الإمام الحسين (عليه السلام) يقوم بثورة ضد يزيد، بينما الإمام زين العابدين يركز على جانب التربية بالدعاء والعبادة، بينما نرى الإمامين الباقر و الصادق يركزان على المجال العلمي والفقهي.وحينما وصلت الأمة في زمان الإمام العسكري (عليه السلام) لمرحلة من التطور بحيث تستطيع تحمل أعباء غيبة الإمام عنها حدثت الغيبة الصغرى ومن بعدها الغيبة الكبرى بالتدريج حيث سبق ذلك انقطاع الأئمة السابقين للمهدي (من بعد الإمام الرضا) عن الاتصال المباشر بالأوساط الاجتماعية لوضعهم تحت الإقامة الجبرية في دورهم وتحت الملاحظة الدائمة من قِبل السلطات الحاكمة آنذاك، وكذلك اتخاذ الأئمة نظام الوكلاء بينهم وبين عامة شيعتهم ومواليهم تمهيداً لغيبة الإمام المهدي (عليه السلام).