لم تترك السيرة النبوية موقفًا من المواقف يمكن أن يتعرَّض له المسلمون في حياتهم إلا وفسَّرت كيف يمكن التعامل معه، وأوضحت كذلك الحدود الشرعية للمسلم في هذا الموقف أو الظرف، ولئن كان البعض لا يستطيع أن يُطَبِّق أحكام الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة على واقع حياة المسلمين في البلاد الغربية والشرقية؛ وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أنشأ مجتمعًا إسلاميًّا في المدينة كان المسلمون هم أهم عناصره، فإن الهجرة إلى الحبشة أعطت نموذجًا جديدًا يهاجر فيه المسلمون إلى بلد تعيش فيه الأغلبية غير المسلمة، وتظهر فيه الأحكام المناسبة التي سيحتاج إليها المسلمون المهاجرون حتمًا..
كيف تتعامل الأقلية المسلمة مع الدولة الأجنبية التي يعيشون فيها؟
هذه التجربة الجديدة -أعني تجربة اللجوء السياسي إلى دولة غير مسلمة- تناولها فقهاء الإسلام في كتبهم، ولعل ابن حزم كان من أكثرهم شرحًا وتفصيلًا في المسألة[1]؛ ويبدو أن ذلك راجع إلى كونه من أهل الأندلس، وكان يعيش بالقرب من البلاد الأوربية النصرانية؛ بل كانت حياته في عهد ملوك الطوائف، وهي فترة ضعفت فيها الدولة الإسلامية إلى درجة كبيرة أدت إلى ظهور فكرة ترك البلاد والهجرة إلى بلاد النصارى، مما فتح المسألة للنقاش والبحث.
ولذلك فإن لهذه التجربة الأولى أهمية خاصة؛ حيث إنها وقعت في زمن استضعافٍ للمسلمين، الذي قد يتشابه مع وضع المسلمين الحالي في بعض البلاد، كما أنها وقعت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وهو ما يُضفي مغزًى تأصيليًّا على الدروس والعبر المستخلصة منها.
دروس في تعامل الأقليات:
ولعلَّ أكثر ما يمكن أن نستخلصه من دروس من تجربة هجرة المسلمين إلى الحبشة، هو ذلك المنهج الواقعي الذي يستطيع المسلمون المهاجرون من خلاله حماية دينهم، ورعاية مصالحهم، وكسب ود غيرهم؛ بل اكتسابه للإسلام..
ويمكن أن نزيد ذلك وضوحًا من خلال النقاط التالية؛ وذلك مع الأخذ في الاعتبار أننا لا نقصد حصر النقاط الفقهية الخاصة بالجاليات المسلمة، إنما فقط الإشارة إلى بعض الدروس:
1- كان مبدأ العدل وحرية العقيدة هو المعيار الواضح الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم لاختيار الحبشة مقصِدًا للهجرة؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: «لَوْ خَرَجْتُمْ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ؛ فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ». فالذي لا يَظلم يعمل على حفظ حقوق الآخرين، بصرف النظر عن ديانتهم؛ بل بصرف النظر عن حبهم وكراهيتهم، والعدل بذلك من أُسس الحكم ودعائمه الأولى، وبغيره لا تستقيم الدنيا ولا ينصلح فيها حال، وهذا معيار لا بُدَّ أن يضعه المسلمون في حساباتهم عند الهجرة إلى بلد معين؛ ومن أبرز ملامح هذا العدل وجود القضاء النزيه الذي ينصف المسلمين في قضيتهم، وقد ظهر ذلك حين انتهت المناظرة مع عمرو بن العاص بانتصار المسلمين، واقتناع النجاشي رحمه الله بعدالة قضيتهم، ورجوع رسولي قريش من عند النجاشي شر مرجع.
2- كانت النصرانية -إحدى ديانات أهل الكتاب- الدينَ الغالب على دولة الحبشة، وبذلك فأهلها أقرب إلى المعايشة والمساكنة للمسلمين من غيرهم، وقد أوضح القرآن الكريم ذلك فيما بعد؛ فقال الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}[المائدة: 82]، وقد أفاد هذا كثيرًا -كما رأينا- في التعامل مع المهاجرين المسلمين؛ ومن ثَمَّ فهجرتنا إلى هذه البلاد أولى من الهجرة إلى البلاد التي يغلب عليها الطابع الوثني الإلحادي.
3- وضح لنا من خلال هذه القصة تكاتف الأقلية المسلمة كلها في حلِّ قضاياها، وتغلغل مسألة الشورى في نفوسهم؛ ومن ثَمَّ الخروج برأي واحد يجمع الأقلية المسلمة كلها، كما يعطي لهم قوة واضحة أمام غير المسلمين، بالإضافة إلى اختيار أفضل الآراء الممكنة؛ نتيجة اشتراك المسلمين جميعًا في إنتاج هذا الرأي.
4- كان من النقاط اللافتة للنظر في القصة اختيار متحدث رسمي للأقلية، يتكلم بشكل مسئول، ويُعبِّر بكلامه عن الأقلية بكاملها، ويطالب بحقوقهم، ويدافع عنهم أمام حكومة الأغلبية غير المسلمة. وقد وقع اختيار الأقلية المسلمة على جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ليكون ممثلًا عنهم؛ وذلك أنه يجمع من الصفات ما لم يتوافر عند غيره؛ فهو من العلماء الحافظين لما نزل من كتاب الله، والعارفين بشرع الإسلام، ومن الخطباء المفوهين، ومن المفاوضين المحنكين، كما أنه من أشراف قريش، وهو بذلك يتوافق مع العرف السائد بأن يكون السفير من علية القوم، وبالإضافة إلى كل ذلك فهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُعتبر في أعراف الناس متحدِّثًا عنه بشكل شخصي، وهو ما قد يُؤَثِّر على المفاوضات بشكل إيجابي.
5- تشاورَ المهاجرون واتفقوا على ألا يُداهنوا وألا يخفوا عقيدتهم حينما يُسألون عنها، التي من أجلها هاجروا، وكان ردُّهم: «نَقُولُ وَاللَّهِ مَا عَلَّمَنَا وَمَا أَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم كَائِنٌ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ»!!، وهذه نصيحة ثمينة جدًّا للجاليات المسلمة، فنحن قد هاجرنا لنعبد الله، فلا معنى أن ننحرف عن عبادتنا بُغية استمرار الهجرة.
6- تحتاج الأقليات المسلمة إلى حسن التعبير عن حقائق الإسلام الرائعة، ونظامه القيِّم الرفيع، كما فعل جعفر رضي الله عنه في خطبته البليغة التي أوجز فيها أمهات الفضائل الإسلامية، وأوضح الفرق بينها وبين الحياة الجاهلية؛ وبذلك لا يكسب المسلمون تعاطف الناس فقط؛ بل يكسبون الناس أنفسهم للالتحاق بركب التوحيد.
7- إن فن الإقناع وعلم العلاقات العامة لهما دور يحسن الانتباه له؛ يؤكد هذه الحقيقة الكلام الذي ختم به جعفر رضي الله عنه خطبته، حيث قال: «فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَشَقُّوا عَلَيْنَا وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ، وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ، وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ، وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ».
8- يحتاج أبناء الأقليات المسلمة إلى ترسيخ الإيمان بالله عز وجل، وتدعيم الثقة في الإسلام، حتى لا يدفعهم التفاعل مع غيرهم إلى تنازلات تَمَسُّ أساس الدين، مجاراة لعرف سائد أو تيار جارف. وفي رفض جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه السجود للنجاشي -كما فعل خصماه وكما كان يقضي العرف السائد- أسوة في هذا السبيل.
9- إن من واجب الأقلية المسلمة المشارَكة في الحياة السياسية والاجتماعية بإيجابية وتفاعلية، وعلى نحوٍ يُحَقِّق لها مصالحها وحقوقها، ومصالح الوطن الذي تعيش في كنفه، وقد تجسَّد ذلك في دعوة المهاجرين للنجاشي رحمه الله -الملك النصراني- بالنصر؛ وذلك حين ظهر مَنْ يُنازعه ملكه، وفرحهم بنصره، فقد قالت أم سلمة رضي الله عنها: «وَدَعَوْنَا اللهَ لِلنَّجَاشِيِّ بِالظُّهُورِ عَلَى عَدُوِّهِ وَالتَّمْكِينِ لَهُ فِي بِلَادِهِ». وهكذا يمكن للأقلية المسلمة أن تتبنى دعم أحد الزعماء غير المسلمين إذا كان أكثر نفعًا للمسلمين، أو على الأقل أخفَّ ضررًا عليهم.
10- لا بأس من التعايش تحت ظلِّ قوانين الدولة غير المسلمة؛ إذ إنها في غالب الأحوال ذات طابع إداري وتنظيمي، ولا تتعارض في مجملها مع دين الله وشرعه، وليست من ضروب التحاكم إلى غير الله المنهي عنه، وفي توضيح ذلك يقول الشنقيطي[2]: «اعلم أنه يجب التفريق بين النظام الوضعي الذي يقتضى تحكيمه الكفر بخالق السماوات والأرض، وبين النظام الذي لا يقتضى ذلك. وإيضاح ذلك أن النظام قسمان: إداري، وشرعي. أما الإداري الذي يُراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع، فهذا لا مانع منه، ولا مخالف فيه من الصحابة، فمَنْ بعدهم، وقد عمل عمر رضي الله عنه من ذلك أشياء كثيرة ما كانت في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم، ككتبه أسماء الجند في ديوان لأجل الضبط... مع أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك... فمثل هذا من الأمور الإدارية التي تفعل لإتقان الأمور -مما لا يخالف الشرع- لا بأس به؛ كتنظيم شئون الموظفين، وتنظيم إدارة الأعمال على وجه لا يخالف الشرع. فهذا النوع من الأنظمة الوضعية لا بأس به، ولا يخرج عن قواعد الشرع من مراعاة المصالح العامة»[3].
كانت هذه هي قصة الهجرة الثانية إلى الحبشة، وقد اجتهدنا أن نُخرج بعض دروسها، وأنا على يقين أن ما تركناه من دروس أكثر بكثير مما ذكرناه؛ لكن المجال لا يتسع للوقوف على كل نقطة، وهي بحق تحتاج إلى دراسة خاصة مستفيضة حتى لا يضيع موقف من مواقفها دون تمحيص وتحليل واستفادة.
------------
[1] قال ابن حزم: «... وَأَمَّا مَنْ فَرَّ إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ لِظُلْمٍ خَافَهُ، وَلَمْ يُحَارِبِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا أَعَانَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَجِدْ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُجِيرُهُ، فَهَذَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ مُكْرَهٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الزُّهْرِيَّ مُحَمَّدَ بْنَ مُسْلِم بْنِ شَهَابٍ: كَانَ عَازِمًا عَلَى أَنَّهُ إنْ مَاتَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لَحِقَ بِأَرْضِ الرُّومِ، لِأَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ يَزِيدَ كَانَ نَذَرَ دَمَهُ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَانَ الْوَالِي بَعْدَ هِشَامٍ فَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَهُوَ مَعْذُورٌ. وَكَذَلِكَ: مَنْ سَكَنَ بِأَرْضِ الْهِنْدِ، وَالسِّنْدِ، وَالصِّينِ، وَالتُّرْكِ، وَالسُّودَانِ وَالرُّومِ، مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ هُنَالِكَ لِثِقَلِ ظَهْرٍ، أَوْ لِقِلَّةِ مَالٍ، أَوْ لِضَعْفِ جِسْمٍ، أَوْ لِامْتِنَاعِ طَرِيقٍ، فَهُوَ مَعْذُورٌ». انظر: المحلى بالآثار 12/125. مع الأخذ في الاعتبار أن ابن حزم كان يتكلم عن الفرار إلى أرض الحرب، والحبشة لم تكن محاربة للمسلمين، وحتى بعد أن صار للمسلمين دولة في المدينة، أي دار إسلام، لم يرجع كل المهاجرين من الحبشة، ولو كان بقاؤهم بعد وجود دولة الإسلام حرامًا ما جاز لهم أن يمكثوا كل هذه الفترة الطويلة.
[2] الشنقيطي: هو محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الشنقيطي (1325-1393هـ= 1907-1973م): مفسر مدرس من علماء شنقيط (موريتانيا) ولد وتعلم بها، له (أضواء البيان في تفسير القرآن). انظر: الزركلي: الأعلام 6/45.
[3] الشنقيطي: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 3/260.
د.راغب السرجاني