بسم الله الرحمن الرحيم
النرجسية هي ذلك الطيف الحالم الذي يحمل صاحبه ليجوب به في عالم في غاية المثالية والنقاوة رسم أبجدياته عبر مراحل من التفاؤل والألم ثم لا زال يطرق حبائل أطيافه بين الفينة والأخرى ليجعلها تبدو هي الواقع الحاضر وإن تبطط لحم جسده وسال دمه وهو سائر في آثار هذا الطيف من الخيال الواقعي بالنسبة له .
- آثار التربية في صنع النرجسة الدينية على مستوى الفرد والجماعة .
للتربية الدور الأساسي في صنع النرجسية الدينية سواء على مستوى الأسرة أو على مستوى من يملك الخطاب المعرفي والديني من معلم وفقيه و واعظ ، وذلك باستجلاب الصورة المثالية دوما ورسمها في عقول ونفوس المتلقين دون مراعات تغير الواقع وتبدل الحال مما ينشء فردا ومجتمع سابح في أطياف نرجسته إلى أجل غير مسمى مليء بالعلل النفسية وشخصيات مهيأة لارتكاب ما هو خلاف المعقول باسم الدين .
- كيف عني الأوائل بالجانب العقلي والواقعي في تربية الفرد والمجتمع ؟
لعلك تستغرب حين تعلم أن النرجسية كانت شبه معدومة في سلوك وتربية القرن الأول من المربين ، بل حاربوها في مهدها لينشأ جيل عاقل وواقعي ومع هذا على مستوى عالي من التدين والأخلاق ، يروى أن سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - " رأى بعض الناس في المسجد بعد صلاة الجمعة فسألهم:من أنتم؟ قال: متوكلون، قال: بل أنتم متواكلون...لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، إنما يرزق الله الناس بعضهم من بعض، أما سمعتم قول الله - تعالى -: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله)[الجمعة: 10]، وعلاهم بدرته وأخرجهم من المسجد ".
فهذا نموذج من الجيل المربي والطراز الرفيع .
- شؤم القعود بحجة التدين وتوظيف الدين !
نعم إنه ليس بالأمر الهين وقد وقع في الجمهور الأكبر من المتديني من أصحاب المدارس والإفتاء والخطابة ، فالنفس البشرية مجبولة على ضرورات دنيوية لا تستقر حتى تحصل على كفايتها منها من مأكل ومشرب ومسكن ومنكح ومطمع في رئاسة ونحوها ، ولكل صاحب صنعة فن في تحصيل ما يسهل له درب تحصيل هذه المنافع ، فإن كان من درب حلال وشريف كان بها ونعمة وإلا خشي أن يحصلها من طريق آخر .
-صاحب العلم والفقه الديني يخشى عليه ومنه !!
يخشى عليه كونه صفى نفسه ووقته لهذا الأمر وخالف الطريق المرسوم قدرا وشرعا من لزوم بذل الجهد والسعي لطلب الرزق ، فهذه التصفية ولدة له فراغ قد يراه هو وغيره أمر محمود لأنه صار يتكلم في شتى الفنون ويتعمق وينقر فولد له أنواع من التيه وكثرة معارف لم يؤمر باسقصائها فأشغل نفسه وأشغل غيره عن الزبد وأصل أمر التعبد فحصلت أنواع من المخاصمات والمجادلات ثم لم يقتصر الأمر على هذا حتى صار مقتفي هذا الأمر يوظف ظهوره بأنه صاحب كلام ومعرفة للبحث عن العلو على غيره فيحزب وينصر فكره لا لذاتها ولكن لأنها ستوصله للمقام الذي يطمح له في قلوب الناس ومكانة في كراسي الدنيا ، ثم استلزم كون هذه صنعته أن يتخير لنفسه وطائفته زي وملبس معين ليزد تكبير الناس له وليتسلط على نفوسهم لا لفضله وعلمه بل لهيئته ولبسه .
ويخشى منه لأن هذا التيه الذي يجول في نفسه لن يهدأ ولن يتسامح بأن يظهر منقوص القدر فلا يؤمن أن يثور شور على الناس ويكون رأس في فتنه وتأجيج المشاعر وتعزيز الطائفية باسم الدين وانتقاص حقوق المظلومين !
- الخلاصة والمقصد .
أنه يتحتم إعادة تهيئة النفس والمجتمع وليكن ذلك إنطلاقا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ) ، فكل المعارف والصناعات الإدارية والمحاسبية والتقنية والطبية والهندسية هي مجال رحب لطالب الرزق والساعي في الأرض اليوم فاحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا يمنعك هذا عن تعلم صلاتك وصيامك وتوحيد ربك لتعبد ربك على بصيرة (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) فكل ما هو مأمور به جاء في مصلحتك أيه الإنسان ومقوم لطبيعتك حتى تخلص إلى بر الأمان بلا إفراط ولا تفريط ، والله الموفق .