أكيد أنك أُصبت بالاكتئاب ولو مرة واحدة في حياتك، ليس بالضرورة أن يكون اكتئاباً حاداً، فالحزن الشديد هو اكتئاب خفيف.
الدراسات وصلت إلى أن الاكتئاب حالة يلجأ إليها المخ للتحليل والاستغراق في مشكلةٍ يحاول إيجاد حلٍ للتعامل معها، رغم أن الجينات قد تلعب دوراً في ميل الشخص إلى الإصابة بالاكتئاب.
لماذا تصيب حالة منهكة كهذه هذا العدد من الناس؟
ينُص الفهم التقليدي لمرض الاكتئاب على أنَّه انهيارٌ في وظائف الدماغ عن طريقة عملها المثالية، وهو اختلال في توازن المخ الكيميائي يمكن تصحيحه عن طريق مزيجٍ من الأدوية والتغييرات السلوكية.
لكن، توجد أيضاً نظرية تقول إنَّ الاكتئاب قد يكون استراتيجية سلوكية طوَّرها الدماغ البشري بدلاً من كونه اضطراباً مَرَضياً لا أكثر، وإنَّه تأقلمٌ بيولوجي يخدم غرضاً محدداً.
ويشرح الكاتب العلمي ماثيو هاتسون، في مقالٍ منشور بمجلة Nautilus العلمية، الجذور التطوَّرية المُحتَمَلة للاكتئاب والسلوك الانتحاري، وأنَّ الهدف منه قد يكون دفعنا إلى التوقُّف وفهم مشكلةٍ مهمةٍ في حياتنا والتعامل معها.
ويقول هاتسون إنَّ أوَّل من وضَّح تلك الفكرة كان المختص بعلم النفس التطوُّري بول أندروز والطبيب النفسي أندرسون تومسون، وأطلقا عليها اسم “فرضية التأمل التحليلي”، وكان هذا في مقال نُشِرَ بمجلة Psychological Review عام 2009.
والمفهوم الأساسي من فرضية أنَّ ما نراه نحن بصفته اضطراباً هو في الحقيقة طريقة يستخدمها المخ للتحليل والاستغراق في مشكلةٍ يحاول إيجاد حلٍ للتعامل معها، ويطرح الباحثان أن المشاكل الصعبة أو المعقَّدة قد تثير رد فعل “اكتئابي” بالنسبة لبعض الأشخاص وتؤدي إلى دخول أدمغتهم في وضع تحليلي.
ويكتب هاتسون أنَّ في حالة الإصابة بالاكتئاب: “يتأمَّل المخ أكثر، ويصبح مهووساً بمصدر الألم الذي يشعر به”، إلى جانب زيادة النشاط التحليلي للمخ ومعدلات نوم حركة العين السريعة -REM ، التي يتمكَّن فيها النائم من الحلم بوضوح، والتي تنشِّط عملية استرجاع الذكريات وتحليلها. من أبرز أعراض الاكتئاب انعدام التلذُّذ-anhedonia، ويُقصَد به فقدان القدرة على الاستمتاع بالنشاطات الطبيعية. ووفقاً للمقاربة المطروحة، قد يرجع هذا لكون تلك النشاطات تعطّل مرحلة “المعالجة والتحليل” في المخ.
قد تقدِّم هذه الفرضية تفسيراً لحقيقة أنَّ معظم نوبات الاكتئاب تحدث بعد وقوع أحداث هامة في حياة الأفراد، مثل حادثة موت أو انتهاء علاقة عاطفية.
وفي الدراسة المنشورة عام 2009، يقترح أندروز وتومسون أنَّ تلك الفكرة قد تفسِّر أيضاً سبب ارتباط الاكتئاب بالقلق في الكثير من الحالات.
وكتبا: “نضع الآن فرضية أنَّ الاكتئاب والقلق كثيراً ما يحدثان معاً؛ إذ غالباً ما تتطلب بعض المشاكل أن تقوم بتحليلها (وهو ما يفعله أثر الاكتئاب) وأن تبقى يقظاً في الوقت ذاته (وهو ما يفعله القلق)”. فالتحليل يسمح للشخص بفهم العامل المسبِّب للمشكلة، واليقظة تحاول أن تمنع تكرار حدوثه مجدداً.
التطبيق العلاجي
وبقدر ما تبدو التفسيرات التطوُّرية للاكتئاب مُدهِشة، من الصعب إثبات أنها صحيحة، وخاصةً إن لم تدعمها أية أبحاثٍ أخرى بعد.
ولا يجمع مجتمع الصحة العقلية على فكرة أن الاكتئاب قد يكون وسيلة تكيُّف بيولوجية، وليس اضطراباً نفسياً. وحتى لو كانت الفرضية صحيحة، فهي غالباً غير مكتملة ولا تقدِّم تفسيراً لكل جوانب الاكتئاب.
وعادةً ما تكون للمشكلات النفسية المعقَّدة أسبابٌ متعددة. نحو 20% من حالات الاكتئاب لا يسبقها حدث حياتيّ هام، قد تعود أسبابها لأحداثٍ من الماضي، لكن هذا أيضاً ليس مؤكداً.
ونعرف أيضاً أن الجينات قد تلعب دوراً في ميل الشخص إلى الإصابة بالاكتئاب. وكما يشير أندروز وتومسون، توجد أنواع مختلفة من الاكتئاب، وبعض أنواع الاكتئاب لها أكثر من سبب.
ويقولان أيضاً إنَّ هناك تفسيرات تطوُّرية بديلة قد تثبت وجودها بالتوازي مع فرضيتهم.
لكن، إذا ما أمكن إثبات صحة فرضية التأمل التحليلي، فقد يحمل ذلك آثاراً هامة على كيفية علاج هذا النوع من المرض النفسي في المستقبل.
وفي هذه الحالة، قد يتجه علاج الاكتئاب إلى التطرُّق أكثر للسبب المستتر وراء المرض، فضلاً عن علاج أعراضه فحسب.
وقال أحد علماء الأنثروبولوجيا لهاتسون إنَّه في حال إثبات النظرية، فسيكون علاج الاكتئاب باستخدام الأدوية المضادة للاكتئاب أشبه بعلاج عظمةٍ مكسورة باستخدام المسكنَّات، بدلاً من توفير المسكنات ومعها جبيرة لتساعد على التئام الكسر.
وبهذا المنطق، قد تمثِّل جلسات العلاج النفسي جزءاً هاماً من علاج الاكتئاب؛ لأنها قد تساعد المصابين بالاكتئاب في فهم سبب حدوث نوبات الاكتئاب والتعامل معها بشكلٍ أفضل.
وفي المقابل، كانت الأدوية المضادة للاكتئاب فعَّالة للغاية، وحتى إنَّها قد غيَّرت حياة البعض. لكنَّ هذه الأساليب لا تنفع الجميع على المدى الطويل، وكان ذلك السبب الذي دفع الباحثين لدراسة طرقٍ مختلفة من العلاج النفسي.
وحتى إن اكتشفنا أن الاكتئاب هو “أداة” أو طريقة تكيُّف صنعها التطوُّر، فهذا لا يعني بالضرورة أن هذا سيساعد المصابين به في إيجاد حلٍ للمشكلة التي تسببه. لكن النظريات الجديدة قد تساعدنا في إيجاد طرقٍ جديدة وأفضل للعلاج، وهو شيءٌ مرحَّبٌ به دائماً.