رأينا الموقف المشرِّف الذي وقفه النجاشي رحمه الله في نصرته للمسلمين، وفي انحيازه للحق والعدل، وقد ضحَّى في سبيل ذلك بعلاقات دبلوماسية مهمَّة مع مكة، فهل كان الشَّعْب الحبشي على المستوى نفسه من الحفاظ على راحة المسلمين ومشاعرهم؟

الحقُّ أنَّه ظهر من البداية أن البطارقة لم يُعجبهم رأي الوفد المسلم في عيسى عليه السلام، وأصدروا أصواتًا تنمُّ عن الرفض والإنكار، فكما وصفت أم سلمة رضي الله عنها الموقف عند موافقة النجاشي رحمه الله على ما قاله جعفر رضي الله عنه في وصف المسيح عليه السلام قالت: «فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ، فَقَالَ: وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاللَّهِ..». هذا كله على الرغم من أن البطارقة كانوا قد تأثَّرُوا بالقرآن، وبكوا حتى أخضلوا لحاهم وأناجيلهم؛ لكن يبدو أن هذا كان تأثُّرًا مؤقَّتًا ما لبث أن تلاشى، وظهر أن النجاشي رحمه الله يلقى معارضة من رجال حكومته جميعًا على موقفه هذا من الوفد المسلم، ومع ذلك وقف النجاشي رحمه الله أمامهم جميعًا بمنتهى الثبات، وأعلن ثباته على مبدئه في حماية المسلمين.

هذا الشعور الذي داخَل البطارقة لا بُدَّ أنه تفاقم عندما قطع النجاشي رحمه الله العلاقات مع مكة، وعندما أمر بردِّ الهدايا إلى الوفد المشرك، ولا شكَّ أن الهدايا كانت ثمينة لأنها أسالت لعاب البطارقة، وجعلتهم يساندون عمرو بن العاص قدر المستطاع في مهمَّته.

هذا كله تسرَّب من القصر إلى خارجه، وشاعت حالة من العصيان في بعض أطراف الحبشة، واستغلَّ ذلك أحد الطامحين، وقرَّر الخروج على النجاشي رحمه الله!

لقد كان ثمن الحفاظ على العدل غاليًا! ولقد دارت معركة بين النجاشي رحمه الله وأتباعه وبين هذا الذي ينازعه الملك! وحدثت فتنة كادت أن تعصف بالوجود الإسلامي في الحبشة؛ بل كادت أن تعصف بالنجاشي رحمه الله نفسه!

كيف كانت حالة الوفد المسلم إزاء هذه الظروف؟

لقد كانت حالة القلق عند المسلمين أكبر من الوصف، ولقد قالت أم سلمة رضي الله عنها معبِّرة عن ذلك: «فَوَاللهِ مَا عَلِمْنَا حُزْنًا قَطُّ كَانَ أَشَدَّ مِنْ حُزْنٍ حَزِنَّاهُ عِنْدَ ذَلِكَ؛ تَخَوُّفًا أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ عَلَى النَّجَاشِيِّ فَيَأْتِيَ رَجُلٌ لَا يَعْرِفُ مِنْ حَقِّنَا مَا كَانَ النَّجَاشِيُّ يَعْرِفُ مِنْهُ..».

لقد كانت المشكلة معقَّدة، فالذي خرج على النجاشي رحمه الله خرج وقد شاع في الناس أن النجاشي قد قطع علاقات مهمَّة مع مكة من أجل مجموعة قليلة من العرب على دين لا نعرفه ولا نُؤمن به؛ ومن ثَمَّ فلو جاء هذا الملك الجديد فلعل أولى خطواته أن يُعيد العلاقات مع مكة على حساب الوفد المؤمن.

ولم يستطع المسلمون أن يصبروا حتى تأتيهم الأخبار، بل أسرعوا هم للحصول عليها!

تقول أم سلمة رضي الله عنها: «وَسَارَ النَّجَاشِيُّ وَبَيْنَهُمَا عُرْضُ النِّيلِ، قَالَتْ: فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ حَتَّى يَحْضُرَ وَقْعَةَ الْقَوْمِ ثُمَّ يَأْتِيَنَا بِالْخَبَرِ؟ قَالَتْ: فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ: أَنَا. قَالَتْ: وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِ الْقَوْمِ سِنًّا، قَالَتْ: فَنَفَخُوا لَهُ قِرْبَةً، فَجَعَلَهَا فِي صَدْرِهِ ثُمَّ سَبَحَ عَلَيْهَا حَتَّى خَرَجَ إِلَى نَاحِيَةِ النِّيلِ الَّتِي بِهَا مُلْتَقَى الْقَوْمِ، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى حَضَرَهُمْ. قَالَتْ: وَدَعَوْنَا اللهَ لِلنَّجَاشِيِّ بِالظُّهُورِ عَلَى عَدُوِّهِ، وَالتَّمْكِينِ لَهُ فِي بِلادِهِ، وَاسْتَوْسَقَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْحَبَشَةِ، فَكُنَّا عِنْدَهُ فِي خَيْرِ مَنْزِلٍ، حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ بِمَكَّةَ».

إن المجموعة المؤمنة لم تكتفِ بمتابعة الأحداث، إنما رفعوا أيديهم إلى السماء يدعون للنجاشي رحمه الله بالظهور على عدوه، وغالب الأمر أنهم لم يكونوا على علم بإسلامه؛ ولكنها نصرة الحقِّ على الظلم، والبحث عن مصلحة الدعوة، وخير الإسلام، وهو باب واسع من الفقه يدفع المسلم إلى أن يُؤَيِّد جيشًا من النصارى على جيش آخر، ولو بالدعاء أو الكلمة، بحثًا عن النفع في الأرض والتقليل للفساد.

وأتمَّ الله نصره للنجاشي رحمه الله، وفرح المؤمنون بذلك فرحًا جمًّا، صوَّرته أم سلمة رضي الله عنها كما في رواية ابن إسحاق فقالت: «فَجَاءَنَا الزُّبَيْرُ رضي الله عنه فَجَعَلَ يُلِيحُ إِلَيْنَا بِرِدَائِهِ وَيَقُولُ: أَلَا أَبْشِرُوا فَقَدْ أَظْهَرَ اللهُ النَّجَاشِيَّ. فَوَاللهِ مَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِظُهُورِ النَّجَاشِيِّ».

إننا إذا ربطنا هذا الحدث مع ما مرَّ بنا من تفاعل المسلمين مع حرب الفرس والروم لوجدنا قاعدة مضطردة، ومبدأ واحدًا لا يتغيَّر.. لقد حَزِنَ المسلمون بنصر الفرس الوثنيين على الروم النصارى، ثم سيفرحون بنصر الروم على الفرس، وهنا حَزِن المسلمون لوقوع النجاشي رحمه الله في مأزق، ثم فرحوا لنجاته ونصره، وهذا دون نظر إلى تفصيلات العقيدة عند الطرفين، فكلاهما يخالف الإسلام في أمور جوهرية أصولية، غير أن المسلم يبحث عن الأنفع للأرض، حتى لو لم يكن مثاليًّا، وهذه هي الواقعية التي تجعل الحياة على الأرض ممكنة، ومن ضيق النظر وضعف الرؤية أن يُعرِض المسلم عن الطائفتين جميعًا بحجة أنهما ليسا مؤمنَيْن؛ لأن هذا السلوك سيعزل المسلم عن معظم أحداث الأرض، وفي هذا فساد كبير.

هل كانت هذه هي الأزمة الوحيدة التي مرَّت بالنجاشي رحمه الله والمسلمين في الحبشة؟

في الواقع إنها لم تكن الوحيدة؛ ولكن حدث تطوُّر آخر خطير، عندما انتشر في الحبشة خبر تغيير النجاشي رحمه الله لعقيدة النصارى، واعتناقه لعقيدة المسلمين، وحدثت ثورة حقيقية كادت تعصف بملكه، ولقد شعر هو بهذه الخطورة؛ حتى إنه سعى إلى تأمين المسلمين للخروج إلى الحبشة في حال فشله في السيطرة على الثورة.

قال ابن إسحاق: وَحَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «اجْتَمَعَتِ الْحَبَشَةُ فَقَالُوا لِلنَّجَاشِيِّ: إنَّكَ قَدْ فَارَقْتَ دِينَنَا. وَخَرَجُوا عَلَيْهِ. فَأَرْسَلَ إلَى جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ، فَهَيَّأَ لَهُمْ سُفُنًا، وَقَالَ: ارْكَبُوا فِيهَا وَكُونُوا كَمَا أَنْتُمْ، فَإِنْ هُزِمْتُ فَامْضُوا حَتَّى تَلْحَقُوا بِحَيْثُ شِئْتُمْ، وَإِنْ ظَفِرْتُ فَاثْبُتُوا. ثُمَّ عَمَدَ إلَى كِتَابٍ فَكَتَبَ فِيهِ: هُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَشْهَدُ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ، ثُمَّ جَعَلَهُ فِي قَبَائِهِ[1] عِنْدَ الْمَنْكِبِ الأَيْمَنِ، وَخَرَجَ إلَى الْحَبَشَةِ، وَصُفُّوا لَهُ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْحَبَشَةِ، أَلَسْتُ أَحَقَّ النَّاسِ بِكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَكَيْفَ رَأَيْتُمْ سِيرَتِي فِيكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرَ سِيرَةٍ. قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ؟ قَالُوا: فَارَقْتَ دِينَنَا، وَزَعَمْتَ أَنَّ عِيسَى عَبْدٌ. قَالَ: فَمَا تَقُولُونَ أَنْتُمْ فِي عِيسَى؟ قَالُوا: نَقُولُ هُوَ ابْنُ اللهِ. فَقَالَ النَّجَاشِيُّ، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ عَلَى قَبَائِهِ: هُوَ يَشْهَدُ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، لَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَعْنِي مَا كَتَبَ، فَرُضُّوا وَانْصَرَفُوا»[2].

إنه موقف باهر من النجاشي رحمه الله حقًّا!

ووجوه الإبهار في الموقف كثيرة، فهو لا يلتهي بملكه في هذه اللحظات عن واجبه تجاه المسلمين، فرأيناه يُجَهِّز لهم سفنًا تحملهم إلى مكان آخر في الدنيا إن حدث له مكروه، وهو لا يُريد أن يقع في الكذب الصريح على قومه حتى في هذه المسألة الخطيرة، فيلجأ إلى التعريض حتى لا يأثم، وهذا ما علَّق عليه السهيلي في الروض الأنف بقوله: «وَفِيهِ مِنَ الْفِقْهِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكْذِبَ كَذِبًا صُرَاحًا، وَلَا أَنْ يُعْطِيَ بِلِسَانِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ أُكْرِهَ مَا أَمْكَنَهُ الْحِيلَةُ؛ وَفِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنِ الْكَذِبِ»[3]. ووجه آخر من وجوه الإبهار أنه تعامل مع شعبه في حال ثورتهم بالسياسة لا بالعنف، وهذا مغاير لموقفه السابق عندما خرج عليه رجل بجيش، فكان لا بُدَّ من الردِّ القوي الحاسم، فخرج له يُقاتله في موقعة كبيرة.

لقد أبرزت المواقف تلو المواقف أننا أمام شخصية باهرة من شخصيات الدنيا، ومن القلائل الذين لم يُفتنوا حقًّا بفتنة الملك والسلطان.

أما المسلمون فيبدو أنهم أكملوا حياتهم في المكان الجديد الذي وضعهم فيه النجاشي رحمه الله عند حدوث الثورة، وأتوقع أن يكون هذا المكان هو المدينة الساحلية التي نزلوا فيها أولًا، أما عن تحديد هذا المكان، فسنفصل القول عنه في المقال التالي بإذن الله.

ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ

[1] القباء: نوع من الثياب تجتمع أطرافه، قيل: فارسي. وقيل: عربي من قبوت الشيء إذا ضممت عليه أصابعك، سمي به لانضمام أطرافه... وقال القاضي المعافى: هو من ملابس الأعاجم في الأغلب. الزبيدي: تاج العروس 39/266.

[2] ابن هشام: السيرة النبوية 1/340، 341، والكلاعي: الاكتفاء 1/203، 204، والنويري: نهاية الأرب 16/252، والذهبي: تاريخ الإسلام 2/135، 136، وابن كثير: البداية والنهاية 3/97، 98، والسيرة النبوية 2/28، والصالحي: سبل الهدى والرشاد 2/392، وقال محمد فتحي السيد: إسناده مرسل. انظر: سيرة النبي صلى الله عليه وسلم 1/428.

[3] السهيلي: الروض الأنف 3/158.

د.راغب السرجاني