غابرييل غارسيا ماركيز (أو غابو) هو روائي كولومبي يعد من أحد أشهر الروائيين عالمياً، حائز على جائزة نوبل للأدب، وسام جوقة الشرف الفرنسية وجائزة رومولو جايسوس وغيرهم من الجوائز والأوسمة. أشهر أعماله الأدبية هما “الحب في زمن الكوليرا”، “مائة عام من العزلة” التي قال عنها الكاتب بابلو نيرودا – والحائز على جائزة نوبل أيضاً: «رواية مائة عام من العزلة أعظم إنجاز في تاريخ اللغة الإسبانية منذ كتابة ثيربانتس لروايته دون كيخوطي في بدايات القرن السابع عشر».
حسناً، أصبحنا الآن متحمسين بما فيه الكفاية وعلى ثقة بأن عزيزنا غابرييل يملك مفتاحاً أسطورياً يساعدنا على كتابة رواية ملحمية خالدة، وقد لا يقتنع البعض ويقول: “هي نصائح شخصية على كل حال، قد تفيدنا وقد لا تفيد” وهؤلاء على صواب إلى حد ما.
كتبَ غابرييل كتاباً بعنوان “
كيف تُكتب الرواية؟” وبخط صغير أضاف “ومقالات أخرى”، وسنقدم هنا ملخصاً لما كُتب فيه، ويبدأ الكتاب بمقالة شهيرة لغابو عنوانها “حسناً، فلنتحدث في الأدب”:
“في مقابلة صحفية قديمة، قال خورخي لويس بورخيس إنّ مشكلة الكتّاب الشباب في ذلك الحين كانت في أنّهم يفكّرون بالنجاح والفشل وهم يكتبون. في حين لم يفكر لويس سوى بالكتابة لنفسه، ويروي لويس قائلاً: “عندما نشرت كتابي الأول عام 1932، طبعت منه ثلاثمائة نسخة وزعتها على أصدقائي، ما عدا مائة نسخة منها حملتها إلى مجلة “نوسوتروس” فنظر أحد مدراء المجلة إليّ مذعوراً وقال: وهل تريدني أن أبيع كل هذه الكتب؟ فرد عليه لويس: لا طبعاً! فرغم إنّي كتبتها، غير أنّي لست مجنوناً، والحقيقة أنّ لويس كان قد اقترح عليه أن يدسّ نسخاً من الكتاب في جيوب المعاطف التي يعلقها المحررون عسى أن يتيح ذلك نشر بعض الملاحظات النقدية حوله.”
ثم بدأ غابرييل يسرد ذكرياته عن ذلك الزمن الذي كانت فيه الحياة أكثر بساطة، حيث كان المرء يستمتع بلذة إضاعة ساعات وساعات للحديث في الأدب وحسب، ولم يرسخ شيء في ذهن غابرييل كرسوخ عبارة بورخيس: «الكتّاب يفكرون الآن بالفشل أو النجاح»، ولقد قال غابرييل هذا الكلام بطريقة أو بأخرى لعدد كبير من الكتّاب الشباب متابعاً:
“ولحسن الحظ أنّي لم أرهم جميعاً يسعون إلى إنهاء رواية كيفما اتفق ليقدموها في الموعد المحدد لمسابقة ما! ورأيتهم يسقطون في مهاوي القنوط بسبب نقد مضاد أو رفض مخطوطاتهم في دار نشر. لقد سمعت ماريو بارغاس يوسا يقول يوماً: «في اللحظة التي يجلس فيها أي كاتب ليكتب، فإنّه يقرر إن كان سيصبح كاتباً جيداً أم كاتباً رديئاً». ومع ذلك فقد جاء إلى بيتي بمدينة مكسيكو شاب في الثالثة والعشرين من العمر، كان قد نشر روايته الأولى قبل ستة شهور، وكان يشعر بالنصر في تلك الليلة؛ لأنّه سلم لتوه مخطوطة روايته الثانية إلى ناشر، أبديت له حيرتي لتسرعه وهو ما يزال في بداية الطريق، فرد عليّ باستهتار: «أنت عليك أن تفكر كثيراً قبل أن تكتب؛ لأن العالم بأسره ينتظر ما ستكتبه، أمّا أنا فأستطيع أن أكتب بسرعة، لأنّ قلة من الناس يقرؤونني!»”.
ويقول غابرييل أنّه فهم مغزى عبارة بارغاس يوسا، فذلك الشاب قرر سلفاً أنّه سيكون كاتباً رديئاً، كما كان في الواقع إلى أن حصل على وظيفة جيدة في مؤسسة لبيع السيارات المستعملة، ولم يعد بعدها إلى إضاعة وقته في الكتابة، ومع ذلك فكر غابرييل بأنّ مصيره ربما كان قد تبدّل لو أنّه تعلم الحديث في الأدب قبل أن يتعلم الكتابة، وأوضح غابرييل أنّ في تلك الأيام كانت هناك عبارة شائعة تقول: “نريد قليلاً من الأعمال وكثيراً من الأقوال» – وهي عبارة مشحونة طبعاً بخيانة سياسية عظمي، ولكنها صالحة للأدب أيضاً”.
ويقول غابرييل مازحاً: “لقد قلت منذ شهور عديدة “لجومي غارسيا اكوست”، “إنّ الشيء الوحيد الذي يفوق الموسيقى هو الحديث عن الموسيقى، وفي الليلة الماضية، كنت على وشك أن أقول الكلام ذاته عن الأدب. لكنني ترويت قليلاً، ففي الواقع الشيء الوحيد الذي يفوق الحديث في الأدب هو صناعة الأدب الجيد”.
وانتهت المقالة على هنا!
اها… مممم… ولكن كيف تُكتب الرواية؟! يجيبنا غابرييل سريعاً في مقالته الثانية…
“هذا هو دون شك أحد الأسئلة التي كثيراً ما توّجه إلى الروائي، ولدى المرء دوماً إجابة مرضية تناسب من يوجه السؤال نفسه. لكن الأمر أبعد من ذلك، وأكثر من يسألون أنفسهم كيف تُكتب الرواية، هم الروائيون بالذات، ونحن نقدم لأنفسنا أيضاً إجابة مختلفة في كل مرة، وأنا أعني بالطبع أولئك الكتّاب الذين يؤمنون أنّ الأدب هو فن موجه لتحسين العالم! أمّا الآخرون ممن يرون أنّه فن مكرس لتحسين حساباتهم المصرفية، فلديهم معادلات للكتابة ليست صائبة وحسب، بل ويمكن حلها بدقة متناهية وكأنّها معادلات رياضية والناشرون يعرفون ذلك. فقد كان أحدهم يتسلى بسهولة الطريقة التي تكسب بها داره للنشر الجائزة الوطنية للآداب موضحاً لي: «لا بد قبل كل شيء من دراسة أعضاء لجنة التحكيم، من خلال تاريخهم الشخصي، أعمالهم وذوقهم الأدبي. حيث أنّ محصلة جميع هذه العناصر توصله إلى حد وسطي لذوق لجنة التحكيم الأدبي مما يجعل كتابه يحظى بأكبر الاحتمالات للفوز بالجائزة»”.
وهذا أحد الأسباب التي تدفع بعض المسابقات الأدبية إلى إخفاء هوية لجنة التحكيم إلى حين إعلان الفائزين. المسألة ليست إذاً في كتابة رواية أو قصة لمجرد الكتابة، وإنّما في كتابتها بجدية حتى لو لم تنل أي جائزة.
لكن… لم نعرف بعد كيف تُكتب الرواية؟! وهذا هو السؤال الذي أجاب عنه غابرييل محتاراً…
“إنّه السؤال الذي لا إجابة له! وإذا كان هناك من يملك الأسباب لمحاولة معرفة ذلك، فهو من يكتب الآن هذه السطور محاولاً من أعماقه إيجاد حله الخاص للأحجية”.
وقال إنّه لم يجد غرابة في اضطراره إلى عض لسانه كي لا يسأل كل من يلتقي به: “قل لي يا أخي (اللعنة) كيف يمكن كتابة رواية؟!”
انتهى ما أراد غابرييل إخبارنا به، نعم انتهى! ففي حين أنّ حجم الكتاب 68 صفحة، قام بإخبارنا “كيف تُكتب الرواية؟” في مقالتين فقط حجمهما 8 صفحات فقط، وتلك الستين صفحة المتبقية هي مقالات ومذكرات يومية لا تمت بالكتابة بصلة. لقد قام غابرييل بخداعنا لبرهة – بقصد أو بدون قصد، ولكن إن أمعنا النظر قليلاً فلقد كان على حق!
ذلك لأنّه في صغرنا قاموا بتضييق أفقنا حينما علمونا القاعدة الثابتة لرسم الشمس “دائرة صفراء تخرج منها خيوط لا معنى لها” ولقد ظلت قاعدة رسم الشمس تنطبق في كل حياتنا بطريقة أو بأخرى، مضيِّقة بذلك حدود تفكيرنا، والدليل هذه العناوين والأسئلة:
“تعلم الرسم…”، ” كيف تكون ناجحاً” و “فن تقطيع البطيخ” وغيرها من الأسئلة الساذجة والسطحية التي تضم أيضاً هراء التنمية البشرية.
عندما يُقدّم ( الهراء ) تحت مُسمى التنمية البشرية !
يا سادة إنّ الفنون لا تُعلّم! حتى وإن رسمت مربعاً أحمراً على أنّه الشمس… أين المشكلة؟ إنّها رؤيتك أنت في الحياة ووسيلة تعبيرك الخاصة، والكتابة هي أحد هذه الفنون، ليست تجارة أو علم من علوم الطبيعية حتى نسأل “كيف تُكتب الرواية؟”. لا قوانين ولا قواعد لكتابة رواية ولا حتى أسرار، بما في ذلك تلك القاعدة التي تعلمناها في مادة اللغة العربية: “لا يجب ابتداء الجملة بحرف الواو لأنّ لا شيء قبله… إلخ”، كما أنّ هذا لا يعني ألاّ نتعلم من كتب النقد الأدبية، لكن لا ينبغي أن تضع قواعداً وحدوداً لنا.
خلاصة القول هي أنّه الكتابة فن لا عِلم، فاطلق العنان لأسلوبك كيفما كان
إنتهى