الانطباع الذي عندنا من رواية أم سلمة رضي الله عنها أن المسلمين عاشوا في أمان في كنف النجاشي رحمه الله لا يؤذيهم أحد، وهذا -أيضًا- ما جاء في رواية عمرو بن العاص حيث ذكر الأمان الذي وجده جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأصحابه في الحبشة؛ لكن هناك فارق بين الأمان والراحة!
فالواقع الذي لا فكاك منه أن غربة الإنسان عن وطنه لها آلام لا تُحصى، مهما كان آمنًا في البلد الذي يزوره، خاصةً إذا كان البلد مختلفًا عن بلده في الطباع والعادات والتاريخ، بالإضافة إلى أن اللغة وإن كانت متشابهة كما بيَّنَّا فإنها مختلفة، ولا يُتقنها عامة أهل الحبشة أو المسلمون، وأضف إلى ذلك عوامل الشوق الكبير لأهلهم؛ بل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولك أن تتخيل أن آخر أنبياء الدنيا يعيش في مكان على الأرض، ومجموعة من المؤمنين به -المحبِّين له- يعيشون في أرض أخرى بعيدة، ولمدة عشر سنوات كاملة! وإن الحياة إلى جوار الرسول صلى الله عليه وسلم لمتعة! فإن الوحي ينزل عليه، وتجري الآيات على يديه، ويُقابل المسلمين كل يوم بالهداية والنور وشرح معالم الطريق المستقيم.. ترك المسلمون كل ذلك وعاشوا في البلاد البعيدة؛ بلاد الحبشة، فأحزنهم هذا ولا شك، وهذا ما نفهمه في رواية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وهو يحكي موقفًا لأسماء بين عميس رضي الله عنها، وهي زوجة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه رئيس الوفد المسلم، وهذا الموقف حدث بعد عودة المسلمين من الحبشة عودة نهائية في السنة السابعة من الهجرة..
يقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: «فَدَخَلَتْ أسماء بنت عميس، وَهِيَ مِمَّنْ قَدِمَ مَعَنَا، عَلَى حفصة زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم زَائِرَةً، وَقَدْ كَانَتْ هَاجَرَتْ إِلَى النَّجَاشِيِّ فِيمَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِ، فَدَخَلَ عمر عَلَى حَفْصَةَ، وَأَسْمَاءُ عِنْدَهَا، فَقَالَ عُمَرُ حِينَ رَأَى أَسْمَاءَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَتْ: أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، قَالَ عُمَرُ: الْحَبَشِيَّةُ هَذِهِ؟ الْبَحْرِيَّةُ هَذِهِ؟ فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: نَعَمْ. فَقَالَ عُمَرُ: سَبَقْنَاكُمْ بِالْهِجْرَةِ، فَنَحْنُ أَحَقُّ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْكُمْ. فَغَضِبَتْ، وَقَالَتْ كَلِمَةً: كَذَبْتَ يَا عُمَرُ كَلَّا، وَاللهِ كُنْتُمْ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُطْعِمُ جَائِعَكُمْ، وَيَعِظُ جَاهِلَكُمْ، وَكُنَّا فِي دَارِ -أَوْ فِي أَرْضِ- الْبُعَدَاءِ الْبُغَضَاءِ فِي الْحَبَشَةِ، وَذَلِكَ فِي اللهِ وَفِي رَسُولِهِ، وَايْمُ اللهِ لَا أَطْعَمُ طَعَامًا وَلَا أَشْرَبُ شَرَابًا حَتَّى أَذْكُرَ مَا قُلْتَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ كُنَّا نُؤْذَى وَنُخَافُ، وَسَأَذْكُرُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَسْأَلُهُ، وَوَاللهِ لَا أَكْذِبُ وَلَا أَزِيغُ وَلَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ إِنَّ عُمَرَ قَالَ: كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ بِأَحَقَّ بِي مِنْكُمْ، وَلَهُ وَلأَصْحَابِهِ هِجْرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَكُمْ أَنْتُمْ أَهْلَ السَّفِينَةِ هِجْرَتَانِ». قَالَتْ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا مُوسَى وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ يَأْتُونِي أَرْسَالًا، يَسْأَلُونِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، مَا مِنَ الدُّنْيَا شَيْءٌ هُمْ بِهِ أَفْرَحُ وَلَا أَعْظَمُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِمَّا قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم»[1].
إننا نجد أسماء بنت عميس رضي الله عنها في هذه الرواية تصف الحبشة بأنها أرض البعداء البغضاء! والبعداء أي البعداء في النسب، والبغضاء أي البغضاء في الدين لأنهم كفار إلا النجاشي رحمه الله[2]. هكذا وصفت أسماء رضي الله عنها أرض الحبشة، ومع ذلك فقد يكون مقصودها أن تصف بهذا الوصف: «البعداء البغضاء» نفسها والمهاجرين! أي البعداء عن مكة، والبغضاء إلى قومهم، ويدعم هذا المعنى ما جاء في رواية أخرى عن أسماء رضي الله عنها -أيضًا- قالت فيها: «أَيْ لَعَمْرِي[3] لَقَدْ صَدَقْتَ، كُنْتُمْ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُطْعِمُ جَائِعَكُمْ، وَيُعَلِّمُ جَاهِلَكُمْ، وَكُنَّا الْبُعَدَاءَ وَالطُّرَدَاءَ..»[4]. فهي في هذا النصِّ تُصَرِّح بأنها تقصد وفد المهاجرين، وعلى كلٍّ فالواضح من النصوص بشكل عام أن أسماء رضي الله عنها كانت تصف معاناة حقيقية يعيشها المهاجرون إلى الحبشة.
وليس في هذا الكلام تناقض مع كلام أم سلمة رضي الله عنها؛ لأن أم سلمة كانت تتكلم عن الأمان؛ بينما كانت أسماء رضي الله عنها تصف الحالة النفسية والمعنوية التي عليها المهاجرون، آخذين في الاعتبار أن أم سلمة رضي الله عنها رجعت إلى مكة المكرمة بعد عام واحد فقط من هجرتها هي وزوجها أبو سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنه؛ بينما مكثت أسماء بنت عميس رضي الله عنها الفترة كاملة، وعشر سنوات ليست كسنة واحدة، فأم سلمة رضي الله عنها كانت تصف الأمر وكأنه رحلة عابرة في حياتها، وهي تقارنها بالوضع الصعب الذي كانوا يعيشونه في مكة قبل الهجرة، فوجدت في رحلتها السعادة كل السعادة، وهذا ما تنطق به كلماتها في كل فقرة؛ خاصة أن أم سلمة رضي الله عنها واجهت مشاكل كبرى -كما سيأتي لاحقًا- عند عودتها من الحبشة، فكان البون شاسعًا بين ما وجدته من ترحاب في أرض الحبشة وما عانته من مشقَّة في مكة؛ بينما أسماء رضي الله عنها عاشت التجربة بكل مشاكلها فترة طويلة جدًّا، وفقدت القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثره الهائل على نفوس المؤمنين، فجاء كلامها حزينًا بهذه الصورة.
ثم أضف إلى كل ما سبق أن الوضع الذي وصفته أم سلمة رضي الله عنها كان يخصُّ النجاشي رحمه الله ومَنْ كان يُطيع أمرَه من رجال شعبه، ولم يكن كل الناس على الشعور نفسه؛ بل كان البعض يكره الوفد الإسلامي؛ لأنه أحدث خللًا كبيرًا في المجتمع الحبشي، وهذا الخلل نتج عن شعور الناس أن النجاشي رحمه الله قد غيَّر عقيدته إلى عقيدة المسلمين، وإن لم يكونوا متيقِّنين بذلك، وهذا ولا شك أثار المشكلات تلو المشكلات، وسوف نتعرَّض في مناقشة المسألة القادمة لإحدى هذه المشكلات لنُدرك طبيعة حياة المسلمين في الحبشة.
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ
[1] البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، (3990)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب من فضائل جعفر بن أبي طالب وأسماء بنت عميس وأهل سفينتهم رضي الله عنهم، (2503).
[2] انظر: النووي: المنهاج 16/65.
[3] لعمري: العَمْر والعُمُر والعُمْر: الحياة، والعرب تقول في القسَم: لَعَمْرِي ولَعَمْرُك. كأَنه قال: لَعَمْرُك قَسَمِي أَو يميني أَو ما أَحْلِفُ به. وفي التنزيل العزيز: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]. انظر: ابن منظور: لسان العرب، 4/601.
[4] رواه ابن سعد قال: أخبرنا عبد الله بن الزبير الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا إسماعيل، عن الشعبي، وأبو حمزة أسنده، قالا: لما قدمت أسماء بنت عميس رضي الله عنها من أرض الحبشة. انظر: ابن سعد: الطبقات الكبرى 8/219، وعن سفيان بن عيينة: عن إسماعيل، عن الشعبي، قال: قدمت أسماء رضي الله عنها من الحبشة. انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/283. ونقل ابن حجر هذه الرواية عن ابن سعد. انظر: ابن حجر: فتح الباري 7/486.
د.راغب السرجاني