لننظر في ختام هذه الفترة نظرة تحليلية شاملة للعام العاشر من البعثة، لنفهم ما جاء بعده من خطوات؛ إن هذا العام كان عامًا عجيبًا حقًّا؛ فقد بدأ كما رأينا بظلام دامس، واستمرَّ على هذه الصورة القاتمة في معظم فتراته؛ ومع ذلك فقد تخلَّلته إشراقات مهمَّة جميلة؛ لكنها كانت وقت ظهورها لا تُعطي الانطباع أن نتائجها ستكون كبيرة أو مؤثِّرَة؛ ومن ثمَّ فقرارات الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة الخطيرة من فترات الدعوة كانت مَبْنيَّة على المعطيات المتاحة دون نظر إلى المستقبل الذي لا يعرفه أحد، ولقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في نهاية هذا العام قرارات جديدة على الدعوة سنذكرها بعد قليل؛ ولكن لكي نفهم جذور هذه القرارات وأسبابها لا بُدَّ من تلخيص أحداث العام العاشر، فنفهم حينئذٍ خلفيات ما اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم لأُمَّته في هذه المرحلة.

بدأ العام العاشر بخروج المسلمين منهكين من شِعْب أبي طالب بعد نقض الصحيفة الظالمة؛ التي نُقضت بنخوة خمسة من كفار مكة، وكان هذا يعني أن احتمال تطوُّر الموقف مرَّة أخرى لصالح المشركين هو أمر وارد؛ لأنه لم يكن للمسلمين طاقة لرفع الحصار بإمكانياتهم؛ إنما حدث ذلك بتقدير الله على يد مجموعة من المشركين لا دخل لنا في التأثير عليهم.

ومرَّت الأيام صعبة على المسلمين، ولم يَبْدُ في الأفق بوادر حلٍّ للموقف المتأزِّم؛ بل على العكس مات الشيخ الكبير أبو طالب، وقد مات كما شرحنا على الكفر، وكانت أزمة موته كبيرة للغاية؛ حيث تجرَّأ أهل الكفر جدًّا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصل الأمر إلى الإيذاء الجسدي؛ بل إلى محاولة القتل المباشر.

وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم مضطرًّا إلى الطائف، فكان فيها ما كان، وتأزَّم الموقف أكثر حيث علمت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد ليُحالف قبيلة من قبائل العرب ضدَّها، وهي قبيلة ثقيف؛ ومن ثَمَّ كان دخوله إلى مكة مرَّة ثانية أمرًا مستحيلًا إلا بإجارة قوية له، وقد تحقَّقت له هذه الإجارة على يد المطعم بن عدي من بني نوفل؛ ولكنه كان كافرًا؛ ومن ثَمَّ فهي إجارة غير مأمونة، ومن الوارد أن تُخْفَر في أي لحظة، كما أنها كانت خاصةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست لعامَّة المسلمين؛ لذا فقد كان من الواضح أن الإيذاء الذي تعرَّض له رسول الله صلى الله عليه وسلم سيتعرَّض له صحابته الكرام، إنْ آجلًا أو عاجلًا، وبصورة لعلها أشدُّ؛ وذلك لتقليص الدعوة قدر المستطاع، ومنعها من الانتشار؛ خاصة أنها تغلغلت في داخل بيوت كبار الزعماء، إضافة إلى خروجها خارج حدود مكة المكرمة، كما ظهر من إسلام أبي ذر والطفيل رضي الله عنهما.

في ظل هذه الأجواء الصعبة قرَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألَّا يخرج مرَّة ثانية خارج مكة إلَّا بعد التيقُّن بأنه سيكون مُرَحَّبًا به في البلد المضيف؛ وذلك حتى لا تتكرَّر قصة الطائف المؤلمة، وحتى لا يُضَيِّع جوار المطعم بن عدي، الذي قد يُسْتَفَزُّ بخروج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خارج مكة للاستنصار بغيرها عليها. والواقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُسابق الزمن قبل أن يخرج قرارٌ عشوائي متسرِّع من قريش باستئصال القوَّة الإسلامية بشكل أو بآخر.

وإذا نظرنا إلى موقف الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموسم من العام العاشر نجده موقفًا صعبًا للغاية؛ لأنه لم يكن يعلم ماذا سيفعل المسلمون الجدد في قبائلهم؛ فهو لم يكن يدري كيف ستكون دعوة الطفيل رضي الله عنه في اليمن، وقد صرَّح الطفيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ليس وراءه أحد هناك؛ بل إنه ذكر أن دوسًا عصت وأبت؛ ففي هذه المرحلة لم يكن متوقعًا أن تُسْلم القبيلة، ولقد أخذ إسلامها وقتًا طويلًا تجاوز عشر سنوات، أمَّا أبو ذرٍّ رضي الله عنه فكان المتوقَّع من دعوته في قبيلته أن تجد صعوبات كبيرة؛ لخطورة الوسط الذي يتحرَّك فيه؛ ومن ثَمَّ لم تكن الآمال معقودة على تغيُّر كبير في سير الدعوة نتيجة حركة أبي ذرٍّ في قبيلة غفار، أمَّا بالنسبة إلى سويد بن الصامت وإياس بن معاذ رضي الله عنهما فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم شيئًا عن إسلامهما حتى هذه اللحظة.

إذن ماذا يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الظروف؟

إن قريشًا تُضيِّق عليه جدًّا؛ حتى صار يتخوَّف على أصحابه، ويتخوَّف على الإسلام، ولا يعلم ماذا تحمل له الأيام القادمة من آلام، ولا بُدَّ أن نأخذ في الاعتبار أن المسلمين حتى هذه اللحظة ممنوعون من الصدام المسلح مع مشركي قريش، وهكذا فلو طرأت في أذهان المشركين فكرة القتل الجماعي للمسلمين فإن هذا قد يتحقَّق لهم، وما داموا قد فكَّروا في فعل هذا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو العزيز الشريف، فما الذي يمنعهم مِن فعله مع مَنْ هو دونه صلى الله عليه وسلم؟

هذا كله دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يأخذ قرارين خطيرين، كان قد أخذهما قبل ذلك مرَّة؛ ولكنه يأخذهما اليوم بشكل جديد، وعلى نطاق أوسع!

أمَّا القرار الأول فهو الاستعانة على قريش بالدعاء عليهم! وأمَّا القرار الثاني فهو الهجرة الكبيرة إلى الحبشة!

كان القرار الأول خطيرًا حقًّا؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينتهج منهج الحِلْم والرفق والصبر إلى آخر مدى، فكيف اتجه إلى الدعاء عليهم لينتقم الله منهم؟

نتعرف على ذلك في المقال القادم بإذن الله.

د.راغب السرجاني