انتوني غاودي، تأثير العمارة العربية
حميد مشهداني من برشلونة: منذ فترة طويلة كانت تراودني فكرة الكتابة عن المعمار الكاتالاني “انتوني غاودي” 1852-1926 الذي يعتبر من أهم معماريي شبه الجزيرة الايبيرية في نهاية القرن التاسع عشر والربع الاول من القرن العشرين، وهو الآن الرمز الثقافي الاول لمدينة “برشلونة” ولا أستطيع تجنب ذكر رمزه السياحي ايضا. بقيت هذه الفكرة في ذهني، ونضجت بعد لقائي مع المعمار “د. محمد صالح مكية” قبل أكثر من عام في منزله في “لندن”وفي ذهني كانت المقارنات بين “مكية” و بين “غاودي” تصيب احيانا و تتناقض احيانا اخرى، انا الذي عشت أكثر من ثلاثة عقود محاذيا جدران أبنية المعمار الكاتالاني، متظللا بأبراج كنائسه، ومتمتعا بنعاس جميل على تخوت حدائقه الساحرة الالوان.
معمارنا العراقي الشيخ “مكية” هو الذي الهمني كتابة هذا المقال، وبعد البحث والتحقيق وجدت أن فكرتهما المعمارية كانت تتشابه بطريقة او بأخرى رغم فارق قرنا من الزمان “غاودي” كان واعيا بضرورة انسجام العمارة مع البيئة والمناخ، وفي النهاية العنصر الانساني المستخدم لهذه العمارة التي أساسها يكمن في الارتياح، فالبناء كمساحة، وفضاء وحجوم يتكرس لراحة السكان و أطلاق الخيال، فكل عمارته على طول وعرض “أسبانيا” كانت تستريح تحت هذه الفكرة، وهذا ما أبدع به الدكتور “مكية” في بنائه، والشهادة على ذالك هو أطروحته لشهادة الدكتوراه في جامعة “كمبرج”عام 1943 والتي عنونها “تأثير المناخ في تطور عمارة البحر الابيض المتوسط” وهذه كتبها قبل بلوغه الثلاثين من العمر، ثم برهن ذالك في سلسلة طويلة من الابنية منذ ذالك الحين في كل جهات الارض.
فهو كان كان يعرف جيدا، ومعجبا جدا بعمارة مدينتي “برشلونة” التي عشت فيها أكثر من نصف عمري، وبعد عودتي من “لندن”وجدتني أتذكر كلماته في كل شارع أمر به خصوصا تلك التي فيها عمارة “غاودي” الذي تحدث عنه معي في ذالك اللقاء، وعدت اراه بعين أخرى، و أتامل تشييده العريق المنتشر في كل أقليم “كاتالونيا” وخارجه بالاخص الموجود في “برشلونة” يقول المعمار الكاتالاني “الرسم، عبر الالوان، والنحت، بواسطة التجسيد يمثلان _ كتلا _ حية وموجودة خلال عناصرها من اشخاص وأشجار وثمار وأنشاء التي تعبر عن مظهرها الخارجي، والعمارة تخلق الكتلة، ويتوجب عليها تطبيق مبدأ “الهارمونية” متزاوجا مع الطبيعة والبيئة، المعماريين الذبن لا يفهمون هذا المبدأ ينتهون الى بناة لعمارة قليلة الشأن، بدلا من أبداع عمل فني” هكذا يقول.
ولد “انتوني غاودي” في مدينة “ريوس” الواقعة في محافظة “تارراغونا” جنوب برشلونة في مشغل والده “صانع الصفافير” وهذا كان يملك “مصهرا” ومحلا للحدادة لصنع الادوات المنزلية مثل القدور والاباريق و االاواني ومعظم مستلزمات المطبخ، وهذه مهنة كان قد ورثها ابا عن جد، وسنرى لاحقا تأثير هذا في في عمله المعماري، فهو منذ صغره كان يعمل مع والده منبهرا ومندهشا من كيفية “تحول”صفيحة من النحاس من التسطح المجرد الى أشكال، وحجوم وحتى فراغات، حيث بعد الصهر والطرق تأخذ شكل ابريق او قدر، او صينية أو غلاية شاي، وفهم معنى السعة والفراغ من خلال تطويع المادة الصلبة الى فضاء، هنا بكمن سر اختفاء الخطوط المستقيمة في معظم اعماله المعمارية، اذا أستثنينا بدايته شابا حيث تخصص في بناء اجنحة المصانع في برشلونة التي كانت تنمو صناعيا وتجاريا بسرعة مذهلة، فهو درس التقليد الروماني و الغوطي في العمارة الكاتالانية الغنية في خصوصيتها من حيث أستخدام القرميد والسيراميك، ثم درس فن العمارة الاسلامي والعربي “المدجن” الذي تأثر به كثيرا حيث زين العديد من أبنيته بهذه العناصر وفي معظم ابنيته العظيمة نرى “المنارة الاسلامية” تبرز بطريقة أو باخرى.
ولكنه كان يريد خلق أسلوب جديد مازجا كل هذه التقاليد، خصوصا في نهاية الفرن التاسع عشر حيث “الموديرنزم” و”ارت نوفوو” كحركة فنية على جميع أصعدة الفن كانت
تداعب أذهن العديد من الرسامين والنحاتين والمعماريين بشكل خاص، وهذا جعله البحث عن عناصر ومواد جديدة ومعاصرة، وأعتبر ان مهمة المعماري هي ليست النقل من تقاليد الماضي، وانما الاقتراب من معرفتهم، واساساتهم التي مازالت قائمة وصلبة خصوصا فيما يتعلق بالكاتدرائيات القديمة والمساجد منذ الفي سنة، وباعتباره رجلا متدينا أستخدم العناصر الدينية بشكل ذكي حتى في بنائه تلك الاجنحة الصناعية الهائلة الحجم، واهتم بشكل خاص في تصميم وبناء دور سكن عمالها المجاورة مهتما بالحدث اليومي والعائلي للعامل الذي كان يعتبره العنصر الاساسي في الصناعة وثراء البلد، فوضع البناء لراحة سكانه من السعة والفراغ غير غافلا ضروريات العمل العمل المهني لهؤلاء والذي وضع له خصوصية اخرى.
غاودي، لم يكن مشهورا حتى عام 1883 حيث كلفه أحد الاثرياء “مانوبل فيسينس” الذي أعجب كثيرا بعمل صغير للمعمار في واحد من محلات برشلونة التجارية، ولم يكن الا تصميمه لواجهة المتجر هذا، كلفه بناء منزل جديد في أحد احياء برشلونة الراقية، السيد “فيسنس” كان صاحب اكبر مصنع للسيراميك والقاشاني في المدينة فمنحه ميزانية مفتوحة، فأنجز الشاب المعمار اول تحفه المعمارية، وهو الذي كان قد تخرج توا من “مدرسة العمارة” في هذا البناء الاول الذي يسمى “كاسا فيسينس” يبدو التأثير المعماري العربي بشكل كامل تقريبا، فنرى القرميد الاحمر المكشوف، والاقواس الاسلامية، والمقرنصات، ثم الاستخدام المفرط للقاشان والسيراميك، والزخرفة كما استخدمه “المدجنين” العرب منذ قرون، في ابنية ودوائر رسمية وكنائس، ومساجد منتشرة في كل اسبانيا، هذا كان أخر الابنية التيأستخدم فيها استقامة الخطوط ليعود بعد ذالك في كل عمارته اللاحقة الى انحناء هذه الخطوط والبحث في الفضائات المدورة التى كانت تذكره بمهنة والده صانع القدور والاؤاني خالقا من التسطح والاستقامة أشكالا وأحجاما ملتوية خالية من اي توازي.
جامع الخلفاء في بغداد، للمعماري محمد مكية
بعد ذالك واثناء عمله في مشاريع جانبية وتنفيذه قصر صديق شبابه الثري “اوزيبيو غويل” في برشلونة ثم بناء “أقبية النبيذ” لهذا السيد في المدينة التي اسكنها منذ أكثر من عشرين سنة “ستجس” صار هذا الاخير من اكبر المتحمسين لافكار “غاودي” العمرانية، وكان معمارا زاهدا، ومتقشفا وطموحه الوحيد كان كتابة تأريخ المدينة من خلال عمله الدؤوب كما كل المعماريين العظماء على مدى العصور، فوضعه تحت حمايته ليكلفه بناء منتجعا وحدائق سميت “حدائق غويل” وهي الان من أهم المزارات السياحية في مدينة برشلونة بعد كنيسة “العائلة المقدسة” التي سأتحدث عنها لاحقا.
في أصالة لغته المعمارية أهتم بمزج مواضيع الطبيعة من مكوناتها الحجرية الى الاشجار والاثمار والزهور التي اخترع معظمها، فنرى اغصانا لأشجار غير معروقة، و ورود سوريالية لم تكن معانيها حقيقية الا في ذهن المعمار الرائع، وكما ذكرت سابقا فهو يستخدم العديد من العناصر العربية الاصل في العمارة، مثل الزخرفة العربية، والطابوق الاحمر المكشوف، والقاشاني، والسيراميك مبدعا تاثيرا حادا من الضوء، ونراه يعيد هذا الاسلوب في بنائه دار الاقامة الصيفية لاحد النبلاء الاثرياء “ماكسمو دياث” والتي سماها هذا “كابريجو”1883 بمعنى النزوة في العربية، لانه كان شابا عازبا وثريا، وكان يستخدمه في حفلات خاصة مع اصدقائه، في هذا البناء يلاحظ المرء بدء انحناء خطوطه مستفيدا من عناصر البناء التي ذكرتها سابقا اثناء تشييده “كاسا فيسنس” قصدي مبادئ العمارة العربية، ولكنه هنا يذهب بعيدا ليبني برجا بجانب الدار في كليته يحاكي “منارة” جامع كما في العمارة العباسية، والبرهان على هذا تكفينا مشاهدة “منارة” غاودي في هذا القصر الواقع في “سانتدير” شمال اسبانيا و منارة “جامع الخلفاء” 902 في بغداد الذي اعاد بنائه الدكتور الفاضل “محمد صالح مكية” فالرؤية من بعيد لهذا القصر تشير الى اهتمام المعمار الكاتلاني ليس فقط بالعمارة العربية “المدجنة” في أسبانيا، وانما ذهب الى ابعد من ذالك.
يقول “غاودي”في اوراقه “ "الجمال، هو رونق الحقيقة، وبدون الحقيقة يستحيل الفن، وللعثور على الحقيقة يجب معرفة مادة الخلق و الابداع”. هذا القول الذي يلخص فيه كل أفكاره، و أسلوب “صنعته” ذكرني بالدكتور “مكية” الذي أشار الى شيء مشابه لهذا في لقائي الاخير معه في “لندن” المنشور في صحيفة “أيلاف” قبل أكثر من عام.
في حدائق “غويل” يطبق مبدأه هذا لنرى تخالط الطبيعة مع البناء، فعناصرها متداخلة في العمارة حتى تكاد أن تكون تشكيلا واحدا، فالاغصان، و الورود، والاوراق وسعف النخيل مصنعة بشكل يدوي في مشاغل النحاتين التي كانت منتشرة في المدينة حينذاك، تتسلق من الاساس جدران البنيان في انحناءات انسيابية، وهارمونية لونية باهرة، و هكذا ايضا في العشرات من الاعمدة التي تساند بعضا من جوانب المنتزه، من مميزات المعمار كان تركيزه على جانب “الحدادة” في البناء، ففي معظم شغله اهتم كثيرا في تصميم الحواجز الحديدية، والابواب، والنوافذ، وهنا ايضا أدخل عنصر الطبيعة بكل اشكاله في تخطيطات كان يرسمها لكي ينفذها أمهر حدادي برشلونة، كذالك صمم بشكل فريد العديد من المصاطب والتخوت الاسمنتية المغطاة بقطع من السيراميك المكسر بتعمد، والمتلاسل بألوان زاهية، وكل هذه التفاصيل الصغيرة كان المعمار يشرف على تنفيذها شخصيا، مرافقا العمال بألحاح، وهذا السلوك كان يثير الارتياب عند بعضهم فيما يخص صحته العقلية.
“حدائق غويل” 1900_ 1914 أنجزها غاودي” على هضبة تحاذي “جبل الكرمل” شمال شرق مركز مدينة برشلونة، والان يعتبر من اهم جواهرها المعمارية، بجانب العديد من البنايات الرائعة على طولها و عرضها، ومعظمها يقع في شارع “غراثيا” الانيق وما يحاذيه وسط المدينة مثل “كاسا باتلو” 1904 ذي الواجهة الغريبة والذي يذكرنا بقصور قصص اطفال أسطورية و كأن ساحرا امر رسم الواجهة بملايين من قطع السيراميك الصغيرة بالوان تتدرج في الهارمونية لتصل السماء،. في هذا البناء يلاحظ تأثره بحركة “ارت نوفوو” ولكن بأسلوبه الفريد، وبعد ذالك بقليل، وقريبا من هذه العمارة في نفس الشارع شيد عمارة اخرى سميت “لابيدريرا” 1906 اي الحجرية، او الصخرية لان واجهتها تشبه كثيرا كهوفا محفورة في جبل، وهنا ينفذ غاودي العمل ملتويا بشكل جميل، وكان على عمال الصخور وضع كل القطع التي لا تتشابه بجانب صنعها ايضا. وفي شارع يتعامد مع شارع “غراثيا” شيد “كاسا كالفيت” فيها نلاحظ التأثير الباروكي الكاتالاني المتأخر، في هذه البنايات الثلاثة، تجرأ المعمار و بمهارة على اشتغال الفضاءات الداخلية ، مصمما حتى الاثاث، فهو كان يستخدم العمال ك “موديل”
لتصميم الكراسي والتخوت، وغرف النوم باسرتها، ودواليبها في بحث دائم عن سبل راحة الساكن، لانه كان يعتقد ان السكن هو مشروع حياة طويل، وهمه كان راحة الانسان في الجلوس والنوم، لذالك كان يجد في البحث في توزيع الجهد العضلي في مساحات الاثاث، وهو في هذا كان قد تقدم على مدرسة “باوهاوس” بعشرين عاما حينما صاغت نظريتها المعروفة بقياس الجهد العضلي لجسم الانسان في استخدامه الادوات المنزلية.
ولكن “ايقونة” عمارة “غاودي” هي كنيسة “العائلة المقدسة” ذات الاسلوب الفريد والصعب التصنيف رغم توازيه مع العمارة “الغوطية الكاتالانية” بدأ المشروع بطيئا جدا في عام 1882 بسبب ان التمويل كان يعتمد على التبرعات الخاصة والشعبية، وهذا ما يزال الى يومنا هذا، فبينما كان يعمل وينفذ مشروعاته الخاصة، فكان أيضا مهتما جدا في بناء هذه الكنيسة،، ولكنه بعد فترة من التفكير والتصوف، والتزهد ترك كل اشغاله الخاصة جانبا وتفرغ تماما لانجاز العائلة المقدسة 1914 ورفض كل العروض العمرانية، و أنتقل ليسكن مشغله في هذه الكنيسة، واعيا بأنه سوف لن يراها مشيدة وهو حي كان واعيا انه مشروع اجيال، وتصوفه كان يزداد يوما بعد يوم، وزهده عن الحياة الدنيا جعله لا يخرج من الكنيسة على الاطلاق، عدا حضور قداس الصباح في كنيسة صغيرة مجاورة، وفي واحدة من رحلات التعبد هذه، توفي بحادث دهس “تراموي” في وسط شارع عماراته، في ذالك الصباح من حزيران 1926 لم يعرف أحدهم من كان ذالك البائس، البالي الملبس،، معظمهم تصوروه شحاذا سكيرا لانه لم يسمع صفير التراموي، بجانب ان العبقري لم يكن يحمل اي وثيقة تشير الى هويته، وبعد خمسة أيام رافق جنازته مئات الالوف من سكان برشلونة و ضواحيها، لدفنه في كنيسة حلمه التي اشتغل في تشييدها اكثر من 40 عاما، ومازال البناء قائما لحد الان، و يعتقد ان الانتهاء من هذا البناء الاسطوري سيتأخر 20 سنة أخرى، فأثناء الحرب الاهلية الاسبانية احرقت كل خرائط البناء التي اشتغلها المعمار الكبير، والان بفضل المعلومات وتطور الكومبيوترات وجد المعماريين الفكرة الهندسية لهذا البناء الذي يعتبر من أهم رموز مدينة “برشلونة “ الثقافية والسياحية. هذا الرجل البسيط كتب تأريخ مدينته الى الابد، وقبل 20 عاما فتح “الفاتيكان” ملف تسميته قديس.
المصدر
اقرأ أيضا
كنيسة العائلة المقدسة - برشلونة
أنطوني غاودي : تعرف على تاريخه و أشهر أعماله المعمارية