كنيسة العائلة المقدسة - برشلونة
ترجمة واعداد: مي اسماعيل
هل يمكن ان تعد العمارة نحتا، ام يعد النحت عمارة من نوع ما؟ هذا سؤال طالما اثارته اعمال المعماري الاسباني الكبير انطونيو غاودي. وأحد اسباب تأخير انجاز اعماله لسنوات طويلة؛ لان انجازها يستدعي دقة وعناية وحرفية عالية. ومنها- كنيسة سيغرادا فاميليا (La sagrada Família) في برشلونة. وحينما سئل غاودي يوما عن سبب تأخير اكتمال بناء الكنيسة، أجاب: “أن رب العمل ليس مستعجلا عليها جدا” (مشيرا الى اللّه تعالى). يعني اسم (La sagrada Família) بالاسبانية: العائلة المقدسة، اقيمت بحي العائلة المقدسة ببرشلونة. بدأ بناؤها منذ 134 سنة (عام 1882)، ولم ينته حتى اليوم. لكنها مع ذلك دخلت قائمة اليونسكو للتراث العالمي في 1984، واختيرت ضمن قائمة كنوز إسبانيا الإثني عشر في عام 2007.
كرس غاودي (1852 - 1926) حياته لبنائها حتى وفاته؛ واستمر البناء بعده رغم وقوع الحرب الأهلية الأسبانية عام 1936 وتدمير بعض اجزائها. وهي الآن من أكثر الأماكن جاذبية للسياح ببرشلونة؛ اذ زارها قرابة المليون شخص في عام 2004. من المفترض انتهاء أعمال الإنشاء كليًا عام 2026؛ أي بعد نحو قرنٍ على وفاة غاودي.
تتويج المسيرة المعمارية
كانت الكنيسة من استلهامات بائع الكتب جوزيف م. بوكابيلا؛ مؤسس الجمعية الروحية لمحبي القديس يوسف. فقد عاد من زيارة لروما عام 1872 بعزم بناء كنيسة يكرسها له. بدا العمل لتنفيذ تصميم المعماري فرانسيسكو دي فيلار؛ الذي قدم مخططا ذا شكل قوطي نمطي يستوعب نحو تسعة آلاف مصل. استقال فيلار من العمل بعد اكتمال منطقة المحراب؛ وهنا تسلم غاودي المسؤولية.
رغم انها خير عمارة تحمل طابعه المتميز؛ فان غاودي لم يبدأ بالتصميم والاشراف حتى العام التالي لبدء الانشاء- 1883. دمج غاودي (بسن 31 عاما) هنا اساليب العمارة القوطية (Gothic) وانحناءات تشكيلات الفن الحديث (Art Nouveau)؛ ليخرج هذا التصميم المتفرد. كرّس غاودي سنواته الباقية للمشروع؛ لكن ربع البناء فقط لم يكن قد اكتمل حين وفاته عام 1926 (عن 73 سنة). تقدم العمل ببطء لاعتماده على التبرعات الخاصة، ثم قاطعته الحرب الاهلية الاسبانية. ولم يستأنف تقدمه المتقطع سوى في الخمسينات. يتم تمويل العمل من رسوم تذاكر دخول الزوار والتبرعات الخاصة. حل دمار الحرب ببعض الاجزاء الاصلية؛ فاستند تصميم اليوم على نماذج اعيد ترميمها من مخططات ونماذج غاودي (التي احترقت بدورها)، وعلى تعديلات حديثة.
دخل التصميم عصر الحاسوب منذ الثمانينات؛ فصمم للمبنى نظام اضاءة حديث، من فريق عمل يضم خيرة المعماريين والنحاتين والفنانين والمصورين، لضمان ان يكون العمل النهائي (بعد اكثر من قرن) تحفة معمارية متكاملة العناصر؛ كما اراد لها غاودي ان تكون. صار بالامكان الحصول على دقة عالية في الاجزاء الهندسية والنحتية خاصة. ومازالت النماذج المصغرة تنفذ من الجص ومواد البناء، لدراسة الاوجه الهندسية والجمالية المتعددة للتصميم. ساهمت آلات نحت الحجر في اكمال الاجزاء المنحوتة في مواقع اخرى ليجري تركيبها في الموقع لاحقا؛ بسهولة وسرعة نسبية. بينما كان العمل يتم يدويا بالكامل في القرن الماضي.
تحفة متفردة
صمم غاودي كنيسة عمودية منحوتة من الحجر ببراعة جمالية عالية؛ يمكن رؤيتها من كافة اجزاء المدينة، فيها 18 برجا تحف بالقبة المرتفعة التي تشبه البرج. تتباين ارتفاعات الابراج حسب مواقعها في الواجهة (او في المركز والطرف)، وتضم بمجموعها 84 جرسا تتباين اصواتها عن بعضها البعض. اجرى غاودي دراسات صوتية معقدة ليصل للنتيجة المتوخاة من مجموع قرعها منفردة او مجتمعة!
حافظ غاودي على مخطط الصليب اللاتيني التقليدي في بناء الكاتدرائيات القوطية، لكنه هجر الانماط القوطية في مواقع اخرى. طوّر غاودي نظاما للاعمدة المائلة بزوايا معينة والعقود الدورانية ثلاثية الابعاد (hyperboloidal vaults)، لالغاء الحاجة للبوائك الممتدة (buttresses). وبدلا من الاعتماد على عناصر التدعيم الخارجية؛ نقل الاثقال الافقية عبر الاعمدة الى العناصر المعمارية الداخلية. تحوي الكنيسة عناصر هندسية ثلاثية الابعاد متميزة جدا؛ منها- العقود الدورانية والسطوح المخروطية والمقعرة والحلزونية. تلك الهندسيات المعقدة سمحت بانتاج هيكل اكثر نحافة ودقة، وعززت صلاحية الكنيسة من حيث كفاءة نقل الصوت والضوء لجميع اركانها. استخدم غاودي الجص لانشاء نماذج مصغرة عديدة للمبنى، ليتمكن من دراسته بعمق. وابتكر نظاما من الخيوط والشاقول لدراسة انماط تعليق الاوزان وتطبيقها على العناصر المعمارية للسقف والجدران. ومنهما توصل الى الزوايا المطلوبة لميلان الاعمدة والعقود والاقواس. ومن اهم الامثلة هنا الاعمدة المائلة في واجهة “العاطفة” التي تشابه هياكل تقوم على قوى الشد (tension) لكنها تعمل فعليا بمبدأ الضغط (compression).
تضم الكنيسة عدة طرز معمارية؛ ففيها عناصر قوطية وحديثة، وقد ادخل غاودي الرمزية الدينية في كل عناصرها؛ فخلق تمثيلا بصريا فخما للمعتقدات المسيحية. للكنيسة ثلاث واجهات رئيسة؛ واجهة تطل على الشرق وتدعى الميلاد، واخرى للجنوب تدعى المجد، وواجهة للغرب تدعى العاطفة. تم بناء واجهة الميلاد (التي تواجه الشرق رمزا لولادة السيد المسيح “ع”) اولا، لتحمل تأثير غاودي الفني المباشر؛ وتحوي بروزات دقيقة ومنحوتات سلسة ومناظر ورموز عميقة. وقد ارادها المصمم نموذجا لباقي اجزاء الكنيسة. بين اجزاء الواجهة الثلاث (التي ترمز للامل والايمان والاحسان)، يقوم عمودان كبيران، نحتت قواعدهما بشكل سلحفاة (تمثلان الارض والبحر) رمزا للزمن المنحوت من الحجر؛ وبذا يقاوم التغيير! وعلى جانبي الواجهة تمثالين لحيوان الحرباء؛ رمزا للتغيير. كان غاودي ينوي تلوين كل اجزاء الواجهات لتنميز التماثيل الكثيرة عن بعضها وتبرز. اما الواجهتان الباقيتان فقد حملتا طابع نحاتين آخرين (منها منحوتات ذات زوايا متقاطعة عكست طابع الفن الحديث الذي ساد تلك الحقبة).
يرتفع الفضاء المركزي نحو 45 مترا؛ صمم ليحاكي غابة من الدعائم المتفرعة من الحجر، وهي ابتكار خاص بغاودي يحاكي جذوع الاشجار. يتغير شكل الدعامات من قواعدها الى الاعلى وتتباين مقاطعها العرضية، ويزداد عدد رؤوسها من المضلع الى الدائري. تسحب الاعمدة والدعائم الرشيقة المتشظية اعين الناظرين الى الاعلى؛ حيث يتدفق الضوء (عبر زجاج اخضر وذهبي) من خلال فتحات دائرية في السقف، مسببا ما يشبه حركة الامواج على العناصر المعمارية. تبلغ مساحة الكنيسة 4500 متر مربع، طول المخطط الارضي 90 مترا، وعرضه 60 مترا (على شكل صليب). بنيت ثمانية ابراج حتى الآن؛ تعطي للمبنى واجهة نظر متميزة من جميع الزوايا.
جدلية لا تنتهي!
اججت الكنيسة منذ البدء جدليات كبيرة بين ابناء المدينة؛ من احتمال منافستها لكاتدرائية برشلونة، وعدم الاتفاق على تصميم غاودي، ثم المخاوف من عدم الالتزام بتصاميمه بعد وفاته! قال عنها الناقد المعماري رينيه زيربست: “لعل من الاستحالة ان نجد في تاريخ الفن كنيسة مبنية بنفس اسلوب السيغرادا فاميليا”. كما اعدها الناقد المعماري الاميركي..”أعجب طريقة شخصية لترجمة مبادئ العمارة القوطية منذ العصور الوسطى”.
اريد للاجزاء حديثة التشييد ان تبقى مغايرة في اللون للاجزاء الاصلية؛ التي اثرت فيها عوامل المناخ والزمن. وانقسم الرأي المعماري ما بين الالتزام الحرفي بمخططات غاودي الاساسية، وبين تطويرها بنفس الخط المعماري- النحتي. كما التزم معماريون كبار بمراقبة عمليات التصميم التفصيلي والانشاء؛ حتى تجيء تحفة غاودي بالشكل اللائق في نهاية المطاف.
كان غاودي يعرف انه لن يرى أبدا اكتمال بناء تحفته الكبيرة، لذا حرص على اكمال واجهة الميلاد اولا لتكون نموذجا لباقي الاجزاء. وقال يوما: “سأكبر في السن وسيأتي من بعدي آخرون. ما يجب ان نحافظ عليه دائما هو روح العمل؛ لكن حياة العمل واستمراريته ستعتمد على الاجيال التي ستتسلمه؛ ومعهم ستعيش الانجازات وتبعث من جديد”.
صور للكنيسة كما بنيت (يسار) وكما هو مخطط لها (اليمين) يوضح كمية هائلة من العمل الذي لا يزال ضروريا لإنجاز المشروع
(صور: www.wikimediacommons.org)
اقرأ أيضا
كنيسة العائلة المقدسة في برشلونة