“إياك أن تقع في حب فرضيتك.. بيتر ميداور” ,,طبيب بريطاني,,
ماذا لو عاد بك الزمن للماضي؛ قبل كوبرنيكوس، وأخبرت الناس آنذاك بأن البشر في المستقبل – الذي آتٍ منه أنت – يُسافرون بين القارات في أجسامٍ حديدية تستغرق عدة ساعات فقط ليصلوا إلى وجهتهم؟
ماذا لو أخبرتهم أن هناك شخص صعد على سطح القمر على متن مركبة فضائية اخترقت الغلاف الجوي للأرض، وآخر جلس في مركبة فضائية مدة عام كامل؟
ماذا لو صادفت أحد في الشارع هذا العام وأخبرك إنه آتٍ من زمن وبُعد آخر أكثر تطورًا، وبدأ في سرد شكل الحياة عندهم هناك؛ كيف سيكون رد فعلك تجاه الأمر؟
البداية
منذ أن تطلع البشر للسماء؛ رأت أعينهم أجسام مضيئة صغيرة، والقمر والشمس تلك الأجسام الدائرية المضيئة في الليل والنهار. حاول البشر على مدار التاريخ الانساني فهم وتفسير عالمهم عن طريق وضع نظريات متعددة تحاول اقناعهم بحقيقة ما يروه.
وعلى مدار التاريخ؛ كان وضع النظريات العلمية وصمودها أمام عقول البشر أمرًا صعبًا؛ حيث بدأت ثورات علمية عديدة تحدث في علوم الفيزياء والفلك تحديدًا كونهما أكثر العلوم سحرًا، ونتيجة لبروز أبحاثهم وشخصيات علمائهم في عصور كان العالم مُنشغلاً بقضايا أخرى.
من الفيزياء الكلاسيكية إلى الحديثة، من اكتشاف حقيقة النجوم إلى حقيقة وجود كواكب أخرى، من نظريات عديدة وُضعت فسّرت سطحية الأرض إلى أخرى فسرت كرويتها. وأخيرًا في عصرنا الحديث منذ نحو أسبوع بعد اكتشافنا لسبعة كواكب في نظامهم الشمسي المُستقل عنّا.
وإذا ما استعرضنا تاريخ تغيّر أو بمعنى أصح (تطور العلم) في بعض الاكتشافات؛ سنجد أن الكون يسير وفق قوانين طبيعية تتغير صيغتها، وتتنبأ بما لا يُتوقع برغم أنها في فترات مختلفة وطويلة من الزمن تكون صحيحة وفعّالة.
فرضية مركزية الأرض
نموذج مركزية الأرض.. ملكية الصورة: ويكيبيديا
أشهر الفرضيات العلمية التي شغلت عقول البشر منذ قرون مضت، ومنذ بداية التفكير البشري في حقيقة وجودهم ووجود عالمهم؛ حيث كان الاعتقاد السائد هو أن الأرض هي مركز الكون كله، وأن جميع الأجرام التي يمكن أن تتواجد في الفضاء تدور حولها في أفلاكٍ مختلفة.
وإذا ارتكزنا على الملاحظات والأدلة التي بنَت عليها الأنظمة القديمة وجهة نظرها لدعم مركزية الأرض؛ فهي الآتي:
– ملاحظة أن النجوم والشمس والكواكب يبدو وكأنها تدور حول الأرض كل يوم، وهذه الملاحظة تدعم وبشدة أن الأرض بالفعل مركزًا لهذا النظام.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن كل نجم كان له كرة “نجمية” أو “سماوية”، تعتبر الأرض هي مركزها، وكان النجم يدور حولها كل يوم، باستخدام خط يقطع القطب الشمالي والجنوبي كمحور. وقد بدا أن النجوم الأقرب إلى خط الاستواء ترتفع وتهبط لأكبر مسافة ممكنة، إلا أن كل نجم كان يدور ليعود إلى نقطة الارتفاع الخاصة به كل يوم.
– الملاحظة والمفهوم الثاني الشائع الذي يدعم نموذج مركزية الأرض؛ هو أن الأرض لا يبدو أنها تتحرك من منظور المُراقب الموجود على الأرض، أي أننا لا نشعر بحركتها كأشخاص نعيش عليها. بمعنى آخر؛ الأرض بالنسبة إلينا ثابتة ومستقرة تمامًا.
ظل هذا الاعتقاد سائدًا في حضارات وأزمنة متعاقبة لفترة طويلة من الزمن ما قبل سقراط؛ وصولًا إلى أفلاطون وتلميذه أرسطو في القرن الرابع الميلادي؛ واللذان كتبا أرائهما معتمدين على
نموذج مركزية الأرض.
يرى أفلاطون في رأيه أن الأرض كروية، وثابتة في مركز الكون. وتدور النجوم والكواكب حولها في مدارات أو دوائر.
تُرتّب هذه الدوائر بالترتيب من الخارج ونحو المركز كالآتي:
القمر، الشمس، الزهرة، عطارد، المريخ، المشتري، زحل، النجوم الثابتة على المدار السماوي.
أما أرسطو فقد وضع نموذج مكتمل التطوير، حيث تتواجد الأرض الكروية في مركز الكون، وجميع الأجرام السماوية الأخرى تتصل بنحو 47 إلى 56 مدارًا مركزيًا تدور حول الأرض؛ وكان يعتقد أنه يجب أن يتوفر لكل كوكب العديد من المدارات.
هذه المدارات العديدة والتي أطلق عليها اسم «المدارات البلّورية» تتحرك بشكل موحد وبسرعاتٍ مختلفة لدوران الأجرام حول الأرض. كما أنها كانت تتكون من مادة غير قابلة للتلف أطلق عليها اسم الأثير.
كما وصف هذا النظام بشكل أكبر من خلال شرح الميول الطبيعية للعناصر الكونية الأرضية: الأرض والماء والنار والهواء، بالإضافة إلى الأثير السماوي.
كان نظام أرسطو يشرح أن الأرض هي العنصر الأثقل، حيث تنطوي على أقوى حركة تجاه المركز. بالتالي؛ فإن المياه كونت طبقة تحيط بمدار الأرض.
وفي المقابل، فإن الهواء والنار كانا يميلان إلى التحرك لأعلى، وبعيدًا عن المركز، حيث تكون النار أخف من الهواء. وبما يتجاوز طبقة النار، حيث توجد المدارات الصلبة للأثير التي تكون الأجرام السماوية مضمنة بها. وهي، في حد ذاتها، كانت تتكون بشكل كامل من الأثير.
النموذج الذي فنّدها: مركزية الشمس
النموذج الذي وضعه كوبرنيكوس لمركزية الشمس.. ملكية الصورة: ويكيبيديا
كان أول ظهور لفكرة دوران الأرض حول الشمس في القرن الثالث قبل الميلاد عن طريق أرسطرخس الساموسي، لكن أول من وضع نموذج علمي رياضي لتلك الفرضية؛ هو
نيكولاس كوبرنيكوس في القرن الـ 16 الميلادي.
كان نموذج كوبرنيكوس يستند إلى أن حركة الأجسام السماوية يمكن تفسيرها بطريقة أفضل وأبسط إذا اعتبرنا الشمس هي مركز الكون؛ وتدور حولها الكواكب في مدارات دائرية.
أما الحركات المرصودة للأجرام السماوية؛ فهي عبارة عن حركاتٍ ظاهرية تأتي من ناحية حركة الأرض والكواكب الأخرى في مداراتها. تنشأ هذه الحركات من دوران الأرض حول محورها. وبذلك وضع كوبرنيكوس الأساس للآراء الحديثة.
ظهرت ما يُعرف بالثورة الكوبرنيكية في أوروبا، والتي أظهرت أن الأرض لم تعد هي مركز الكون كما كان يعتقد العلماء من قبل؛ بل هي كوكب صغير يدور حول نفسه ويدور في نفس الوقت حول نجم متوسط الحجم وهي الشمس.
أدى النهج العلمي المميز لعلماء الثورة الكوبرنيكية في البحث على ما بعد تلك النظرية؛ إلى ظهور اكتشافات عظيمة على يد علماء تلك الفترة مثل: كيبلر وغاليليو ونيوتن.
أظهرت هذه الاكتشافات أن الكون كتلة هائلة في الفضاء والزمن، ويمكن شرح حركة دوران الكواكب حول الشمس بقوانين بسيطة متعلقة بالظواهر الطبيعية على الأرض مثل ظاهرة المد والجزر مثلاً.
أدت هذه النظرية إلى فهم أوسع للكون بأنه مادة في حالة حركة مستديمة محكومة بقوانين تستطيع أن تقدم تفسيرًا منطقيًا لحدوث الظواهر الطبيعية مما أتاح لنا التنبؤ بها بسهولة.
هل كان أفلاطون وتلميذه أرسطو وبقية فلاسفة وعلماء ذلك العصر مخطئون، أم أنهم استطاعوا فقط بناء معرفتهم من خلال الأدوات التي توفرت لديهم؟
الهيدروجين المعدني
عنصر الهيدروجين المعروف؛ أصبح له شكلٌ آخر. هذا الأخير أصبح له شكل
معدني؛ حيث تم تصنيعه من قبل مجموعة من العلماء في جامعة هارفارد مؤخرًا؛ والذي كان وجوده قبل ما يقرب من قرنٍ مجرد نظرية. يُحتمل أن يكون هذا الشكل من الهيدروجين واحدًا من أثمن وأندر المواد على الأرض.
هل كان هذا الاكتشاف منطقيًا في حال كنت في العام 1930 مثلاً؟
الموجات التثاقلية
تنبأ بها آلبرت آينشتين في نظريته النسبية؛ إلا أن ثبوت وجودها الحقيقي لم يُكتشف إلا بعد نحو 100 عام. أوضح اكتشافها العام الماضي؛ بأنها موجات ناتجة عن اندماج ثقبين أسودين في نسيج الفضاء.
كانت
الموجات الأولى التي رُصدت تم جمع بياناتها في الـ 14 من سبتمبر عام 2015 نتيجة لاندماج ثقبين أسودين تصل كتلتيهما إلى نحو 36 و 299 مرة من كتلة شمسنا مجتمعة.
واكتشفت المجموعة الثانية من موجات الجاذبية التي انتقلت عبر الزمكان عند اصطدام ثقبين أسودين تصل كتلتيهما ثمانية و 14 أضعاف كتلة شمسنا.
ومنذ عصر آينشتين حتى موعد اكتشافها؛ عمل العالم وفق قانون نيوتن للجاذبية؛ والذي يُحاول وصف قوى الجاذبية التي تنشأ بين الأجسام، وليس نتيجة انحناء الزمكان؛
لكن هل كان الجميع مُخطئون؟
حسنًا…ليسوا مُخطئين؛ لكن يُمكننا القول أننا مُحاطين بالعديد من الحقائق الثابتة في الكون؛ لكن تختلف طريقة اكتشافنا لها من عصرٍ لآخر.
فإذا قارنت بين الفرضيات والاكتشافات القديمة والحديثة وسُبل اكتشافها في النماذج السابقة؛ ستجد أن لكل عصر أدواته التي تتيح له اكتشاف القوانين الطبيعة التي يسير بها؛ والتي تكون فعّالة وصحيحة إلى أن تحدث ثورة في اكتشاف جديد يُمكن أن يطوّر تلك القوانين، أو يغيرها تمامًا في أعوامٍ قادمة.
هل تُخلق الحقائق العلمية بالتجربة، أم أنها موجودة بالفعل مُسبقًا؟!
فلنأخذ على سبيل المثال قصة الوقت (الزمن).. كيف اكتشف الزمن؟
أشهر الحوادث التي أدت لاكتشاف انحراف (تغيّر) الوقت من مكان لآخر؛ كانت مع بداية العصر الحديث واستخدام الناس للقطارات في التنقل بين لندن وباريس. حيث وقعت العديد من الحوادث نتيجة أن الناس كانوا يظنون بأن وقت الانطلاق من لندن؛ هو نفسه وقت الوصول في باريس!.
وكان نيوتن يضع نظريته في الوقت (الزمن) التي عرفها الناس آنذاك واستمرت فترة من الزمن؛ وهو أن الوقت ثابت ويمر بنفس الوتيرة في أي مكان في العالم. بمعنى إذا كانت الساعة تُشير إلى العاشرة صباحًا في منزل ما في لندن؛ ستكون هي نفسها العاشرة صباحًا في روسيا والصين وأمريكا واستراليا.
ثم آتى آلبرت آينشتين ليحطم تلك النظرية -حرفيًا- حيث بيّن أن الوقت مُتغيّر من مكانٍ لآخر. هذه الفرضية بُنيت على أن الوقت يُختبر على نحو فردي، وليس على الكون بأكمله. وأتت الفرضية من خلال الكشف عن صلة مخفية بين المكان والزمن.
هذا الوثائقي يأخذك لقصة الوقت كاملة:
لكن؛ هل حقيقة تغيّر الزمن كانت موجودة بالفعل آنذاك، أم أنها أتت بالتجربة؟
حسنًا… الزمن موجود بالفعل؛ لكن طريقة العثور على مفهومه هي التي أتت من خلال التجربة. وبالرغم من أن حقيقة الزمن نفسه لا تزال لغزًا؛ إلا أن مفهومة كعامل مُتغيّر ونسبي لا تزال حقيقة!.
لنأخذ مثالًا آخر: اختلاف أشكال المواد في الطبيعة.
بشكلٍ عام؛ حالات المادة الرئيسية كما تعلمناها منذ قرون مضت؛ هي الحالة الصلبة، السائلة، الغازية. ثم بدأت تتطور أشكال المادة إلى البلازما، والمواد فائقة التوصيل، والمواد الطبولوجية، وغيرها من المواد…
هل هذه المواد موجودة مُسبقًا كحقائق علمية عن المادة، أم أنها وُجدت بالتجربة؟
حسنًا… لا يُمكن الجزم بأي من الإجابة صحيحة بشكلٍ مُطلق؛ حيث تنشأ هذه المواد نتيجة لظروف توضع تحتها المواد العادية.
فعلى سبيل المثال الموصلات الفائقة؛ هي مواد مقاومتها للتيار الكهربي تقترب من الصفر المطلق عند تبريدها إلى درجات حرارة منخفضة للغاية، حيث تسمح الموصلات الفائقة بمرور الكهرباء خلالها دون أي مقاومة كهربية تقريباً.
فلو لم نكشتف طريقة لتبريدها للصفر المطلق؛ لما كانت موجودة بالفعل، هل يعني ذلك أنها ليست موجودة؟!
يأتي السؤال أخيرًا: هل العلم يقبل الشك؟
العلم لا يقبل إلا الشك. وبالرغم من أن هناك الملايين من المعلومات والحقائق الثابتة، والاكتشافات الحديثة المُدهشة؛ إلا أنها لا يُمكن أن تكون مُطْلقة.
يمكن أن نلخّص الحكاية في عدة نُقاط كالآتي:
– برغم أن العلم قائم على وضع النظريات والفرضيات واكتشافات وقوانين وحسابات رياضية صحيحة دائمًا؛ إلا أنه ليس ثابتًا بمرور الزمن، حيث يُمكن أن تنقلب مفاهيمنا في لحظةٍ ما حين نعثر على اكتشاف جديد.
– يتمتع النّهج العلمي بمرونة تعتمد على التجارب، ووضع القوانين الحديثة التي تُساهم في العثور على إجابات متعددة؛ والذي سهّل المهمة أمام الباحثين في إطلاق العنان لأبحاثهم بدلًا من تضييق المجال على أنفسهم بالتمسك بالاكتشافات القديمة.
– حتى الآن؛ لم يتم العثور على كافة الأشياء -أو جزء كبير منها- التي يُمكن أن تتواجد في عالمنا؛ حيث هناك المزيد من الأسرار التي لم تُكتشف، ولم تُفسّر، ولم يظهر لها أيّ بوادر حتى لنبدأ البحث فيها. لذا يجب الأخذ ف عين الاعتبار أن هناك نواقص كُثر في أي معلومة تتلقاها.
أخيرًا؛ العالم العلمي أصبح يسير بوتيرة أسرع من ذي قبل. فإذا أخذنا علوم البرمجة على سبيل المثال؛ سنجد أن هناك مؤتمرات سنوية تعقدها الشركات المُطورة لعرض اكتشافتها أو تطويرها للهواتف التي كانت يومًا من الأيام مجرد قطعة حديدية على مكتب صغير في غرفة في منزل متوسط الحال.
قس على ذلك كافة العلوم؛ ليس العلوم الفيزيائية أو الكيميائية أو البيولوجية فحسب؛ بل كافة العلوم التي تصنع عالمنا.
هذا المقال منشور في إطار فعاليات
’’ أسبوع العلوم المصري’’