(ديستوبيا) حزمتُ حقائبي لكي أهرب الليلة، مادامت المدينة ملتحفة بالظلام، سبب هروبي من المدينة له تبرير فادح، بالنسبة لي على الأقل، وبعد ان صار البقاء خطيراً. كانت المدينة أفضل حالاً في الماضي، حتى حدوث الجريمة الأولى التي مات فيها رجل معروفاً بطيبته. مضت الجريمة وأخذت معها كل تفاصيلها، من تحقيقات جنائية وكشوفات وأدلة ،ولم يستطع أحد معرفة القاتل. الغريب أن الرجل الطيب المقتول ،لم يكن ثرياً ،ولم يكن مرتبطاً بجهة هامة، بل كان رجلاً مسكيناً كل ما يملك حب الناس. بعد الجريمة الأولى توالت جرائم مشابهة ،اقلقت هذه الجرائم أهل المدينة ،الصحف امتلأت بالأخبار ،والتلفاز وشبكات الاتصال. الأقاويل تتحدث عن وجود قاتل متسلسل، سفاح، يقتل للمتعة وحسب. الادلة الجنائية اثبتت أنه يقتل بفأس كبيرة. والغريب أنه لم يقتل في مسيرته المخيفة سوى الطيبين. الطيبون كانوا هم ضحايا هذا السفاح المخيف، ولم يمر يوم وليلة على سكان المدينة، إلا وتحدثوا عن السفاح ،عن قتله فلان الرجل الطيب ،وقتله فلانة المرأة المسكينة. ومع مرور الأيام، صرت أشعر بتغيير في ملامح المدينة النفسية. على سبيل المثال اختفت عبارات السلام، وصار أهل المدينة أكثر صمتاً ووجوماً. لم يعد الناس يتزاورون في ما بينهم في عرس أو عزاء ،ولا يسلم أحد على أحد حين يمرضون. بل تطرفوا ،صار الواحد يلعن الآخر إذا تلاقيا، وتبدلت عبارات السلام إلى عبارات خشنة وجارحة. وحين اعترضت مرة ،جابهني البعض وأدعى أن عبارات السلام القديمة، هي عبارات كلاسيكية، وأن العبارات الجديدة أكثر تمدناً. الغريب أن حالات القتل المتسلسلة قد تضاءلت، لم نعد نسمع بجريمة جديدة ارتكبها السفاح ..!. هنا تشجع أهل المدينة وازدادوا شراً. تبدلت عبارات السلام الخشنة والشتائم إلى ضرب، كنت أرى الصديق حين يسلم على صديقه يصفعه، ثم يرد الآخر بصفعة يصفر صوتها في الأُذُن. النساء تخرمش الصديقةُ صديقتها في الوجه ،وتملش الواحدة الأخرى من شعورهن. الأطفال يهرولون في الشوارع، ويعبث كل طفل بمؤخرة الطفل الآخر بلا حياء. الأسواق مليئة بالبضائع الفاسدة، يغش البائع المشتري علانية ، وعلى العكس يجتنب الناس البائع الصادق، بل يبحثون عن أكثر الباعة غشاً. الرجال يبحثون عن أكثر النساء مكراً، والنساء يبحثن عن أكثر الرجال دناءة. ومع هذا التغير في طبيعة أهل المدينة، آمنت المدينة على نفسها من فأس السفاح. حين انعدمت حالات القتل تلك.. حتى اسمها تبدل إلى مدينة الشر، صار الناس يتناقلون اسمها الجديد ،في ما بينهم مفتخرين به. ولم يكن في المدينة شخص رافض لما يجري غيري. فضحوني حين رفضت ،وصاروا يتبرؤون من رأيي واعتقادي. وهذا شيء سيء بالنسبة لي، هم يحاولون كسب ود السفاح ،ولكن على حساب تصفيتي وقتلي..!. كنت أعلن أن السفاح قد رحل ،أو مات ،أو حدث له أي شيء. وكنت أطالبهم بالتوقف والعودة إلى ما كانوا عليه، ولكن بلا جدوى فهم مستمرون بتصميم هائل. لهذا قررت الانزواء عنهم، ما دمت أعيش بمفردي فما المانع من الاستمرار في حياتي، وأنا بعيد عن تصرفاتهم. ومع هذا التفكير لم أسلم منهم، لقد صاروا يعلقون على باب منزلي أوراقاً، مخطوطة عليها عبارات مثل( هنا يسكن طيب...سيدي السفاح هنا ضالتك التالية). وكنت كلما مزقت تلك الإشارات إلى مكاني، علقوا غيرهن من جديد. يجلبون عشرات الفؤوس ويضعونها قرب بابي ،وكأنهم يوفرون حمل الفأس للسفاح، ويهيؤون لقتلي بأبسط الطرق، متزلفين له كما يحب ويرغب. الغريب في الأمر أن السفاح لم يأتي لقتلي، مع كثرة الفخاخ التي نصبوها لي، ومع لذة الطُّعم الذي وضعوه للسفاح، عشتُ في منزلي سالماً حتى جن جنونهم. ثم حدثت المفاجأة ، لقد تم العثور على جثة السفاح في كوخ خارج المدينة، كان الكوخ بعيداً وملاذاً جيداً للسفاح ، لكن جثته تحللت وفاح زنخها، ففضحت مكانه، وعثروا عليه كما تداولت الصحف في داخل الكوخ ممدداً على سريره، مع مجموعة كاملة وكافية من الأدلة التي تشير إلى جرائمه، إلا الفأس، لم يتم العثور عليها وكان هذا الخبر الأكثر غرابة ،لأن الفأس تلك كانت كما يصفها البعض أيقونة السفاح المخيفة. توقعت أن يفرح أهل المدينة بهذا الخبر، خبر موت القاتل المخيف. لكنهم خرجوا في اليوم التالي بعد شياع الخبر، حاملين فؤوساً صقيلات. يلوحون بها، ويدعي كل شخص امتلاك فأس السفاح المفقودة
أنمار رحمة الله