مثل الذي حدث مع سويد بن الصامت تكرَّر مع غلام صغير اسمه إياس بن معاذ، ولننظر إلى ما قاله محمود بن لبيد رضي الله عنه في شأن إسلام إياس:

عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ أَخِي بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ أَبُو الْحَيْسَرِ أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ مَكَّةَ وَمَعَهُ فِتْيَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ فِيهِمْ إِيَاسُ بْنُ معَاذٍ يَلْتَمِسُونَ الْحِلْفَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى قَوْمِهِمْ مِنَ الْخَزْرَجِ سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَاهُمْ فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: «هَلْ لَكُمْ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ؟» قَالُوا: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: «أَنَا رَسُولُ اللهِ بَعَثَنِي إِلَى الْعِبَادِ أَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يَعْبُدُوا اللهَ لَا يُشْرِكُوا بِهِ شيئًا، وَأُنْزِلَ عَلَيَّ كِتَابٌ». ثمَّ ذَكَرَ الإِسْلَامَ وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَقَالَ إِيَاسُ بْنُ معَاذٍ -وَكَانَ غلامًا حَدَثًا-: أَيْ قَوْمِ هَذَا وَاللهِ خَيْرٌ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ. قَالَ: فَأَخَذَ أَبُو الْحَيْسَرِ أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ حَفْنَةً مِنَ الْبَطْحَاءِ[1] فَضَرَبَ بِهَا فِي وَجْهِ إِيَاسِ بْنِ معَاذٍ، وَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُمْ، وَانْصَرَفُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَكَانَتْ وَقْعَةُ بُعَاثٍ بَيْنَ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، قَالَ: ثمَّ لَمْ يَلْبَثْ إِيَاسُ بْنُ معَاذٍ أَنْ هَلَكَ. قَالَ مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ: فَأَخْبَرَنِي مَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَسْمَعُونَهُ يُهَلِّلُ اللهَ وَيُكَبِّرُهُ وَيَحْمَدُهُ وَيُسَبِّحُهُ حَتَّى مَاتَ، فَمَا كَانُوا يَشُكُّونَ أَنْ قَدْ مَاتَ مسلمًا، لَقَدْ كَانَ اسْتَشْعَرَ[2] الإِسْلَامَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ حِينَ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا سَمِعَ[3].

هذه -أيضًا- قصة جميلة فيها من الدروس الكثير:

أولًا: بدا لنا بوضوح الجهد الهائل الذي كان يبذله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بحيث لا يسمح بفوات فرصة لتبليغ رسالة الإسلام إلى الناس، ولم يكن يتحرَّج من أن يُفاتح في أمر الدين رجالًا ما عرفهم إلَّا منذ دقائق معدودات، ولم يكن يتعلَّل بما يقوله كثير من المسلمين الآن من أنه لا بُدَّ من التعارف الطويل الذي قد يمتدُّ إلى شهور وسنوات حتى تُكَلِّم الناس في أمر العقيدة؛ خاصَّة أنه هنا يقابل أفرادًا قد لا يتيسَّر له أن يقابلهم ثانيةً؛ لذا فقد كان يتحدَّث مع الناس بشكل مباشر واضح لا يُضَيِّع فيه وقتًا.

ثانيًا: بعض المسلمين ينتهج طريقة الدعوة بالسلوك فقط، فيتخيَّل أن الناس إذا رأت منه الأخلاق الحميدة، والخصال الشريفة، فهذا يكفي للتعريف بالإسلام، وهذا الفكر في الواقع صواب من ناحية، وخطأ من ناحية أخرى؛ فالسلوك مهمٌّ جدًّا لإقناع الناس بالجانب العملي والتربوي في هذا الدين؛ ولكن الاكتفاء به وحده دون تصريح مباشر بالمرجعية الإسلامية العقائدية لهذا السلوك خطأ كبير؛ لأن عموم الناس ليست لهم القدرة على ربط أخلاق المسلم الحميدة بالإسلام؛ إلَّا إذا صَرَّح هو بذلك، والناس لن تعرف شيئًا عن العقيدة الإسلامية الصحيحة بما فيها من توحيد لله، وإيمان بالنبوَّة، ويقين في اليوم الآخر، إلا إذا كان الحديث في هذه الأمور مباشرًا صريحًا لا لبس فيه ولا غموض؛ إنني أشعر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُسابق الزمن في حديثه مع الناس في شأن الإسلام، فهذا اللقاء مع بني عبد الأشهل قد لا يتكرَّر أبدًا، وقد ينبهرون فيه بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم دون أن يلتفتوا إلى أن كمال أخلاقه راجعٌ إلى نبوَّته وعصمة الله عز وجل له، وقد يظنونه أحد الشرفاء الكثيرين الذين برزوا في جانب الأخلاق؛ ومع ذلك فهم يعبدون اللات والعزى؛ لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل في صلب العقيدة مباشرة، فيتحدَّث عن توحيد الله وعدم الإشراك به، ويصف معتَقَدَه في اليوم الآخر، ويقرأ على الناس آيات من القرآن الكريم؛ وهكذا يجب أن يكون الداعية الصادق؛ الذي يحمل همَّ الدعوة، ويحرص على أن يكون سببًا في هداية الناس.

ثالثًا: لاحظنا في هذا الموقف كيف أن الله عز وجل يفتح قلوبًا للإسلام بكلمات قليلة؛ بينما تنغلق قلوب أخرى فلا تتأثَّر قيد أنملة! لقد شرح رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الإسلام بكلمات موجزة، وقرأ بضع آيات من القرآن الكريم؛ ولقد كانت الرسالة واضحة جدًّا، ومع ذلك فقد تفاوتت ردود الفعل للآيات نفسها تفاوتًا عجيبًا! فأحد السامعين تأثَّر بشدَّة وأخذ قرار تغيير العقيدة إلى الإسلام بشكل سريع للغاية، وسامعٌ آخر أخذ الاتجاه المضادَّ تمامًا، فلم يكتفِ برفض الدين؛ بل حرص على صدِّ الآخرين عن الإيمان، ومجموعة أخرى من السامعين سكتت ولم تُعَلِّق، وكأنها متردِّدَة لا تعرف في أي الاتجاهات تسير؛ قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ}[الحج: 16]، فالآيات البيِّنَات واحدة؛ ولكن الله أراد أن يهدي بها واحدًا ولا يهدي بها آخر، وهذا التفاوت مَرَدُّه إلى قلبِ كل واحد من هؤلاء السامعين، فهذا قلب رقيق متواضع سيفتحه الله عز وجل للقرآن، وهذا قلب غليظ قاسٍ لن يُيَسِّر الله له الهداية؛ قال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}[الزمر: 22، 23]، فالمسألة في الحقيقة قلبيَّة بحتة: قلب قاسٍ معزول عن ذِكْر الله، وقلب خاشع يلين لذِكْر الله، فليس هناك ظلم ولا إجحاف؛ إنما العبد في الواقع هو الذي يختار بقلبه، ويُحَدِّد بإرادته، والله يهدي أصحاب القلوب الرقيقة، ويُضِلُّ الغلاظ القساة، وهذا منتهى العدل والحكمة.

رابعًا: من المؤكَّد أن هناك عوامل كثيرة كانت سببًا في رقة قلب إياس بن معاذ، وغلظة قلب الآخر أبي الحيسر أنس بن رافع؛ ولكن يبرز -من خلال الرواية- عاملان مهمان لهما أكبر الأثر في تحديد مسار كل واحد منهما؛ أما العامل الأول: فهو عامل السنِّ؛ فالشباب كما ذكرنا مرارًا أقرب إلى الدعوة من الكبار، وإن كانت الدعوة موجهة إلى الاثنين معًا؛ لكن اقتضت طبيعة الأمور أن قلوب الشباب أكثر رقَّة، وأقرب إلى قبول الدعوات الجديدة الصالحة، بعكس القلوب التي ران عليها ما كانت تكسب من الذنوب والخطايا والأفكار، فهذا عامل مهم، وأما العامل الثاني: فهو عامل المنصب والقيادة، فالزعماء بطبيعة الحال رافضون للدعوات الإصلاحية والدينية بشكل عام، إلا مَنْ رحم الله؛ وذلك خوفًا على مناصبهم وأوضاعهم القيادية، فهم لا يحبُّون التحوُّل إلى التبعية لغيرهم حتى لو كان نبيًّا! هكذا كان الوضع في كل مسيرة الإنسانية، وهكذا كان الوضع في قصتنا، فأبو الحيسر أنس بن رافع هو زعيم الوفد، الذي لا يكفيه أن يرفض الإسلام؛ بل يجتهد في منع أتباعه من الخروج عن طاعته إلى غيره؛ ولذلك لم يتردَّد في ضرب إياس بن معاذ عندما طرح فكرة قبول الإسلام، لا ليمنعه هو فقط من اعتناق الإسلام؛ ولكن ليُرهِب بقية الوفد ويقطع عليهم طريق التفكير في الدين الجديد؛ أما إياس بن معاذ فغلام بسيط يبحث عن الحقيقة المجردَّة، وليس له منصب يخاف عليه، بل هو في الحالتين تابع! إما تابع لأنس بن رافع، وإما تابع لرسول الله صلى الله عليه وسلم! ومن ثَمَّ فقرار إسلامه أيسر بكثير من قرار الزعماء. نعم ليس هذا على وجه الإطلاق، وتوجد دومًا استثناءات؛ ولكن هذه الاستثناءات تُقَوِّي القاعدة ولا تنفيها.
خامسًا: ضاعت على أنس بن رافع فرصة الإسلام، ولعلَّه مات مبكرًا بعد هذا اللقاء؛ لأننا لم نسمع له ذكرًا في السيرة النبوية بعد ذلك، وبعضهم يذكره في الصحابة[4]، وهذا خطأ لأننا لا نعرف من حياته إلا هذا الموقف، وكان واضحَ الكفر فيه، وهكذا أضاع أنس بن رافع فرصة ثمينة للعتق من النار على يد رسولٍ كريمٍ صلى الله عليه وسلم، والحياة فرص، وما ذهب قد لا يعود مطلقًا، وللعجب فإنه على الرغم من أن أنس بن رافع كان يمنع الناس من الإسلام فإن الإسلام قد اخترق بيته رغمًا عن أنفه بعد موته! فأسلم ابنه الحارث بن أنس رضي الله عنه، وشارك في بدر، ثم استشهد في أُحُد[5]، وأسلمت ابنته أم إياس بنت أنس رضي الله عنها، وتزوَّجت عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه[6]! قال تعالى: {وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[يوسف: 21].

سادسًا: كان سويد بن الصامت رضي الله عنه من الخزرج، وهذا إياس بن معاذ رضي الله عنه من الأوس، وكأن الله عز وجل قد أراد أن تصل دعوة الإسلام إلى القبيلتين معًا؛ ومع أن الرجلين لم يقوما بدعوة كبيرة للإسلام نظرًا إلى موتهما المبكر؛ فإن إسلامهما كان وكأنه تمهيد للمدينة لتتلقَّى بعد ذلك دعوة الإسلام بشكل أكبر بعد عام من موت هذين الصحابيين الكريمين، وهذا تدبير ربِّ العالمين، الذي لم يُخَطِّط له رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة؛ ولكن تجري الأمور بالمقادير، وما على العباد إلَّا بذل الجهد، ويفعل الله ما يشاء.

سابعًا: من جديد تؤكِّد هذه الرواية الزمن الذي حدثت فيه المعركة الكبرى بين الأوس والخزرج، والمعروفة بيوم بعاث؛ حيث ذكرت الرواية أن يوم بعاث كان فور عودة الوفد اليثربي من مكة إلى المدينة، وهذا يعنى حدوث المعركة في أوائل العام الحادي عشر من البعثة؛ حيث تمَّت أحداث هذه القصة في آخر العام العاشر من البعثة كما أثبت ابن إسحاق وغيره[7].
ـــــــــــــــــــــــــ ـ

[1] البطحاء: هو المكان المتسع يمر به السيل فيترك فيه الرمل والحصى الصغار. انظر: المعجم الوسيط 1/61، وقيل: البطحاء: هو الحصى الصغار. وقيل: بَطْحاءُ الوادي تراب لَيِّنٌ مما جَرَّتْه السُّيُولُ. ابن منظور: لسان العرب 2/412، وبطحاء مكة: كانت عَلَمًا على جزء من وادي مكة بين الحجون إلى المسجد الحرام، ولم يبقَ اليوم بطحاء؛ لأن الأرض كلها معبَّدة. انظر: محمد بن محمد حسن شُرَّاب: المعالم الأثيرة في السنة والسيرة ص49.
[2] اسْتَشْعِرْ خشية الله؛ أي اجعلها شِعارَ قلبك، واسْتَشْعَرَ فلانٌ الخوف إذا أضمره. ابن منظور: لسان العرب، 4/410؛ أي أسلم دون إعلان.
[3] أحمد (23668)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن. والحاكم (4831)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. والطبراني: المعجم الكبير (809)، وقال الهيثمي: رواه أحمد، والطبراني، ورجاله ثقات. انظر: الهيثمي: مجمع الزوائد 6/36.
[4] أبو نعيم: معرفة الصحابة 1/244، وابن الأثير: أسد الغابة 1/289، وابن حجر: الإصابة 1/390.
[5] انظر: ابن عبد البر: الاستيعاب 1/281، وابن الأثير: أسد الغابة 1/587، وابن حجر: الإصابة 1/658.
[6] ابن حجر: الإصابة 8/358.
[7] وردت هذه القصة بعد وفاة أبي طالب وخديجة رضي الله عنها ورحلة الطائف؛ وذلك في الحديث عن عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل وقبل إسلام الأنصار، انظر: ابن هشام: السيرة النبوية 1/427، والطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/352، 353، والذهبي: تاريخ الإسلام 1/288، وابن كثير: البداية والنهاية 3/180، والصالحي: سبل الهدى والرشاد 3/189، ووضع ابن الجوزي هذه القصة في أحداث السنة السابعة من النبوة، انظر: ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 2/386.

د.راغب السرجاني