المعلّم دخل المعلم الجديد إلى القرية ،كان أول المنتبهين له حفنة أطفال تركوا موقع لعبهم، ووقفوا صفاً يطالعونه بتعجب ،كأنه مخلوق نزل من الفضاء. ثم أنتقل الفضول إلى رجال يجلسون على جانبيّ الطريق،سلّم المعلم عليهم فردوا السلام ببرود .سار على مهل مستكشفاً ملامح القرية القصية ،حاملاً على كتفه (حقيبة كبيرة) معبأة بالكتب والملابس.كان قويَّ البنية،مهيب الطلعة،زكي الرائحة.هندامه أثار الأعجاب، لبريق رونقه ودقّة تأنّقه،ووسامته استمالت فتياتٍ تهامسن عليه بفضول خجول.سار متجهاً صوب شبه مدرسة أنهكها تعاقب الأزمان،وصراخ الهجير،ونحيب المطر. تحوي غرفتين ،الأولى غرفة يعيش فيها المعلم،والثانية صف يأوي أطفالاً متهرئة أثوابهم،متربة وجوههم ،حلَّ بينهم بعد فصل معلمهم السابق لغيابه الطويل عن دوامه الرسمي. تأقلم المعلم الجديد مع وضعه الحالي. في كلِّ صباح يصدع لأمر المنبه.يتناول ما تيسَّر من لُقيمات،ثم يتجه إلى عمله برتابة ،حتى دغدغتْ نفسه فكرةُ التنزه. فاستثمر يوم العطلة لكي يتجول مستكشفاً ملامح القرية البسيطة.ذُهِلَ حين اكتشف أن القرية المنسية لم تُطرز سجادتها بحديقة ،ولم يزين وجهها شارع نظيف، أو بناية ذات هيبة،أو مكان للترويح،غير مقهى بسيط يقبع في آخر الدرب الترابي الوحيد الذي صُلبت على جانبيه دور وأبنية شائخة.وأحزنه أن تلاميذه المتناثرين كالدُمّل على وجه الشارع، يحدّقون في سحنته من دون أن يبادلوه السلام والتحية،مكتفين بنظرات جامدة .النسوة المتلفعات بالبؤس والعباءات الرثة، يتغامزن هامسات (هذا هو المعلم الجديد!).الرجال يطلقون العنان لأنظارهم صوبه وكلُّها رجاء، في أن يقذف الحياة في عقول أبنائهم، ويُبعث منهم طفلٌ (نبيّ)،ينتشلهم من بئر أحزانهم وبؤسهم .الدهشة تكسوه ،الحيرة تجتاحه ،الرغبة في أن يريح ساقيه تلحُّ عليه، فيقوده التعب إلى مقهى القرية الوحيد.دقائق مرت وجيزة وهو منزو في المقهى يراقب الجالسين، حيث رابه أنهم لا يعرفون الكلام.لا ضجيج،لا مزاح ،لا نقاشات.يجلسون كأصنام ملقين بصنّارات أنظارهم في فضاء الدرب المحاذي للمقهى .أحسَّ بغربة أكبر ،فتوجه صوب الشارع بعد أن حاسب صاحب المقهى،مُنهياً جولته الرتيبة..لَفَتَ انتباهه تجمّعٌ غفير في الجهة المقابلة ،فحرَّك ساقيه ببطء وهو يناور في نظراته حول التجمّع.كان مشهداً لحوذيٍّ هاج حماره الذي يجرُّ عربة توصيل البضائع. حيث رفع الحمار جزئه الخلفي رافساً العربة بعنف،ناهقاً بقوة.الناس شكَّلت دائرة حول المشهد ،تنتظر مفاجأة لم تتأخر كثيراً، حيث ضرب الحمارُ الأرض بحوافره ، كاسراً اللجام العتيق ،وهرب خبيباً صوب الغابة المحاذية للقرية، مالئاً الفضاء بنهيق عالٍ. جثا الحوذيُّ العجوز على ركبتيه،صارخاً بأعلى صوته وراء حماره:(تعال...تعاااااال..يا حسرتي...سأموت جوعاً من دونك).إلى الغابة المليئة - كما هتف البعض - بالوحوش والضواري،هرب الحمار تاركاً وراءه صاحبه الحوذي وهو يلعن ويئن جزعاً .أفزع المنظرُ المعلمَ،هامساً في نفسه(كيف يعيش حمارٌ في غابة ؟.هل سينجو من الوحوش هناك؟ لقد اختار هلاكه). بعد أيام قلائل لاحظ المعلم تلميذاً اصفرَّ لونه،وتهدَّلتْ كتفاه تعباً ومرضاً. أخرجه إلى الفناء ليغسل وجهه ويريحه قليلاً. غسل التلميذ وجهه ،وصار يفرك عينيه ماسحاً الماء برفق ،والمعلم يطالعه بحزن.منظر التلميذ أعاد للمعلم بلحظات قافلة من الذكريات .تذكره منزلهم القديم ،وأبيه الكادح ،وأمه التي لم يذكر منها سوى صورة معلقة.تذكر شارعهم الرث ،وجيرانهم اللاهثين وراء اللقمة ليل نهار.. أنتبه المعلم إلى وجه التلميذ يتحرك أمامه ،ثم بلحظة فزَّ المعلم على صوته قائلاً (شكراً أستاذ).سأله على الفور (ماذا يعمل أبوك..؟)،فردَّ التلميذ بجملة يمطها (أبي حوذي...رجل شايب ..إنه في البيت يجلس حزيناً بعد أن هرب حمارنا ). أنت ابن الحوذي صاحب العربة التي هرب منها الحمار (هتف المعلم) ،ثم قرر لاحقاً الذهاب إلى بيت الحوذيّ، بحجَّة توصيل ولده والاطمئنان عليه.ولما وصل اكتشف أنه لم يكن بيتاً ،بل كوخاً نال منه الفقر والعوز. تفحّص العربة المركونة خارج الكوخ، فأرجعتْ له تفاصيل الحادثة،وما جرى لمالكها في ذلك النهار..اعترف الحوذيُّ للمعلم الضيف انه سيموتُ حرقة وكمداً على رحيل حماره،لان الأخير سبب حياته وحياة عياله. فطمأنه وتكفَّل له بإعانته على احتياجاته ما استطاع.شكر الحوذي ضيفه كثيراً،ثم غادر المعلم إلى مأواه مفكراً بمصير الحوذي وما سيلاقيه ،حتى أستولى التفكير عليه طارداً النوم عن عينيه ،متخيلاً نفسه بدل الحوذي!.ماذا سيفعل حينها؟.ولم يفهم كيف اجتاحتْ روحه تلك الفكرة كجيش بربريّ لا يصد هجومه حصنٌ ولا قلعة؛ فكرةُ أن يساعد ذلك الرجل بما أُتي من قوة. عاد المعلم للحوذي في اليوم الثاني ،وفي جعبته حلٌّ للمشكلة ...كان الحلُّ خطيراً،لكنه لم يمتلك غيره. حدّق الحوذي في وجه المعلم ثم هتف ضاحكاً:(هل أنت جاد في مساعدتك لي ..؟) فأجابه المعلم:(نعم ...سوف أساعدك...طلبات التوصيل أجّلها إلى الليل،وأنا وأنت سننقلها بالعربة ذاتها،سأجرّها ...والليل سيكون ساتراً لي ولك ،إلى أن تجمع مالاً كافٍ يساعدك على شراء حمار آخر بدل الذي هرب).دمعت عينا الحوذي فرحاً، ورجفت كفاه وهو يقبّل رأس المعلم ويديّه ،والأخير يهتف مستغفراً ربه ،منتشياً بهذا الصنيع. لم يكن العمل شاقاً في البداية، مشاوير بسيطة تنتهي بيسر ويرجع – المعلم والحوذي- كل واحد إلى مخدعه . ولكن بعد شهر من المشاوير التي ازدادت ثقلاً وارهاقاً ،استوطن التعب في تفاصيل جسد المعلم، والدهشة من صوت أقدامه التي صارت تنقر بنَسَقٍ غريب على الأرض!،ووجهه الذي صار أكثر بلادة. حالة من الفزع باتتْ تراوده وأجبرته على إنهاء ما بدأه،فقرر إنهاء كلَّ شيء ليلتها، حين يوصل آخر طلب، يفاتح الحوذيَّ في رغبته في الكفِّ عن المواصلة، خصوصاً أن الحوذي لم يهتم بشأن شراء حمار آخر، مرتاحاً على بقاء الحال هذا. وصل المعلم إليه في الليل، أراد فتحَ وثاق الحديث، لكنه أجَّل الفكرة إلى حين الانتهاء من عمله.أتسع فم المعلمُ دهشةً ،حين طالع الحوذي وهو يضع لجاماً جديداً قوياً ،ثم أخرج سوطاً كان مندسّاً بين أغراضه القديمة. أراد المعلم إفهامه إن السوط لم يكن مُتفقاً عليه، لكن الحوذي تجاهل كلامه وكأن لا وجود له، فلم يتمالك نفسه صارخاً بقوة : (ماذا تفعل...؟ أنا أتحدث معك!) ،لكن صرخته التي ارعدت في الزريبة لم تثر الحوذي، إذ رد عليه بجلدة موجعة. صرخ المعلم مرة أخرى،فردَّ عليه الحوذي جالداً بقسوة أكبر.صرخ،جلده،صرخ،جلده،فح َّك المعلم أقدامه رويداً رويداً، مسحوباً ،مقهوراً لا يستطيع المقاومة والرفض ،مع كل الجهد الذي بذله لكي يبدي عصيانه الذي ضاع هباءً، وهو يرى الحوذي يدفعه باتجاه باب الزريبة ،ثم تبعه راكباً على العربة بالطريقة المعتادة لسائس متمرس، يواصل الجلد وعيناه قد احمرتا حزماً وصرامة ،حتى استقر السير وانتظمتْ الحركة،والدموع تتقافز من عينيّ المعلم، تحملها الريح المواجهة إلى الوراء. أيام مضت ....المعلم يصرخ في شوارع القرية،ولم يهتم أحد لصراخه.المشاوير التي خرج بها ليلاً،صار يمارسها في النهار،والذي حدث في السرِّ،صار يحدثُ في العلن.أهل القرية يباركون للحوذي حين يمرُّ بعربته في الشارع (مبارك الحمار الجديد..)،والحوذي يرد عليهم مقبلاً يده باطناً وظاهراً ،ثم يضعها على جبينه حامداً على هذه النعمة.حتى أن تلاميذ المعلم ذاتهم ،كانوا يهرولون وراء العربة مصفقين ،أو يقفون صفاً أمام والمعلم حين يربطه الحوذي لتوصيل طلبية ما ،أو لمحاسبة أحدهم والاتفاق على توصيلة سريعة.كان المعلم يستغيث تارةً وتارة يسرقه الصمت كما يسرق النهر الغريق.وحين ينفجر من ألمه ودهشته السوداوية،يصرخ عالياً بوجه الناس في السوق ( أيها الناس...ماذا جرى لكم ..؟انقذوني وفكّوا لجامي هذا وحرروني من قيدي ...أنا معلم القرية ..الا تذكرون ..؟).ولكن كل ما كان يراه المعلم حين يصرخ ،هو نظرة امتعاض من المارّة ،وبعضهم كان يغلق أذنيه من صوت المعلم العالي،والحوذي يرد عليه بلكز قاس في خاصرته بالسوط ،أو بجلدتين سريعتين كبرق على ظهره،كانتا كفيلتين بإسكاته مدة من الزمن.ولم يشغل بال المعلم سوى صورة حمار الحوذي القديم ،ومشهد هروبه صوب الغابة ،مفكراً في تكرار التجربة وكسر اللجام. لولا أنه كان أشد قوة وأصلب من اللجام المتهرئ الذي كسره الحمار الهارب.فقفزت في رأس المعلم فكرة الهروب ليلاً،حين يفلُّ الحوذي اللجام ويدلف إلى مأواه. في الليل حلَّ الحوذيُّ الوثاق عن العربة،وربطه على عمود في الزريبة .ألقى أمام المعلم العشاء (التبن)،وملأ دلواً بالماء وقرَّبه أمامه.وضع الحوذي يده على رأس المعلم،ومرَّغه لكي يتناول التبن ويخلد إلى النوم، فالغد يُنبئ بمشاوير أخرى أثقل وزناً.حين غادر الحوذي الزريبة،أجتهد المعلم في قطع الحبل عن العمود ،وهو يتحدث مع نفسه (لا مكان لي سوى الغابة البعيدة،حيث تنتظرني الوحوش والذئاب...! لكنني سأكتشف فرصتي هناك،أفضل من الذلُّ والقهر والمرض والمهانة.سأهرب إلى الغابة ،لامجال لدي للتفكير،سأقطع الحبل المربوط بعنقي وأنجو بنفسي... الغابة أرحم). بعد أيام وجيزة ،وحين كان ابن الحوذي يروي لأصدقائه تفاصيل هروب حمارهم ليلاً. لفت انتباهه همهمة رجال يشيرون بأنظارهم وأكفهم صوب مدخل القرية ،وأطفالاً وقفوا صفاً متسربلين بالفضول.أقبل نحوهم متسائلاً ،حاشراً رأسه بينهم بقوة ،ليرى رجلاً غريباً داخلاً إلى القرية ،متهندم بأناقة فائقة ،ويحمل على كتفه حقيبة كبيرة