على الرغم من أن العام العاشر عُرِف في كتب السيرة بـعام الحزن، فإن الله سبحانه أراد برحمته أن يضيء أنوارًا تُطمئن قلوب المؤمنين، وتلفت أنظارهم إلى رحمته سبحانه، وتجعلهم يلهجون بالشكر والثناء له، وكان من أعظم هذه الأنوار بعد حادث الإسراء والمعراج:
سجود المشركين لله في البيت الحرام!
بلغت حساسيةُ الوضع الإسلامي الذروةَ في هذه الفترة الحرجة من تاريخ الدعوة؛ فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم واقعًا تحت ضغوط كثيرة متزامنة؛ فهو في حماية قبيلة بني نوفل وليس بني هاشم، وفوق ذلك فهو تحت ضغط سخرية الناس وعدم تصديقهم لأمر الإسراء؛ ومع ذلك فقد استمرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في نشاطه الدعوي؛ بل طوَّر ذلك تطويرًا غير مسبوق!
لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر لم يقم به ولا مرَّة حتى هذه اللحظة من أول تاريخ البعثة، وهو قراءة سورة كاملة من القرآن الكريم على أسماع الجميع من المسلمين والمشركين، وكانت هذه السورة هي سورة النجم، وكان المكان هو أكثر أماكن مكة ازدحامًا بالناس، وهو البيت الحرام!
ومع أن القصة ثابتة في الأحاديث الصحيحة فإنه ليس هناك دليل مباشر على توقيت حدوثها، وكثير من علماء السيرة يضعونها في أحداث العام الخامس أو السادس من البعثة، ولكني أَثْبَتُّها في هذا الموضع -في أحداث أواخر العام العاشر- لكون سورة النجم تتحدَّث في صدرها عن معراج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى السماء؛ وذلك في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى* لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}[النجم: 13-18]، والنصوص تُشير إلى قراءة سورة النجم كلها، وهذا يعني أن هذه الآيات الخاصة بالمعراج لم تنزل بمفردها في وقت لاحق، إنما نزلت مع بقية السورة، وليس من المناسب افتراض أنها نزلت مبكرًا في العام الخامس، ثم أتى تأويلها في العام العاشر بعد رحلة المعراج، فهذا فيه الكثير من التكلُّف، والله أعلم. وأنا أعتقد أن حدوث القصة في العام العاشر أوقع؛ لسبب آخر -أيضًا- هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغلَّ حالة الحراك الدعوي التي حدثت بعد كلامه عن الإسراء؛ فمعظم أهل مكة يُريدون أن يسمعوا منه تفسيرًا لما حدث، ويترقَّبون منه كلامًا بخصوص قصته العجيبة؛ ومن ثَمَّ وقف الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة النجم، والكفار يستمعون بلا اعتراض، لكونهم في انتظار شيء يتعلَّق بالأمر، وهذا لم يكن حادثًا في كلِّ فترات السيرة السابقة.
قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم السورة، وكأنه يقرأ بيانًا تحذيريًّا إلى مشركي قريش؛ فالسورة فيها من القوارع ما فيها، ولم يقدر على مقاطعته أحد، ويا ليتنا نتصوَّر هذا الموقف، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن بصوته العذب، وخشوعه الكامل، وفهمه العميق لكل حرف، ثم الجميع حوله يُنصت، وكأن على رءوسهم الطير!
قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى * ذُو مِرَّةٍ[1] فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى}[النجم: 1-12].
وقد أُخذ المشركون بروعة الآيات والكلمات، وبُهروا بهذا الكلام الغريب العجيب، الذي لا يقدر عليه بشر، فلم يُحَرِّكوا ساكنًا، ونزلت الآيات نورًا يفتح قلوبهم، وخرست الألسنة، وتسمَّرت الأقدام، وتعلَّقت العيون برسول الله صلى الله عليه وسلم، والسورة تشرح للمشركين قصته صلى الله عليه وسلم بإيجاز: إنه صاحبهم الذي يعرفونه، ويعرفون نسبه وشرفه وصدقه وعفافه، وهو لا يتكلَّم معهم بهواه إنما يأتيه ملك الوحي من السماء؛ هذه هي الحقيقة المجرَّدة التي أخبرت بها السورةُ أهلَ مكة عن طبيعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومهمَّته؛ ومن ثَمَّ وضعت القومَ في حرج شديد؛ إذ لماذا إذن يُكَذِّبونه ويجادلونه وهو ليس إلَّا رسول يحمل لهم رسالة من الله؟!
ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكمل قراءته بصوتٍ قوي يُحَذِّر من اتباع آلهة مزعومة لا قيمة لها، ويُحَذِّر كذلك من أن ينسب أحدٌ شيئًا إلى الله سبحانه عن غير علم:
{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى[2] * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}[النجم: 19-23].
ومع أن الآيات تُهين آلهة قريش، وتحقر من شأنها، فإن المشركين لم ينبثُوا بكلمة واحدة؛ بل ظلُّوا يستمعون القرآن مبهورين انبهارًا كاملًا، مع ملاحظة الخطاب المباشر للمشركين في أكثر من آية؛ وذلك مثل قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ}، و{أَلَكُمُ الذَّكَرُ}، و{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ}، فهذه كلها كلمات خطابية لهم، وأسئلة موجَّهة لعقولهم، وعليهم أن يبحثوا عن إجابة عنها.
وتمضي الآيات تكشف عن خبايا المشركين، وتفضحهم أمام أنفسهم، وتوضِّح جريمتهم الشنيعة يوم أشركوا بالله ربِّ العالمين؛ قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى[3] * أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى * أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى}[النجم: 33-41].
ثم أكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءته للسورة وهي تشرح صفة الإله القدير الذي نعبده، كما تُوَضِّح عاقبة الأقوام الذين كذَّبوا قبل أهل مكة؛ قال تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى[4] * وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى[5] * وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ[6] أَهْوَى[7] * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى[8]}[النجم: 42-55].
ولكأني أشعر بالمشركين وهم ينتظرون قارعة أو خسفًا من الله سبحانه، وكأني أراهم وهم مرتعبون من عقاب الله المنتظَر، وقد سمعوا تهديده وتعنيفه لهم، وذِكْرَه الصريح بأن هذا نذير لهم، كما أن الآيات أظهرت عجزهم الفاضح أمام إلهٍ عظيم بيده كلُّ شيء، وقادر على إهلاك أمم عظيمة كانت أشدَّ منهم قوَّة، وأعظم بأسًا.
ثم تسارعت وتيرة الآيات، وعلت النبرة بشدَّة!
قال تعالى: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى * أَزِفَتِ الآزِفَةُ[9] * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ[10] * فَاسْجُدُوا للهِ وَاعْبُدُوا}[النجم: 56-62].
إن الآيات تحثُّهم على الإسراع بكل طاقة ممكنة؛ فليس هناك وقت أيها المشركون! لقد أزفت الآزفة، وقد لا يتوفَّر لكم وقت للتوبة أو الرجعة، فأدركوا أنفسكم! إن جريمتكم هائلة؛ فأنتم أهل اللغة والبلاغة والأدب، وتعلمون أن هذا الحديث جدٌّ لا هزل فيه، صدقٌ لا كذب فيه، حقٌّ لا باطل فيه، فما لكم تضحكون منه، وتسخرون من حامله لكم؛ بينما الأجدر بكم أن تبكوا على حالكم، وأنتم سامدون لاهون معرِضون!
ماذا نفعل؟!
كان هذا هو السؤال الحائر الذي تردَّد في أذهان كل المشركين الحاضرين!
حينها وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد، ويسجد معه المؤمنون، فعلموا أن المخرج الوحيد من نزول عقاب الله الباطش بهم أن يسجدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعلَّ هذا يعصمهم من العذاب، فسجدوا جميعًا في سابقة ليس لها مثيل في التاريخ! وهي أن يسجد الكفار مع المؤمنين في لحظة واحدة مع رسول واحد!
قال ابن عباس رضي الله عنه: «سَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالنَّجْمِ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ»[11].
ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «قَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّجْمَ بِمَكَّةَ فَسَجَدَ فِيهَا وَسَجَدَ مَنْ مَعَهُ، غَيْرَ شَيْخٍ أَخَذَ كفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ، وَقَال: يَكْفِينِي هذَا. فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذلِكَ قُتِلَ كافرًا»[12].
والشيخ المشرك الذي لم يسجد هو أمية بن خلف؛ صرَّح بذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في رواية أخرى فقال: «أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ فِيهَا سَجْدَةٌ: وَالنَّجْمِ، فَسَجَدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَسَجَدَ مَنْ خَلْفَهُ إِلَّا رَجُلًا رَأَيْتُهُ أَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ فَسَجَدَ عَلَيْهِ، فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا، وَهُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ»[13].
أفاق المشركون من صدمتهم، وهم سجود بلا إرادة ولا إيمان؛ وصدق الله إذ يقول: {وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ}[الرعد: 15].
ماذا يفعل المجرمون؟!
لعلهم رجعوا إلى أنفسهم لحظة!
لكنها -للأسف- كانت لحظة عابرة، لا أثر لها في القلب ولا في الجوارح، وكان حالهم كحال قوم إبراهيم عليه الصلاة والسلام عندما أقام الحجة عليهم، ففهموا الحقيقة للحظات قليلة، ثم فرُّوا عنها عامدين؛ قال تعالى: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ}[الأنبياء: 62-65].
قام المشركون من سجودهم أشدَّ كفرًا وعنادًا؛ بل قاموا كذَّابين أفَّاكين يفترون على الله ورسوله الكذب، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عند ذكره لأصنامهم اللات والعزى ومناة مدحًا لها فقال: «إنهن الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى»!
تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا، وتنزَّه رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم عمَّا أراده المشركون تنزيهًا عظيمًا.
لقد كانت فرية سخيفة قالوها ليُبَرِّرُوا لأنفسهم -ولمَنْ لم يحضر المشهد المهيب معهم- سرَّ سجودهم مع محمد صلى الله عليه وسلم.
وللأسف فإننا نجد أن بعض المصادر الإسلامية قد تسرَّبت إليها مثل هذه الافتراءات؛ فذكرت أحاديث واهية السند تُشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال مثل هذه الكلمات المفتراة! وأن الشيطان هو الذي ألقى هذه الكلمات على لسانه دون أن يدري، وأنه صلى الله عليه وسلم تأسَّف لذلك وحزن!
أهذا كله يُقال عن المعصوم صلى الله عليه وسلم؟!
إنها روايات كلها واهية تحكي افتراءات لا أصل لها، ولا يمكن الاعتماد عليها لا سندًا ولا متنًا، وهي تنافي عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتنافي حفظ القرآن الكريم، وتنافي عدم تسلُّط الشيطان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنافي أصولًا في العقيدة، وثوابت في الدين، كما تنافي العقل والمنطق، وسياق القرآن الذي يذمُّ الشرك وأهله، كما أن المؤمنين السامعين للآيات نفسها لم يلحظوا أي أمر غريب، وليس من المعقول أن يسجد المؤمنون لآيات تمدح الأصنام دون أن يسأل أحدهم -على الأقل- عن معنى هذه الآيات!
إن المجال لا يتسع هنا لنقض هذه الروايات والردِّ عليها؛ ولكن سخَّر الله سبحانه علماء كثيرين فنَّدوا هذه الروايات، وأظهروا الحقَّ من الباطل، فليُرجع إليها في مواطنها[14].
وتأكيدًا لكون الأمر فرية لا أصل لها فإنَّ المشركين لم يستغلُّوا هذه الآيات المزعومة أيَّ استغلال، ولم يُواجهوا بها المسلمين في مناظرة ولا محاورة؛ إنما غاية الأمر أنهم حاولوا أن يخرجوا من سجودهم اللا إرادي بهذه الفرية.
كان سجود المشركين بهذه الصورة الجماعية نورًا عظيمًا باهرًا من أنوار العام العاشر من البعثة؛ رفع معنويات المسلمين، ودعَّم موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحرج المشركين إحراجًا بالغًا، وعَرَّف بالإسلام والقرآن أعظم تعريف، ولا شكَّ أن كل ذلك أورث سعادة في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فلله الحمد والمنَّة.
ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ
[1] قال الطبري: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (ذُو مِرَّةٍ) فقال بعضهم: معناه: ذو خَلْق حسن... وقال آخرون: بل معنى ذلك: ذو قوَّة... وأولى القولين في ذلك بالصواب قول مَنْ قال: عنى بالمرَّة: صحة الجسم وسلامته من الآفات والعاهات... ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ». انظر: الطبري: جامع البيان 22/499، 500، والحديث رواه أبو داود: كتاب الزكاة، باب مَنْ يُعطى من الصدقة وحدِّ الغنى (1634)، والترمذي (652)، وقال: حديث حسن. والنسائي (2378)، وابن ماجه (1839)، وأحمد (6530)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده قوي رجاله ثقات رجال الشيخين.
[2] ضِيزَى: قال الماوردي: فيه أربعة أقاويل: أحدها: قسمة عوجاء، قاله مجاهد. الثاني: قسمة جائرة، قاله قتادة. الثالث: قسمة منقوصة، قاله سفيان وأكثر أهل اللغة... الرابع: قسمة مخالفة، قاله ابن زيد. انظر: الماوردي: النكت والعيون 5/399، وقال الطاهر ابن عاشور: وضيزى: من ضازه حقه، إذا نقصه. التحرير والتنوير 27/106.
[3] وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى: قال الماوردي: فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه أعطى قليلًا من نفسه بالاستمتاع ثم أكدى بالانقطاع، قاله مجاهد. الثاني: أطاع قليلًا ثم عصى، قاله ابن عباس ب. الثالث: أعطى قليلًا من ماله ثم منع، قاله الضحاك. الرابع: أعطى بلسانه وأكدى بقلبه، قاله مقاتل. وفي أَكْدَى وجهان: أحدهما: قطع، قاله الأخفش. الثاني: منع، قاله قطرب. انظر: الماوردي: النكت والعيون 5/402، 403.
[4] قال ابن عاشور: ويظهر أن معنى أقنى ضد معنى أغنى... ولذلك فسَّره ابن زيد والأخفش وسليمان التميمي بمعنى أرضى. وعن مجاهد وقتادة والحسن: أقنى: أخدم، فيكون مشتقًّا من القن وهو العبد أو المولود في الرقِّ؛ فيكون زيادة على الإغناء. وقيل: أقنى: أعطى القنية، وهذا زيادة في الغنى. وعن ابن عباس: أقنى: أرضى؛ أي أرضى الذي أغناه بما أعطاه؛ أي أغناه حتى أرضاه فيكون زيادة في الامتنان. انظر: الطاهر ابن عاشور: التحرير والتنوير 27/149.
[5] قال الطاهر ابن عاشور: الشعرى: اسم نجم من نجوم برج الجوزاء شديد الضياء. انظر: التحرير والتنوير 27/150.
[6] المؤتفكة من الائتفاك وهو الانقلاب، وقال القرطبي: والمؤتفكة أهوى: يعني مدائن قوم لوط عليه السلام ائتفكت بهم، أي انقلبت وصار عاليها سافلها؛ يقال: أفكته أي قلبته وصرفته. انظر: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 17/120.
[7] أهوى: أي خسف بهم بعد رفعها إلى السماء، رفعها جبريل ثم أهوى بها إلى الأرض. انظر: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 17/120.
[8] تتمارى: أي تَتَشَكَّك من التماري: التشكُّك، قال الماوردي: وَهَذَا خِطَابٌ لِلْمُكَذِّبِ؛ أَيْ فَبِأَيِ نِعَمِ رَبِّكَ تَشُكُّ. الماوردي: النكت والعيون 5/ 406، وقال الطاهر ابن عاشور: فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ يُشَكِّكُونَكَ. وَهَذَا يُنْظَرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى}[النجم: 12]، أَيْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُشَكِّكُوكَ فِي حُصُولِ آلَاءِ رَبِّكَ. انظر: التحرير والتنوير 27/157.
[9] أزف: اقترب، ودنا، والآزفة القيامة لقربها، وإن استبعد الناس مداها. ابن منظور: لسان العرب، 9/4.
[10] سمد: علا، وقيل: تكبَّر. وقيل: غنَّى. قال ثعلب: وهي قليلة. وسمده: ألهاه، ابن منظور: لسان العرب 3/219، وقال الماوردي: فيه تسعة تأويلات: أحدها: شامخون كما يخطر البعير شامخًا، قاله ابن عباس رضي الله عنه. الثاني: غافلون، قاله قتادة. الثالث: معرضون، قاله مجاهد. الرابع: مستكبرون، قاله السدي. الخامس: لاهون لاعبون، قاله عكرمة. السادس: هو الغناء، كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا، وهي لغة حمير، قاله أبو عبيدة. السابع: أن يجلسوا غير مُصلِّين ولا منتظرين قاله علي رضي الله عنه. الثامن: واقفون للصلاة قبل وقوف الإمام، قاله الحسن، وفيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج والناس ينتظرونه قيامًا فقال: «مَا لِي أَرَاكُمْ سَامِدِينَ». التاسع: خامدون، قاله المبرد. انظر: الماوردي: النكت والعيون 5/407.
[11] البخاري: كتاب التفسير، سورة والنجم، (4581)، والترمذي (575).
[12] البخاري: أبواب سجود القرآن، باب ما جاء في سجود القرآن وسنتها، (1017)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب سجود التلاوة، (576).
[13] البخاري: كتاب التفسير، سورة والنجم، (4582).
[14] الألباني: نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق، وصالح أحمد الشامي: الغرانيق قصة دخيلة على السيرة النبوية، وابن العربي: أحكام القرآن 3/303-308، والقاضي عياض: الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2/288-310، وابن كثير: تفسير القرآن العظيم 5/441-444، والشوكاني: فتح القدير 3/546- 549، والألوسي: روح المعاني 9/167- 177.
د.راغب السرجاني