مساعد المدير
الوردة البيضاء
تاريخ التسجيل: February-2013
الدولة: بغداد
الجنس: أنثى
المشاركات: 258,308 المواضيع: 74,490
صوتيات:
23
سوالف عراقية:
0
مزاجي: الحمدلله على كل حال
المهنة: معلمة
أكلتي المفضلة: دولمه - سمك
موبايلي: SAMSUNG
آخر نشاط: منذ 21 دقيقة
نتمسك بآرائنا رغم تعارضها مع الحقائق.. علم النفس يفسر لك لماذا فاز ترامب برئاسة أميرك
“بمجرد أن يتكون لديك انطباع معين، يظل صامداً”.. هذه هي النتيجة التي توصل لها علماء النفس على مر عقود لتفسير السبب وراء إصرار الكثير على عدم تغيير آرائهم حتى وإن كانت الحقائق عكس هذه الآراء.
ليس هذا فحسب، بل لاحظ العلماء أن طبيعة العقل البشري لا تتوافق مع عملية توليد الأفكار السليمة، بل يميل العقل لحماية نفسه من الأخطار المحيطة به، الآخرين.
تطور المنطق على مر عمر الإنسان لم يكن من أجل الوصول إلى حل للمشكلات المجردة، لكنه تتطور بغرض مساعدتنا على حل المشكلات الناجمة عن العيش في جماعة. بعبارة أخرى فالمنطق وجد كي يساعدك على نقد الآخرين وتثبيت آرائك الشخصية، وليس بغرض الوصول للحقيقة بحسب تقرير لمجلة “نيويوركر“ الأميركية.
الناس لا يفكرون بشكل سليم
عام 1975، دعا باحثون في جامعة ستانفورد مجموعةً من الطلاب للاشتراك في دراسةٍ عن الانتحار. قدم الباحثون للطلاب أزواجاً من رسائل الانتحار، في كل زوجٍ منها، رسالةٌ غير حقيقية كتبها شخصٌ زائف، ورسالةٌ أخرى كتبها شخصٌ أنهى حياته بعدها، وطلب الباحثون من الطلاب أن يُميزوا بين الرسائل الحقيقية والزائفة.
اكتشف بعض الطلاب أنَّهم عباقرة في أداء تلك المهمة، إذ استطاعوا تمييز الرسائل الصحيحة 24 مرة من بين 25 زوجاً من الرسائل. بينما اكتشف آخرون أنَّهم ميئوسٌ منهم، إذ لم يُميزوا الرسائل الصحيحة إلا 10 مرات.
وكما هو الحال في الدراسات النفسية، كان تصميم الاختبار خادعاً. فرغم أنَّ نصف الرسائل كانت حقيقية بالفعل، حصل عليها الباحثون من مكتب الطب الشرعي في مقاطعة لوس أنجلوس، كانت النتائج زائفة.
فالطلاب، الذين أُخبروا بأنهم قد ميزوا الرسائل الصحيحة في كل المرات تقريباً، لم يكونوا، في المتوسط، أكثر فطنةً من الطلاب الذين أُخبِرُوا بأنَّ معظم إجاباتهم كانت خاطئةً.
وفي المرحلة الثانية من الدراسة، كُشف الستار عن الخدعة. إذ أخبر الباحثون الطلاب بأنَّ الهدف الحقيقي من التجربة كان قياس استجاباتهم حين ظنوا أنَّهم كانوا مُحقين أو مُخطئين (ثم تبيَّن لاحقاً أن هذا الجزء أيضاً كان خدعة).
وفي النهاية، طُلِبَ من الطلاب أن يُقدِّروا العدد الفعلي للرسائل الصحيحة التي استطاعوا تمييزها، وعدد الرسائل التي يظنون أنَّ الطالب المتوسط قادرٌ على تمييزه. وعند تلك النقطة، حدث شيءٌ غريب. إذ قال الطلاب الذين كانوا في مجموعة “النتيجة العالية” إنَّهم يظنون أنَّهم قد أبلوا بالفعل بلاءً حسناً، أحسن بكثير من الطالب المتوسط، وذلك رُغمَ أنَّهم قد أُخبِرُوا لِتَوِّهم بأنَّه ليس لديهم أي سببٍ لتصديق هذا. وبالعكس، قال الطلاب الذين كانوا في مجموعة “النتيجة المنخفضة” إنهم يظنون أنَّ أداءهم كان أسوأ من أداء الطالب المتوسط، وهو اعتقادٌ خاطئ مثله مثل اعتقاد المجموعة السابقة.
وهذا ما توصل إليه الباحثون: “بمُجرد أن تتكون الانطباعات، تظل صامدةً على نحوٍ لافت للنظر.”
بعدها بسنوات قليلة، جمع الباحثون في ستانفورد مجموعةً جديدة من الطلاب من أجل دراسةٍ مُتصلة بالدراسة السابقة. أعطى الباحثون الطلاب رُزماً صغيرة من المعلومات عن رَجُلَي إطفاء: فرانك وجورج.
ذكرت سيرة حياة فرانك معلوماتٍ مختلفة، منها أنَّه كانت لديه ابنة صغيرة، وأنَّه كان يُحب ممارسة رياضة الغوص. بينما كان لدى جورج ولدٌ صغير، وكان يمارس رياضة الغولف.
واحتوت الرُزم أيضاً استجابتَي الرجلين للاختبار الذي سماه الباحثون “اختبار الاختيار بين المخاطرة والحذر”.
وفقاً لإحدى نسخ رزم المعلومات، كان فرانك رجل إطفاء ناجحاً، وفي الاختبار، كان يختار الاختيار الآمن كل مرةٍ تقريباً. وفي نسخةٍ أخرى، كان فرانك يختار الاختيار الآمن، لكنَّه كان رجل إطفاء فاشل، عاقبه مشرفوه في العمل عدة مرات.
ومثل الدراسة السابقة، عند منتصف الدراسة، أُخبر الطلاب بأنهم قد ضُللوا، وبأنَّ المعلومات التي استلموها كانت زائفةً تماماً، ثم طُلب من الطلاب أن يَصِفوا معتقداتهم الخاصة. ما هو أسلوب التعامل مع المخاطر الذي يظنون أنَّ رجل الإطفاء يتبعه؟ رأى الطلاب الذين استلموا المجموعة الأولى من المعلومات أنَّ رجل الإطفاء الناجح سيتجنب المخاطرة، ورأى الطلاب في المجموعة الثانية أنَّه سيبادر بها.
وقال الباحثون إنَّهم لاحظوا أنَّه حتى بعدما “يُدحض الدليل على ما يعتقده الناس دحضاً تاماً، يفشل الناس في تنقيح تلك المعتقدات تنقيحاً مناسباً”. في تلك الحالة، كان الفشل “مثيراً للدهشة بشكلٍ كبير”، لأنَّ بيانات شخصين فقط لا يمكن أن تكون أبداً مصدر معلومات كافي لتعميم مثل تلك الاستنتاجات.
اشتهرت دراسات ستانفورد، ففي السبعينيات، كان أمراً صادماً أن يقول مجموعةٌ من الأكاديميين إنَّ الناس لا يمكنهم التفكير بشكلٍ سليم. لكنَّه لم يعُد كذلك، فقد أكدت آلاف التجارب اللاحقة هذه النتيجة، وشرحتها بالتفصيل.
وكما يعلم أي شخص يتابع تلك الأبحاث، أو حتى يقرأ مجلة “Psychology Today” من آنٍ لآخر، يستطيع أي خرِّيج لديه لوح كتابة أن يُبرهن على أنَّ الناس الذين يَبدون عقلانيين، غالباً ما يكونون غير عقلانيين تماماً. ولم يكن هذا الإدراك يوماً أكثر أهمية مما هو الآن. ولكن، ما زال هناك لغزٌ جوهري: كيف صرنا هكذا؟
تطور المنطق والانحياز التأكيدي
في كتابٍ جديد صادر عن جامعة هارفارد بعنوان “The Enigma of Reason” أو “لُغز المنطق”، يحاول عالِما الإدراك، هيوغو ميرسير ودان سبيربر، الإجابة على هذا السؤال.
ميرسير، الذي يعمل في معهد البحوث الفرنسي في ليون، وسبيربر، الذي يعمل الآن في الجامعة الأوروبية المركزية ببودابست، يشيران إلى أنَّ المنطق سمةٌ متطورة مثل السير على رجلين، أو الرؤية ثلاثية الألوان، انبثقت تلك السمة في غابات السافانا في أفريقيا، ويجب أن تُفهم في هذا السياق.
الحُجة التي يستخدمها العالمان متجردة من الصفات التي يُمكن تسميتها بصفات “علم الإدراك”، وهي تقريباً كالتالي: أكبر ميزة يتفوق بها البشر على الأنواع الأخرى هي القدرة على التعاون. التعاون يصعب تأسيسه، والحفاظ عليه تقريباً على القدر ذاته من الصعوبة.
بالنسبة لكل فرد على حدة، يُعدُّ الاستغلال الأناني للموارد هو الأسلوب الأفضل. ولم يتطور المنطق لكي يُمكِّننا من حل المشكلات المنطقية المُجردة، ولا حتى كي يساعدنا على استخلاص النتائج من بياناتٍ غير مألوفة، وإنما لكي يحل المشكلات التي تُطرح جرّاء العيش في جماعاتٍ تعاونية.
ويقول ميرسير وسبيربر في الكتاب: “المنطق هو مجرد محاولة للتكيُّف مع الحالة الاجتماعية الفائقة التي طوَّرها البشر لأنفسهم”. فالعادات العقلية، التي قد تبدو غريبة، أو بلهاء، أو غبية تماماً من وجهة نظر “عقلانية”، تُثبت أنها في غاية الذكاء، حين يُنظر إليها من وجهة نظر “تفاعلية”.
تأمَّل الظاهرة التي صارت تُعرف باسم “الانحياز التأكيدي”، وهي نزعة البشر إلى تبنِّي المعلومات التي تدعم معتقداتهم، ورفْض المعلومات التي تُناقضها. يُعدُّ الانحياز التأكيدي من أبرز أشكال التفكير الخاطئ التي تم التعرف عليها، وهو موضوعٌ أُجريت من أجله تجارب تكفي لملء كتب كاملة.
أُجريت إحدى أشهر تلك التجارب في ستانفورد، مُجدداً. وفي هذه التجربة، جمع الباحثون مجموعةً من الطلاب الذين كان لديهم آراءٌ متعارضة حول عقوبة الإعدام. كان نصف الطلاب يؤيدون العقوبة، ويرون أنَّها تردع الجريمة، بينما كان النصف الآخر ضدها، ويرون أنَّها لا تؤثر على معدلات الجريمة.
طُلب من الطلاب أن يرُدُّوا على نتائج دراستين، قدمت واحدة منهما بياناتٍ تُؤيد الحُجة القائلة بأنَّ الإعدام يمنع الجريمة، وقدمت الثانية بياناتٍ تُشكِّك في ذلك. وكانت الدراستان، كما خمَّنْتَ بالتأكيد، مُختَلَقتَين، إذ صممهما الباحثون ليعرضا مجموعتين من الإحصائيات مُقنِعتين بالقدر ذاته بشكلٍ موضوعي.
اعتبر الطلاب، الذين كانوا أساساً يدعمون عقوبة الإعدام، أنَّ البيانات القائلة بأنَّ الإعدام يردع الجريمة معقولة، واعتبروا البيانات التي تؤيد الحُجة المضادة غير مُقنعة. بينما فعل العكسَ الطلابُ الذين كانوا أساساً يرفضون عقوبة الإعدام. وفي نهاية التجربة، سُئل الطلاب مرة ثانية عن آرائهم. وتبيَّن أنَّ الذين أيدوا منذ البداية عقوبة الإعدام صاروا أكثر تأييداً لها، بينما صار الذين رفضوها أكثر رفضاً لها.
لو كان العقل مُصمماً ليُوَلِّد أحكاماً سليمة، فمن الصعب أن نتصور خطأً تصميمياً أكثر فداحةً من الانحياز التأكيدي. ويقول ميرسير وسبيربر: تخيل فأراً يفكر بالطريقة التي نفكر بها. هذا الفأر، “المُصمِّم على تأكيد اعتقاده بعدم وجود قطط في الجوار”، سيصير عشاءً على الفور.
ولأن الانحياز التأكيدي يؤدي بالبشر لصرف النظر عن أدلة وجود تهديداتٍ جديدة، أو تهديداتٍ لم تُقدَّر حق قدرها، وهي المُعادِل البشري للقطة الموجودة في الجوار بالنسبة للفأر، لهذا فهو سِمةٌ كان ينبغي للتطور نبذها. لكنَّ ميرسير وسبيربر يجادلان بأنَّ حقيقة بقائنا وبقائها تُثبت أنَّها لابد أنَّ لها وظيفة تكيُّفية، ويرى العالمان أنَّ تلك الوظيفة لها علاقة بـ”اجتماعيتنا الفائقة”.
ويُفضل ميرسير وسبيربر استخدام مصطلح “الانحياز إلى جِهَتِي”. ويشيرون إلى أنَّ البشر ليسوا سُذَّج بشكل عشوائي. فحين تُعرَض علينا حُجة شخص آخر، نكون ماهرين للغاية في اكتشاف نقاط الضعف فيها. وبشكلٍ ثابت تقريباً، فإنَّ الآراء التي لا نرى عيوبها، هي آراؤنا الخاصة.
وقد أجرى ميرسير مؤخراً، مع بعض زملائه الأوروبيين، تجربةً تُظهر هذا التباين بدقة. في البداية، طُلب من المشاركين أن يجيبوا على سلسلةٍ من مسائل المنطق البسيطة. ثم طُلب منهم أن يشرحوا إجاباتهم، ومُنحوا الفرصة لتعديلها إذا اكتشفوا أخطاءً بها. وكانت الأغلبية راضيةً بالإجابات الأولية، وكانت نسبة الذين غيروا رأيهم في الخطوة الثانية أقل من 15%.
وفي الخطوة الثالثة، عرض الباحثون على كل مشارك واحدة من المسائل ذاتها، ومعها إجابته وإجابة مشارك آخر توصَّل إلى نتيجةٍ مختلفة. ثُم مُنحوا مجدداً الفرصة لتغيير إجاباتهم. لكن كانت هناك خدعة: إذ كانت الإجابات التي قُدِّمَت لهم بصفتها إجابات شخصٍ آخر، في الحقيقة إجاباتهم الخاصة، والعكس بالعكس. واكتشف حوالي نصف المشاركين ما حدث، ولكن في النصف الآخر، صار الناس فجأة أكثر انتقادية. ورفض حوالي 60% الإجابات التي كانوا راضين عنها سابقاً.
وفقاً لميرسير وسبيربر، يُظهر عدم التوازن هذا المهمة التي تطور العقل ليؤديها، وهي حمايتنا من أذى الأفراد الآخرين داخل الجماعة. فقد كان أسلافنا، الذين عاشوا في جماعاتٍ صغيرة من الصيادين وجامِعي الطعام، يهتمون في المقام الأول بمكانتهم الاجتماعية، وبالتأكُّد من أنَّهم ليسوا الذين يخاطرون بحيواتهم في الصيد، بينما يقبع الآخرون في الكهف. وكانت هناك ميزةٌ صغيرة في التفكير بعقلانية، في الوقت الذي كان للانتصار في الجدال فيه مكاسب كثيرة.
كانت هناك قضايا كثيرة للغاية لم يقلق أسلافنا بشأنها، من ضمنها ردع عقوبة الإعدام للجريمة، والصفات المثالية لرجل الإطفاء. ولم يُضطروا أيضاً لأن يتعاملوا مع دراساتٍ مُلفقة، أو أنباءٍ كاذبة، أو تويتر. فلا عجب إذاً من أنَّ العقل غالباً ما يخذلنا اليوم. ويقول ميرسير وسبيربر في الكتاب: “هذه إحدى الحالات الكثيرة التي تغيَّرت فيها البيئة تغيُّراً أسرع من أن يقدر الانتخاب الطبيعي على اللحاق بها”.
المراحيض لتأكيد جهل البشر
ستيفن سلومان، الأستاذ في جامعة براون، وفيليب فيرنباخ، الأستاذ في جامعة كولورادو، هما أيضاً عالما إدراك. وهما أيضاً يؤمنان بأنَّ النزعة للاختلاط بالآخرين هي المفتاح لمعرفة كيف يعمل العقل البشري، أو بالأحرى، كيف يتعطل عن العمل. وكتابهما، الصادر عن دار نشر “ريفرهيد” بعنوان: “The Knowledge Illusion: Why We Never Think Alone” أو “وَهْمُ المعرفة: لمَ لا نُفكر وحدنا أبداً”، يبدأ بالنظر إلى المراحيض.
تُعدُّ فكرة المراحيض مألوفةً لدى كل شخصٍ تقريباً في الولايات المتحدة، وفي كل الأماكن المتطورة في العالم. المرحاض النموذجي به تجويف سيراميكي مملوء بالمياه. وحين تُخفَض اليد، أو يُضغَط على الزر، تُشفط المياه وكل ما فيها داخل ماسورة، ومن هناك تذهب إلى نظام الصرف. لكن كيف يحدث هذا فعلاً؟
في دراسةٍ أجريت بجامعة ييل، طُلب من طُلّابٍ خرّيجين أن يقيّموا فهمهم لبعض الأدوات التي يستخدموها في حياتهم اليومية، وكان من بينها المراحيض، والسحّابات، والأقفال الأسطوانية. وطُلب منهم كتابة شرح مفصّل خطوةً بخطوة لكيفية عمل تلك الأدوات، ثم تقييم فهمهم لها مجدداً. واتّضح أنّ الدراسة كشفت للطلاب جهلهم، لأن تقييمهم لمدى فهمهم لطرق عمل هذه الأدوات انخفض في المرة الثانية (اتّضح أن طريقة عمل المراحيض أعقد مما يبدو عليها).
لاحظ سلومان وفيرناباخ تواجد هذا التأثير في كُل مكانٍ تقريباً، وأطلقوا عليه اسم “ illusion of explanatory depth” أو “وهم العُمق الاستكشافي”. يظن الناس أنّهم يعرفون أكثر بكثير مما يعرفونه فعلياً. وما يسمح لنا بالتمسّك بهذا الوهم همّ الأشخاص الآخرون.
وفي حالة المرحاض، صمّمه شخصٌ ما ببراعة جعلت استخدامه سهلاً بالنسبة لي، وهو شيءٌ يجيده البشر كثيراً. فنحن اعتمدنا كبشر على خبرة أشخاص آخرين منذ توصّلنا لكيفية الصيد في مجموعات، وهو ما كان نقطةً أساسية في تاريخ التطوّر البشري على الأرجح. ويرى سلومان وفيرنباخ أنّ التعاون الإنساني بلغ الحد الذي لا نميّز فيه أين ينتهي فهمنا الشخصي ويبدأ فهم الآخرين.
وقالا إنَّ “أحد توابع السلوك الغريزي لتقسِمة الجهد المعرفي بيننا”، هوَ عدم وجود “حدود واضحة بين أفكار ومعرفة شخص ما” وبين أفكار ومعارف الأشخاص الآخرين في المجموعة.
يلعب هذا الغياب للحدود، أو “الارتباك” إن فضّلت أن تسمّيه هكذا، دوراً حاسماً في التقدّم الإنساني. فعندما تُخترع أدوات جديدة لأساليب جديدة للحياة، يخلق هذا مساحاتٍ جديدة من الجهل. وفي المقابل، على سبيل المثال، إذا صمّم كُل شخص على إتقان أساسيات تشكيل المعادن قبل أن يحمل سكيناً، لم يكن العصر البرونزي ليقدّم لنا كل ما قدمه. فعندما يتعلّق الأمر بالتقنيات الجديدة، يمنحنا الفهم غير الكامل القوة والتمكين، وليس العكس.
السياسة تختلف
ولكن، طبقاً لسلومان وفيرنباخ، فإنَّ هذا السلوك يوقعنا في المشاكل عندما يتعلّق الأمر بالمجال السياسي. فاستخدام المرحاض بدون معرفة كيفية عمله يختلف بشكلٍ جذري عن تأييد (أو معارضة) حظر دخول المهاجرين إلى بلدي بدون فهم الأمر بشكلٍ كامل.
ويشير سلومان وفيرنباخ لاستطلاعٍ أُجري عام 2014، بعد فترةٍ وجيزة من استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم الأوكرانية. سُئل المشاركون في الاستطلاع كيف يجب أنّ يكون رد فعل الولايات المتحدة على الأمر، وطًلِب منهم أيضاً تحديد موقع أوكرانيا على الخريطة.
الاستطلاع أظهر أنه كُلما كانت إجابات المشاركين عن موقع أوكرانيا الجغرافي أبعد عن الصواب، كلما كانوا مؤيدين للتدخّل العسكري من قبل أميركا (كان المجيبون غير متأكدين من موقع أوكرانيا بالضبط لدرجة أنّ متوسّط تخميناتهم كان يبعد بـ1800 ميل عن الموقع الحقيقي، وهي المسافة بين مدينتي كييف ومدريد تقريباً).
وأسفرت الاستطلاعات بشأن قضايا أخرى عن نتائج مفزعة مشابهة. وكتب سلومان وفيرنباخ عن ذلك: “كقاعدةٍ عامةً، لا تنبع المشاعر القوية تجاه تلك القضايا من فهمٍ عميق لها”. وهنا تتفاقم المشكلة عند اعتمادنا على عقول الآخرين.
كيف وصلنا إلى ترامب؟
فمثلاً إذا كان رأيك تجاه “قانون الرعاية الصحية بأسعارٍ معقولة” (القانون الذي أقره أوباما لحل مشكلة الرعاية الصحية) بلا أساس، وأنا بدوري أعتمد على رأيك، إذن رأيي أنا الآخر يصبح بلا أساس. وإذا تحدّثتُ مع شخصٌ آخر، وقرّر أنَّه يتفق مع رأيي، فرأيه هو أيضاً يكون بلا أساس، لكنّنا الآن أصبحنا مُعتدِّين أكثر برأينا لأن ثلاثتنا اتفقوا على رأيٍ واحد. وإذا قررنا عندئذٍ تجاهل أي معلومةٍ تناقض رأينا هذا باعتبارها غير مقنعة، تكون النتيجة: إدارة ترامب.
ويقول سلومان وفيرنباخ: “هكذا يمكن لمجتمع المعرفة أن يصبح خطيراً”. وأجري كلاهما نسخةً خاصة بهما من تجربة المرحاض، واستبدلا السياسة العامة بالأدوات المنزلية. وفي دراسةٍ أجريت عام 2012، سأل سلومان وفيرنباخ المشاركين عن مواقفهم تجاه أسئلةٍ مثل: هل تؤيد تأسيس نظام الدفع الحكومي للرعاية الصحية؟ أو تحديد أجور المعلّمين وفقاً لجودة لأدائهم؟ وطُلب منهم تقييم مواقفهم على حسب مدى اتفاقهم مع القضايا المقترحة أو معارضتهم لها. وكانت الخطوة التالية أن طُلب منهم إعطاء وصفٍ دقيق قدر الإمكان لتبعات تنفيذها فعلياً. وهنا واجه معظم الناس بعض المشاكل. وعندما طُلب منهم إعادة تقييم آرائهم، أعطى المشاركون تقييماً أقل حدة من التقييم السابق، وأصبح اتفاقهم أو اختلافهم مع القضايا المطروحة أقل عنفاً مما كان.
يرى الباحثان أنّ نتائج تلك التجربة تُعَدُ شمعةً صغيرة متقدة في عالمٍ مظلم. فإذا قضينا نحنُ، أو أصدقاؤنا، أو خبراء شبكة “سي إن إن” وقتاً أقل في إلقاء المواعظ وأكثر في التفكير بعواقب السياسات المقترحة، سندرك أخيراً أننا لا نعي شيئاً، وسنتجه إلى الاعتدال في آرائنا. وكتب الباحثان: “هذا قد يكون أسلوب التفكير الوحيد القادر على تحطيم وهم العمق الاستكشافي وتغيير مواقف الناس تجاه آرائهم”.
يمكن النظر للعلم بصفته نظام يُقوِّم الميل الطبيعي للأفراد. ففي بيئةٍ معملية صحيحة، لا يوجد مجال للتحيّز الفردي، ويجب أن تكون التجربة ذاتها قابلة للتكرار بنفس النتائج في المعامل الأخرى، وعلى يد باحثين ليس لديهم دوافع أخرى للتصديق عليها. وهذا ما يجعل منهجية الاكتشاف العلمي ناجحة إلى حدٍ ما. وفي أيّ وقت، قد تسيطر الخلافات على مجالٍ ما، لكن الكلمة الأخيرة دائماً ما تكون للمنهجية العلمية. فالعلم يتقدم للأمام، حتى إن كنا نحن عالقين في أماكننا.
وفي كتابهما “Denying to the Grave: Why We Ignore the Facts That Will Save Us” أو “إنكار الخطر: لماذا نتجاهل الحقائق التي يمكنها إنقاذنا” (التابع لدار نشر أوكسفورد)، يبحث الطبيب النفسي جاك غورمان، وابنته أخصائية الصحة العامة سارا غورمان، عن الفرق بين ما يقوله لنا العلم وبين ما نقوله نحن لأنفسنا. ويهتمّ الكتاب بالمعتقدات الراسخة، والتي ليست فقط خاطئةً بوضوح، لكنها أيضاً تفتك بنا، مثل اعتقاد أن اللقاحات والأمصال خطِرة. فبالطبع، الشيء الخطير هو ألّا تتلقى اللقاح، إذ ستنتشر الأمراض، وهذا هو ما جعل البشر يصنعون اللقاحات بالأساس.وكما يقول غورمان وابنته: “يُعَد التطعيم أحد انتصارات الطب الحديث”. لكن مهما بلغ عدد الدراسات العلمية التي تؤكّد أن اللقاحات آمنة، وأنّه لا توجد صلة بينها وبين التوحُّد مثلاً، لا يتزحزح مناهضو اللقاح عن موقفهم. (ويمكنهم الآن اعتبار دونالد ترامب في صفّهم نوعاً ما، فقد قال، رغم أنّ ابنه بارون حصل على التلقيح، إنّه وزوجته رفضا أن يتبّعا في ذلك الجدول الزمني الذي نصح به أطباء الأطفال).
ويرى غورمان وسارة أنَّ طرق التفكير هذه التي تبدو الآن مدمّرةً قد كانت في مرحلةٍ ما وسيلةً للتكيُّف. وخصصا الكثير من صفحات الكتاب لمناقشة “الانحياز التأكيدي”، والذي يزعمان أنَّ له بُعداً فسيولوجياً، ويشيران إلى بحثٍ يقترح أنَّ الناس يشعرون بلذّةٍ حقيقية، إفرازِ لهرمون الدوبامين في المخ، عندما يحللون المعلومات التي تدعم معتقداتهم. ويقولان: “يعطينا التمسّك بمعتقداتنا والأدلة عليها شعوراً جيداً، حتى وإن كنَّا مخطئين”.
لا يريد جاك وسارة غورمان تصنيف أخطائنا وفهمها فحسب، بل يريدان تصحيحها أيضاً. ويقولان إنَّه بالتأكيد توجد طريقة لإقناع الناس أنّ اللقاح جيّد لصحة الأطفال، وأن المسدّسات خطِرة. (من المعتقدات التي يريدان إثبات عدم صحتها أيضاً هو الاعتقاد الشائع وغير المدعوم بالإحصائيات أنّ امتلاك مسدس سيجعلك آمناً بشكلٍ أكبر). ولكنَّهما أيضاً في محاولتهما تلك يواجهان تلك المشكلات التي ذكراها في كتابهما. فتقديم المعلومات الدقيقة للبشر غير مفيد على ما يبدو، لأن الناس يتغاضون عن تلك الحقائق ببساطة. وقد تحقّق مخاطبة مشاعرهم نتائجاً أفضل، لكن هذا ينطوي على تناقضٍ واضح مع هدف نشر المنهجية العلمية السليمة. وكتبا في نهاية الكتاب: “يبقى التحدّي ماثلاً في كيفية التطرّق للميول التي تدفع بأصحابها لاعتناق المعتقدات العلمية الخاطئة”.
أُلّفت كُل هذه الكتب: “لغز المنطق”، و”وهم المعرفة”، و”إنكار الخطر” قبل انتخابات الرئاسة الأميركية في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، لكنَّها استطاعت مع ذلك توقّع ظهور مستشارة ترامب كيليان كونواي، ومصطلح “الحقائق البديلة”. وفي الآونة الأخيرة، يبدو الأمر كما لو أنّ البلاد بأكملها تخضع لتجربة سيكولوجية يديرها إما ستيف بانون، كبير مساعدي ترامب، أو لا يديرها أحد على الإطلاق. وقد يجد الأفراد العقلانيون في هذه التجربة طريقةً للتفكير في حلٍ للوضع الراهن. لكن ما توصل إليه العلم بخصوص هذه المسألة حتى الآن ليس مطمئناً.