كم مرة سمعتم سؤال "من أين أتت قوانين الفيزياء؟" الذي يتخيل من يطرحه أنه أمر عجيب ومفحم؟ إليكم الجواب.
بالمعنى الأشد أساسية، فإن ما ندعوها ”القوانين الطبيعية“ أو ”قوانين الفيزياء“ ليست في الواقع ”قوانين“ بل أوصافا دقيقة للتصرفات والعلاقات التي تلاحظ باتساق في الطبيعة. فحين تتصرف الطبيعة دوما بنحو ما، أو تقدم لنا الأشياء في علاقات معينة متوقعة، نعتبر ذلك ”قانونا“ بأن الكون سيتصرف كذلك دوما. قد نكون مخطئين، ولكن إلى أن يثبت خطأنا، وما دامت لدينا أكوام متراكمة من الأدلة على أن الكون يتصرف بهذا النحو فقط، فيمكننا الثقة في أن الكون لا يتصرف بأي نحو آخر.
.
إن قوانين الفيزياء هي في الواقع تجميع كبير من مختلف أصناف الأشياء، وبعضها أشد أساسية من الآخر. فمثلا، يعد قانونا فيزيائيا أن الماء عند مستوى البحر يغلي عند مئة درجة مئوية. ورغم أن ذلك كان يعد واحدا من الحقائق الصارمة حول العالم، فقد وجد لاحقا أنه نتيجة محتومة لقوانين أخرى أشد أساسية عن الضغط، الكيمياء، وميكانيك الكم، وهي بدورها محددة بحقائق أشد أساسية منها حول الكون، تختزل في النهاية إلى التركيب الفيزيائي للمادة والسلوك الفيزيائي للطاقة.
إن خصائص الماء في الواقع ستكون اليوم قابلة كليا للتوقع حتى لو لم نرى الماء من قبل: لأن كل ما نحتاجه للمعرفة هو تركيب وسلوك كل الجسيمات التي تساهم في تكوين جزيئات الماء، ومن ذلك وحده يمكننا اشتقاق أي سلوكيات قد تستعرضها تلك الجزيئات، كنقطة الغليان وحتى اللون. ورغم أن القيام بهذه الحسابات فعلا قد يتجاوز وقتنا وأذهاننا المحدودة في معظم الأحيان، فإن أمرا ما مثل لون الجزيئة، حين يتقيد بتركيب معين أوسع له هيئة معروفة، قابل للتعريف بالكامل في ضوء التفاعلات الأساسية للجسيمات الدونذرية.
وكل شيء تقريبا، في الواقع، قابل للاختزال إلى ذلك، ولعل كل شيء سيكون كذلك في النهاية: كيف تتصرف الطاقة، والأشكال الفيزيائية المختلفة التي تتخذها. وإلى جانب كيف تؤدي هندسة جزيئة الماء لنقطة غليانه، أو كيف تفسر النسبية الجاذبية استنادا إلى هندسة الزمكان، فإن مثالا أكثر شهرة هو قانون المربع المقلوب (الذي يحكم الجاذبية، المغناطيسية، الاستضاءة، وهكذا) تقود إليه هندسة أي توسع في الأبعاد الأربعة. وحتى الآن، فإن التقدم الحثيث للعلم السابق قد أسس باستمرار ودون فشل للمزيد والمزيد من القوانين والثوابت في العلاقات والخصائص الهندسية للجسيمات الكمية. وهكذا، فيحتمل أن ما يظل دون تفسير (كبعض الثوابت الأساسية مثلا—مثل لماذا تأخذ سرعة الضوء قيمتها هذه) سيمر بنفس الطريق الذي مر به البقية من قبل، وينتهي به الأمر كحقيقة حتمية أخرى من التركيب الهندسي للزمكان. وبالفعل فإن الاستخلاص الأشد معقولية اليوم هو أن كل ما يوجد ويحدث يمكن وصفه بالكامل عبر قوانين الفيزياء، وكل قوانين الفيزياء إنما تصف السلوك المحتوم للجسيمات ضمن مساحة من الزمكان، وهذا السلوك بأكمله ناتج عن الهندسة—بما في ذلك الخصائص الهندسية للجسيمات نفسها، والأبعاد التي تتحرك فيها وتقيم. والأدلة لحد الآن تقودنا لهذا الاتجاه وحده، ولا تدعم أي استنتاج آخر.
.
-- ريتشارد كارير، "العقل والطيبة في عالم طبيعي"
ترجمة : حيدر راشد