مُتظاهرنا أسطوري وبالدليل
لسنا أول شعبٍ يعطي الضحايا في حركته المطلبية، وربما لا نكون أكثرَ شعبٍ قدّم الضحايا في الاحتجاجات السلمية .. لكنا مُتظاهِرَنا لم يتكرر لا في التاريخ ولا الجغرافيا ولا حتى في الخيال ..
في كل جولةٍ من جولات التظاهر في مصر .. كان هناك قوّة عظمى تقف خلف المتظاهرين، في 25 يناير، استنفر ديموقراطيو أميركا كافة كوادرهم لـ"نصرة الثورة" .. في الميدان كان يقف المتظاهر المصري، وخارج الميدان كانت كوادر الديموقراطي تعمل كخلية نحل، هيلاري تصرح وتدعم وتحيي وتهدد .. الجزيرة تنقل .. ومراصد "حقوق الإنسان" الدولية تحصي القتيل والجريح والمخدوش والمركول .. وفي 30 يونيو المضادة .. كان هناك العشرات من وسائل الإعلام المناهضة للإخوان مستنفرة لدعم الثورة والتهيئة لها .. ونُقلت مشاهد الإحتجاج بطائرات الجيش المصري.
وكان الإستنفار أكثر شدةً في كلٍّ من تونس وسوريا التي بقي الإعلام الأخواني والخليجي يضخها بالدماء حتى اللحظة ..وربما تذكرون كيف أن ثورة البحرين هي الأخرى حظيت بدعمٍ واضح من عدة مراكز أوروبية .. بريطانية وألمانية وغيرها .. فضلاً عن الإعلام الإيراني الناطق بالعربية والفارسية والعراقية.
وبهذا لم يكن على المتظاهر في هذه التجارب إلا أن يتواجد في الميدان ليتولى فريقٌ من الداعمين -الدوليين والمحليين- مرحلةَ ما بعدَ التظاهرة.
أما متظاهرنا فهو أسطوري لأنه لم يُحرم من كل هذا الدعم فحسب، بل كان يُحارَب منذ إعلان موعد التظاهرة، مروراً بلحظات تظاهره .. ووصولاً إلى وفاته وما بعد وفاته.
ما إن يُعلَن عن تظاهرةٍ قادمة حتى تبدأ الحرب:
العلمانيون يستنجسون من المتظاهر الذي لم يُثبت صميمية علمانيته، فيعزلون أنفسهم بتنكة خاصة للمدنيين، لأن لا يتلوثوا بدنس الإسلاميين.
المُستلقون لا يكتفون بالإستلقاء بل يحاربون ثقافة الحركة ويفتتحون مواسم التبشير والدعوة للإستلقاء.
تدق ساعة العمل لدى الإعلام الحزبي، ويبدأ التشكيك والتهويل والتخوين.
يخرج المتظاهر من هذا الجو المأزوم ويتحرك باتجاه الميدان، تقطع القوات الأمنية عليه الطرق.
يعود أدراجه .. فيُقال له جبُنتَ
يُكمل اقتحامه فينتفض خراسانيو خامنئي ويشهرون سلاحهم بوجهه
يعلّق التظاهر فيُشتَم
يكمل التظاهر فيُشتَم
يُخنَق بالغاز ويُقتل به .. فيُلعَن على خروجه
يُقتل بالرصاص الحي فيُلام على أن خرق هيبة الدولة واعترض رصاص القانون بصدره المخرّب
يعود في المساء فيجد الذباب الإلكتروني مجتمعاً على جثث ذويه .. وأذكر أني قرأت مرة في صفحة الذواق التابعة للجيش الالكتروني المالكي أن المطالبين بالتكنوقراط كالمنتحرين من أجل حورية، كما قرأت "تحقيقاً استقصائياً!" لزميله وصنفه مازن الزيدي حول توابيت شهداء اقتحام ايار خلُص في حينها إلى أن ستيكراتٍ تعود لسرايا السلام كانت قد أُلصقَت على التوابيت .. وفضحت حقيقة المُوتى!
لم يحدث أن استمرّ حراكٌ يحاربه الجميع، لا ثورة العشرين ولا الثورة العربية الكبرى ولا الانتفاضة كانت بهذه الوحدة الموحشة
ومع ذلك يصمد هذا المتظاهر .. يهتف في الميدان .. ويحاور المُعترضين .. ويواجه الجيوش الالكترونية المتفرغة والممولة لمحاربته .. يصنع إعلامه بنفسه .. ويرفع أعلامَه بنفسه .. ويتلثم بالشماغ ويغتسل بالمياه الغازية بنفسه ..
متظاهر أخطبوط .. يفعل كل شيء وأي شيء وفي ذات الوقت ..
دعوات مقتدى الصدر ليست هي السبب الرئيس خلف تدفق هؤلاء إلى التحرير، فلمقتدى أتباعٌ بالملايين كما لغيره .. ولم يأتِ منهم سوى الآلاف .. شريحةٌ محددة ومميزة هي التي تتظاهر .. مجموعة عنيدة حديدية أسطورية .. تتحدى التاريخ أن يكون قد سجّل مثيلاً لها وبالوقائع لا بالشعارات.
--------------------
بقلم الرائع صبرا ئيل الخالدي