صالة ملحقة بمسجد كبير، وزحام محدود حول جسد يتخبط أرضاً، فيما يجلس شيخ ملتحٍ عند رأسه، ليضغط صدغيه بيمناه، ويقبض على رأسه بيسراه، قارئاً آيات قرآنية معينة بصوتٍ مجلجل. تتصاعد حدة تخبط "المريض"، ويعلو صراخه فيعلو صوت الشيخ ليغالبه.
تمر دقائق قبل أن تنطلق صرخة عظيمة، تهدأ بعدها تشنجات المريض، وتنخفض نبرات الشيخ بآيات القرآن، ثم يسود هدوء يتبعه صوت المعالج معلناً أن الجن قد رحل.
أجواء ألفها المترددون على مسجد شهير بمحافظة الجيزة، يحظى بسمعة كبيرة في مجال علاج الجن بالقرآن. فرغم أننا نعيش في عام 2016، إلا أن قطاعاً عريضاً من الشعب المصري لا يزال مؤمناً بأن الجن يتلبس الإنسان، ما يضطر أهل "المريض" لخوض رحلة طويلة لعلاجه في المساجد، أو مخابئ المشعوذين.
ويقصد كثير من المصريين الشيوخ للشفاء من الاضطرابات النفسية التي يتم تفسيرها على ضوء المس أو السحر، وكذلك تأخر الإنجاب، والعقم، وتأخر سن الزواج، ومشكلات العجز الجنسي والضعف الجنسي لدى الرجل، والبرود الجنسي للمرأة، وكذلك بعض الأمراض المستعصية مثل السرطان.
كما تشهد ساحات المساجد حضوراً للراغبين في الرقية، والتحصن من العين والسحر قبل الزواج، وحماية الأبناء الصغار من مس الشياطين.
أساطير "الجن" في مصر
تقول المعتقدات الشعبية المصرية إن الجن يتربص بالإنسان طوال الوقت، إلا أن ذكر الله، وقراءة القرآن، والحفاظ على الصلاة، وغيرها من العبادات، قادرة على صد هذا التربص، وحماية الشخص منه ما دام مداوماً عليها.
ثم يأتي الخطر حين يقع الشخص في خطأ ما يفتح طريق الجن إليه فيتلبسه، ويكون هذا الخطأ اعتداءً على الجن عن طريق إلقاء الماء الساخن في المرحاض مثلاً، أو السير في مكان مظلم والارتطام بجنٍ غافٍ، أو إغواء الجن بسماع الموسيقى، والخوض في الخيالات الجنسية، أو ممارسة العلاقة الزوجية دون الأدعية اللازمة.
ولم يغفل التراث المصري أسطورة الجني العاشق الذي يستهدف شخصاً بعينه لأنه أحبه، فيحتل جسده ليشاركه الحياة، يتحدث إليه نهاراً، ويعاشره ليلاً، ويتدخل لتأخير زواجه حتى يبدأ أقاربه في الشكوى من عنوسته، ما يقتضي استشارة "معالج روحاني" أو "شيخ".
يؤمن كثير من المصريين أن جسد الإنسان يفقد حصانته أمام الجن في أوقاتٍ معينة، وهي الجنابة، "ما بعد ممارسة الجنس أو الاحتلام"، وحال نقض الوضوء، وقبيل أذان المغرب "حين ينزل الجن من السماء ليعيثوا فساداً في الأرض ليلة كاملة"، وقبيل الفجر "وقت صعود الجن إلى السماء"، وساعات الليل المتأخرة.
وبخلاف الحالات "الطبيعية" التي يتلبس فيها الجن بالجسد البشري، يتعرض الإنسان للمس بسبب السحر، وفي هذه الحالة يسعى الجن إلى شخص بعينه بتكليف من ساحر، عقد له عملاً سحرياً طلبه عدو حاقد يريد تدمير حياته.
العلاج بالقرآن في المساجد
تقام في بعض مساجد الأحياء الشعبية بالقاهرة الكبرى والريف جلسات علاجية للمصابين بمس الجن، ويتولى العلاج شيخ حافظ للقرآن، يقرأ على المريض آيات معينة لإظهار الجن والتحدث إليه، والتفاوض معه لترك المريض يعيش حياة طبيعية.
ويستعين هؤلاء الشيوخ بكتب "علمية" تشرح خطوات العلاج بالقرآن، واستدعاء الجن، وعلاج السحر والأمراض المستعصية. كما يذكر بعض تلك الكتب فضل استخدام آيات قرآنية بعينها لإقناع الجني باعتناق الإسلام، ومن ثمَّ يترك أخاه "الإنسي" المسلم عملاً بالحديث النبوي "لا ضرر ولا ضرار"، وفي حالة موافقة الجني على ترك المريض، يأمره الشيخ بالخروج من أحد الأظافر، لأن خروجه من العين قد يتسبب في فقدان البصر، والخروج من الأذن قد يدمر السمع.
تقول الحاجة صفية: "ذهبنا إلى شيخ ليعالج ابن أخي من جنية تلبسته وتسببت في طلاقه من زوجته، وبعد خروجها من جسده، شاهدنا ظفر إبهام قدمه ينزف تلقائيّاً".
أمَّا في حالة رفض الجني مغادرة الجسد، يكون البديل هو آيات التعذيب حتى يستسلم، وإذا استمر رفضه يلجأ المعالج لإحراقه لدرء شره.
مراحل العلاج من الجن
سواء استقر الشيخ على صرف الجني أو إحراقه، فإن العلاج الكامل من المس الشيطاني يمر بعدة مراحل، فيمنح الشيخ مريضه ماءً قُرئ عليه القرآن ليستحم به في مكان طاهر، ويشربه على مدار اليوم، مع الالتزام بالصلاة والأذكار، لإبعاد وساوس الجن الكفيلة بدفعه لرفض العلاج.
وفي حالة وجود جني عاشق يلازم المريض، يطلب الشيخ منه عدم الانصياع لرغبة الجني في العلاقة الجنسية، والتي يقول المريض إنه يعيشها بكامل التفاصيل خلال نومه، ويجد آثارها على جسده بعد الاستيقاظ.
ورغم جهدهم في تقديم العلاج بالقرآن، فإن العلاج في المساجد الشعبية يكون بلا مقابل مادي، بخلاف ما يحدث عند اللجوء لمشعوذين، وعن هذا تقول السيدة سميحة: "لجأت للشيوخ لمعالجة ابني وزوجي من مس الجن عدة مرات، وهم يفعلون هذا لوجه الله دون تقاضي أموال، ولتشجيع المسلمين على العلاج في المساجد بدلاً من اللجوء إلى الكنائس، والتداوي على أيدي القساوسة".
علاج الجن في الكنائس والأديرة
لا يختلف الحال كثيراً في الكنائس والأديرة التي تقدم خدماتها "العلاجية" للتخلص من السحر والمس الشيطاني، ويحظى دير القديس سمعان الخراز في القاهرة بسمعة خاصة في هذا المجال.
ويستقبل الدير عشرات الحالات أسبوعياً، ويبدأ الرهبان بقراءة بعض الترانيم على المريض، ورقيه إلى أن يخرج الجني من جسده على مرأى ومسمع من الحضور.
ولا يفرِّق المعالجون بين مسلم ومسيحي عند تقديم العلاج، فيستقبلون عشرات المسلمين الملتحين والنساء المحجبات لعلاجهم، والذين لم يبالوا بدورهم بمن يعالجهم، وإنما اهتموا بالعلاج فقط.
بيزنس الجن في أقبية المشعوذين
مع تمسك ملايين المصريين بمعتقدات الجن والسحر في أجواء قروسطية غريبة، تزدهر أعمال المشعوذين والدجالين وتروج تجارتهم، فيقدمون خدمات العلاج من المس الشيطاني، والأعمال السحرية، وتحقيق الحوائج، مقابل مبالغ مادية قد تبلغ عشرات الآلاف من الجنيهات في بلد يعيش 40% من أهله تحت خط الفقر.
ويتمركز المشعوذون غالباً في مناطق تنخفض فيها درجات الوعي والثقافة، حيث يسهل استدراج البسطاء، وابتزاز أكبر قدر من المال منهم في مقابل "حجاب" أو "عمل" يحقق أمنياتهم.
وبخلاف أجواء العلاج في المساجد، تتخذ أساليب العلاج عند الدجالين شكلاً آخر، إذ يطلبون من زبائنهم "أدوات" خاصة لمساعدتهم في العلاج، مثل عدد من الدجاجات بمواصفات معينة، أو ديكاً رومياً بوزن معين، وبعض الأعشاب النادرة ذات الثمن الباهظ، بجانب أتعابهم التي تبدأ من ألف جنيه، وتتضاعف بزيادة المستوى المادي لعائلة المريض، وصعوبة "المهمة" المطلوبة من المشعوذ.
ورغم شيوع حوادث التحرش والاغتصاب التي يرتكبها هؤلاء الدجالون بحق النساء اللواتي يترددن عليهم، إلا أن الاستعانة بهم تظل الخيار الأول لكثير من المصريات عند مواجهة مشكلة مستعصية، مثل رد المطلقة لزوجها، وتيسير زواج الفتيات، وكسب محبة الحبيب والحماة، ونجاح الأبناء في الامتحانات أو الحصول على وظائف.
بيزنس الجن على السوشيال ميديا
يمتد بيزنس الجن والسحر إلى مواقع التواصل الاجتماعي، في ظل انتشار العديد من الصفحات والمجموعات المغلقة التي تدعي علاج المس الشيطاني وفك الأعمال السحرية، ورواج العديد من المنشورات التي ترسخ وجود الخرافة، وتشجع على تعاطيها والتعامل معها كحقيقة لا تقبل الجدل.
ورغم تأكيد هذه الصفحات على الاستعانة بالقرآن لعلاج المرضى، فإن منشوراتها تفتقر لأبسط أشكال اللغة السليمة ذات الصياغة المفهومة، في رسالة فاضحة للمستوى الثقافي للقائمين عليها، الذين لا يتقنون أبسط قواعد لغة القرآن الذي "يعالجون" به.
ويتفاعل العديد من رواد مواقع التواصل الاجتماعي مع تلك المنشورات، طالبين حلولاً لمشكلاتهم العاطفية والعائلية والصحية، فيما يتبارى بعض "المعالجين الروحانيين" في إقناعهم بطلب خدماتهم، ونشر أرقام هواتفهم للاستعانة بهم مقابل "رسوم" تُحدد في رسالة خاصة، أو عند الاتصال.
الكسب من الجن على يوتيوب
وبعيداً عن أجواء العلاج بالقرآن وفك الأعمال السحرية، يعمل آخرون على استغلال اسم الجن، والهوس العربي بهذا العالم الخفي، للكسب من مشاهدات اليوتيوب وهي تبلغ الملايين. فتنتشر آلاف المقاطع التي تحوي كلمة "الجن" في عنوانها، والتي تعد المُشاهد برؤية مقاطع خارقة لعلاج الجن أو لحظة خروجه من الجسد، ومع استعراض الفيديو لن تجد إلا مشهداً عاديّاً يتميز بخلفية من الصراخ الهستيري الحاد، أو الأدعية، أو آيات من القرآن.
وتقدم قنوات أخرى مقاطع مختلفة، تستعرض مشاهد حية لما يوصف بـ"تجسد الجن أمام الكاميرات"، فتحصد ملايين المشاهدات.
وعلى جانب آخر، تقتحم قنوات أخرى العالم السري للسحرة والمشعوذين، فتقدم لمشاهديها مقاطع لطريقة عمل الساحر، والأدوات المطلوبة للأعمال السحرية المختلفة، ومتى وأين يستدعي الجني لتلبية أوامره وتحقيق رغبات من يستعين به.
خرافات بلا حصر تملأ العقول على المستويين المحلي والعربي، والخاسر في كل الأحوال واحد: المؤمن بالخرافة.
منقول بتصرف.