TODAY - 23 July, 2010
96 عاما.. ويستصرخ الشرفاء أن يعيدوا إليه ثرواته الهائلة!
عبد الجبار العتابي
على جسده.. يتراءى الشعراء وهم يحملون اضبارات من القصائد، ويتحاورون على اكفه اللينة الاصابع، يتمشون على اذرعه بمسرات ليس لها بديل، ومعهم.. يهيم المغنون الذين تتصاعد انغام اوتار اعوادهم لتعانق الشناشيل، فتتضوع روائح تحمل خلطات من تسعة عقود مرت تؤكد قيمته المادية والمعنوية وتجعل ناسه يتباهون به، ولكنه الان على غير ما يرام.
هاهو ذا اقدم شارع في بغداد.. يقول بصوت منخفض: صار عمري 96 عاما، يحاول ان يتحرك قليلا لكنه لا يستطيع، يتمنى ان نشعل له 96 شمعة، تضيء بعض جوانبه وتذكر بأيامه الخالدات ومكانته المميزة، حيث كان المقر والمستقر والمجال الحيوي للكثير من النشاطات الحياتية لاسيما منها الثقافية حيث لا يمكن لمثقف عراقي العبور الى ابداعه دون المرور بالشارع والاستمتاع بأرصفته المسقفة وابنيته التراثية وشناشيله والجلوس في مقاهيه ومكتباته وحاناته ومحاله التجارية الشهيرة والمتفردة بأنواع البضائع، فليس هنالك اديب لم يخلد الى الراحة في ارجاء الشارع،والحكايات.. كثيرة مثلما اسماء الادباء الكثيرة والحافلة بالابداع والمهارات، وليس من الصعب حين تمر من الشارع،وهو في اي اية حالة من حالات، دون ان تشم عطر الذكريات وان تتنفس روائح تلك المحطات الجميلة في حياة الشارع وما اكثرها، هذه كلها ثروات يمتلكها الشارع وخاصة به وهي مما يرفع من الشأن ويمنح للانسان والدولة والانسانية قيمة ومعنى.
(1)
وشارع الرشيد ليس شارعا محليا، بل عالميا، وطوله الممتد من ساحة الميدان شمالا الى الباب الشرقي جنوبا، على نحو 3 كيلومترات، وهنا لابد ان اسير في مساحاته واطلع وانظر واسمع لاسيما ان حاله لم يعد يرضي احدا، وربما من يتأمل الشارع جيدا يتخيل ان قطرات من الدمع تنسكب من مساماته وان نحيبا يشهق من تشعباته، هناك اردد مع نفسي: أي شيء يستحق شارع الرشيد منا ؟ الرثاء ام الهجاء ام المديح ؟، مررت من منطقة الحيدر خانة ونظرت مقهى الزهاوي المتعبة ومن ثم مقهى حسن عجمي التي على وشك الانهيار، ولم اجد اثرا لمقهى البرلمان وقد تحولت الى محال تجارية، وأول من التقيته كان الباحث التراثي رفعت الصفار الذي قال: شارع الرشيد.. الان لا يستحق الرثاء فقط بل يستحق (اللطم) ايضا، فوضعه الحالي مما يرثى لها ويجعلنا نبكي عليه.
قلت للصفار بعد لحظات من الصمت قل كل ما في نفسك عنه، فقال: في كل العالم عندما يسمعون شارع الرشيد يعرفون انه شارع عظيم والذي يمثل الحضارة العراقية، ولكن عندما تأتي الان لا تجده، وتجده فقط (مزبلة)، وتجد فيه (الفيترجي) ومصلح الدراجات وغير ذلك من الاشياء غير الحضارية، شارع الرشيد هو انموذج لمفهوم بغداد، يمثل المظاهرات التي كانت، ويمثل الثقافة عبر المقاهي التي فيه، مقهى حسن عجمي والبرازيلية وغيرها التي تزخر بالمثقفين والادباء، يمثل الروح الوطنية، هذا هو شارع الرشيد الحقيقي.
واضاف: انا لا بد ان امشي بين وقت واخر في الشارع واتذكر، اطلع به من شارع المتنبي الى الباب الشرقي ؟ انا كتبت عنه، وقلت ما يجب ان يكون عليه احتراما له، المفروض ان تغادره السيارات وتعود اليه (الربلات) العربات التي تجرها الاحصنة، والمقاهي تعود الى مكانتها، امام شارع الزهاوي هناك مقهى كبيرة لها اربعة ابواب، هذه متروكة فطلبت منهم في وقتها ان يتحول المكان الى متحف لكل ما حدث في الشارع طوال تاريخه، وان يجلس احد وهو يعتمر (الكشيدة) واخر يرتدي ملابس (الافندية) واخر يرتدي ازياء بغدادية او ريفية ولكن لم يؤخذ بالاقتراح.
وتابع وهو يغمض عينيه: الشارع ليس مثل الانسان عندما يعجز، لا.. هذا الشارع من الممكن ان يعود الى اصالته وينفض عنه غبار السنين العجاف، شارع الرشيد ليس عجوزا، ولكن نحن اصبناه بالعجز وامرضناه، فهو يبقى وسوف يرجع اذا ما ارادت الحكومة والمسؤولين الاهتمام به.
وقبل ان يتركني الصفار اطلق تأوهاته وهو يقول: مع الشارع لي ذكريات جميلة وكثيرة، ذكريات عن كل المظاهرات التي حدثت وما زلت تذكرها، كما اتذكر اجتماعاتنا مع الشاعر عبد الامير االحصيري او الادباء الذين كانوا معنا ونلتقي في مقهى حسن عجمي، وهذه ذكريات لا تنسى ابدا.
(2)
تركني الصفار منشغلا بالتطلع الى واجهات المباني التراثية المتهدمة والايلة للسقوط، ووقفت قريبا من تمثال الرصافي اعاين فوضى ما تمخضت عنه الاحداث، فلا شارع يبدو في هيئته سوى ركام عربات الحمالين والباعة التي يغلقون الطريق، مشيت قليلا وانا انظر بناية البنك المركزي التي جرت عليها تصليحات في محاولة لاعادة بعض الرونق، ولكن ما في نهر الشارع وعلى ارصفته لايدعو للتفاؤل، وهذا ما جعلني أسره للاديب القاص حنون مجيد الذي ابتسم ثم عبس ثم قال: ارتبط شارع الرشيد بتاريخ العراق وبتفتح الحياة المدينية، كان شارعا يمثل الحضارة العراقية الحديثة بما كانت عليه من حكم وطني جديد وتطلعات نحو مستقبل وافي، وكان زهو العراقيين في محلاته ومقاهيه واسواقه، لكنه الان يستحق الرثاء والبكاء لانه امتهن كما امتهنت شوارع كثيرة في العراق، ولا اريد ان اطيل فقد يحضرني (شارع بغداد) في مدينة العمارة، بعد ان كان شارعا نظيفا متألقا تنشر على جانبيه البيوت الجميلة، تحول الى محال للمواد الاحتياطية القديمة واصبح شارعا صناعيا بعد ان كان جميلا، اعتقد اننا في العراق نتراجع كثيرا عن العمران وعن الحضارة وعن المدنية، انا لا أتخيل الشارع اشبه بالرجل،بمعنى بمرور سنوات يشيخ ويهرم ومن ثم يموت، على العكس انا اجد انه يتجدد ويتألق وتبنى عليه المحال الحديثة وترمم محاله القديمة ويصبح شارعا يواكب العصر، بمعنى يكون شارعا معاصرا يضم الاطياف بما تتوفر عليه المقاهي والكازينوهات والمحال والعمارات ومؤسسات البريد والصيرفة والمؤسسات الحكومية، شارع الرشيد هو شارع الامتياز العراقي اولا لقدمه، ثانيا انه يحمل اسم الرشيد الذي شكل عصره عصرا ذهبيا في الحضارة، اذن.. هذا الشارع بحاجة الى علاج جديد توفر له الدولة امكانات واسعة.
واضاف: ربما اذا توفر لي شيء من التعبير اقول: أسفا ايها الشارع التليد، ايها الشارع الذي كانت عليه كازينوهات بغداد العريقة كالبرازيلية والبرلمان والزهاوي وجلاسها مثل حسين مردان وفؤاد عباس وجبرا ابراهيم جبرا والمثقفون العراقون بما فيهم نحن الذين كنا نتابع خطوات اولئك في الفن والادب والثقافة، كنا نجلس في البرازيلية ونحاول ان نختلط بهؤلاء الادباء الكبار، فأذن شارع الرشيد هو كذلك شارع ثقافي، فيه المقاهي الثقافية التي منها الزهاوي، والتي كانت بغير اسم ويجلس فيها الزهاوي والرصافي.
توقف حنون عن الكلام كأنه لم يجد ما يقوله بعد ان احتشدت لديه صور الواقع بالتمنيات، لكن في الاخير قال: انا اتفاءل بعودة الشارع الى بهائه ولكن تفاؤلا بطيئا !!.
(3)
عبرت بصعوبة من امام البنك المركزي حيث الطريق مغلق ومدجج بالسلاح والحراس وانا استذكر وجوه المشاهير الذين مروا وعاشوا حياة شبه كاملة فيه، كانت الصور في ذاكرتي تترى لكنها تصطدم بعالم البضائع المختلفة والملابس المستهملة ونداءات الباعة، هناك.. كنت التقط الصور التي أجدها معبرة عن الامراض التي اصابت الشارع، وعلى مقربة مما التقطه التقيت المصور الفوتوغرافي كفاح الامين الذي حين رسمت له صورة المناسبة التي تمر على شارع الرشيد قال: دوما اخجل من شارع الرشيد كأنما هو شيخ جليل واراه امامي يذوي ويذوي ولا استطيع ان اقدم له شيئا الا عبر الكاميرا احاول ان ارصد المكان لعل يوما ما سيأتي انسان نبيل او منقذ ما ليعيد لنا بناء شارع الرشيد، وسوف اقول له هذه ممتلكاتي عن هذا الشارع اضعها بين يديك حتى يستطيع بناءه من جديد.
ألتقط انفاسه وتأمل وربما رمى ذاكرته بعيدا ثم قال: لايمكن لبغداد ان تكون مدينة وان تكون ذاكرة مدينة بمحصلتها الا وان يكون شارع الرشيد هو الجوهرة هو المشعل، نحن كبغداديين لا يمكن ان نتحدث عن بغداد بدون شارع الرشيد، وبالتالي.. شارع الرشيد ليس فقط ذاكرة وليس حكيا شفاهيا ولا مكتوبا ايضا،شارع الرشيد يؤرخ لتاريخ بغداد، بمعنى ان دخول الانكليز وسقوط الامبراطورية العثمانية لهما فيه تأريخ، اما عن اهميته الثقافية فيجب ان لا ننسى ان في كل مكان في العالم هناك شارع انيق، شارع يعتني بالمثقفين، شارع يعتني بالاجانب، وشارع يعتني بالمكتبات، وشارع الرشيد كان هذا المكان، في جل المقاهي الثقافية التي وجدت في بغداد وارتبطت بالتطور العمراني والتطور الثقافي، بمعنى ان النهضة الثقافية في البلد جزء من ذاكرتها كان شارع الرشيد، لذلك انا اعتقد ان شارع الرشيد معلم ثقافي بأمتياز، كل المقاهي الثقافية كانت تتوزع في ارجائه وكان يرتادها الادباء على اختلاف مجالات ابداعتهم.
وقبل ان يلتقط صورة اخيرة تحرك قليلا ثم نظر اليّ قائلا: لا ارثي له لانه قتل غيلة، ولكنني اعتقد ان الشارع مرتبط بعقل المثقف العراقي، وما دام المثقف العراقي شبيه طائر العنقاء فأستيقاظ المثقف العراقي والدفاع عن حقوقه.
(4)
ومضيت.. اسير على ارصفة الشارع وبين لحظة واخرى اشعره يتهاوى، كانت ساحة حافظ القاضي محض ضوضاء وأحاول ان ادندن بأغنية قديمة او ابيات شعر ولكن وسط الصخب لم اجد مزاجا، حتى اذا وصلت المكان الذي كانت فيه المقهى البرازيلية كنت اشك انني امشي في شارع الرشيد، قلت للقاص والروائي عبد الامير المجر: حدثني عن شارع الرشيد في نفسك وما تراه فقال: شارع الرشيد يعتبر ذاكرة بغداد وهو الان شاهد على خراب بغداد، والحقيقة ان من لم يزر شارع الرشيد عندما يأتي الى بغداد فكأنه لم يزر بغداد ولم يرها لان الشارع ليس مجرد مكان وانما هو ذاكرة ولمسات فنية تعبر عن ثقافة البلاد بشكل عام، وهذا الشارع بالنسبة للعراقيين اشبه بسرة المكان العراقي بحيث كل عراقي له ذكرى في شارع الرشيد او كل الاماكن ذات الطابع التراثي التي تعكس ثقافة بغداد ليس في السنوات ال 93 وانما في هذه السنوات تختزل قرونا كثيرة من بغداد تركت لمساتها في هذا الشارع من خلال بناياته وفضاءاته وفناءاته وكل فعاليات الحياة بهذا الشارع.
واضاف: الان شارع الرشيد يعكس مأساة بغداد لان الذين يمسكون بالامر لا يدركون قيمة شارع الرشيد وبصراحة رغم انني سأكون قاسيا اقو لان بغداد وشارع الرشيد وكل شوارع العراق تحتاج الى عين حضارية لكي تدرك قيمتها وتعرف معنى ان يكون هناك شارع كبير احتل حيزا كبيرا في مساحة الادب والشعر العراقي والعربي مثل شارع الرشيد.
وتابع: كلما امر في شارع الرشيد اعيش احلام يقظة وتكتظ في داخلي صور، انا عندما اتيت الى بغداد منتصف السبعينيات كنت كثيرا ما اتجول في شارع الرشيد، وبعد تقادم الزمن نحو 30 عاما في بغداد اصبحت لدي ذكريات فعندما امر بالشارع استحضر تلك الايام التي كنت فيها اتجول في المكتبات من بدايته الى نهايته، من ساحة التحرير الى ساحة الميدان، بصراحة شارع الرشيد مكتبة ومقهى وفضاء وحكايات وقل فيه كل ما تريد ان تقوله في المدينة موجود فيه لذلك عندما حينما امر بالشارع استحضر بغداد وارى صور بغداد في مختلف عصورها مختزلة في هذا الشارع.
وفي الختام قال: انا لديّ قناعة ان البلد اذا ما امسكت به حكومة ودولة قوية سيكون شارع الرشيد وكل البلاد في حال افضل، واعتقد ان شارع الرشيد سيكون في طليعة الاهتمامات، اما اذا كانت حكومات المحاصصة والتنافس الحزبي والصراع على المكاسب فأعتقد ان بغداد وشارع الرشيد وكل مدن العراق ستبقى على حالها الذي يرثى له الان وهي في اسوأ ما يمكن ان تكون عليه في مختلف منذ تأسست.
(5)
ودعني المجر وذهب، وما كان عندي سوى ان اخرج من الشارع وانا اتجه الى اخره الممتد الى الباب الشرقي، جذبتني بعض المكتبات التي ما زالت تصارع الزمن ونفسه والظروف والمتغيرات وترفع أوجه كتبها لتثير العابرين، ولكنها كما يبدو تعبت من التلويح وراحت تتكدس على الرفوف وفي المخازن ولا يمر عليها الا عدد قليل يدخل في قائمة الاستثناءات، وقفت اتفرج وألتفت يمينا وشمالا، حتى اذا رأيت القاص والكاتب حميد المختار فلم اجد بدا من اعرب له عن اسفي على ما آل اليه شارع الرشيد الذي سيصل به العمر الى الرابعة والتسعين وأخشى ان يكون ارذل العمر، فقال: شارع الرشيد جثة هامدة الان ومتفسخة في وسط بغداد، كلما امر على هذه الجثة ابكي والتذكر ايام السبعينيات، نحن الذين وعينا على ايام السبعينيات، اما الذين تجاوزونا في العمر ربما يتذكرون الخمسينيات والستينيات وكيف كان شارع الرشيد متألقا وانيقا وجميلا بمحلاته وزبائنه وسياراته وبأنظمته المرورية وبكل شيء، الان.. حال شارع الرشيد حال أي شارع في بغداد، بحاجة الى يد المروءة والوطنية حتى تستنهض همما حقيقية لأعادة شيء من اصالته القديمة، شيء من جماليته القديمة، لا استطيع ان اقول اكثر من ذلك!!!.
واضاف بعد ان التفت في الارجاء: هذا الشارع لو كان في عاصمة من عواصم العالم وتمر عليه هذه المدة الزمنية الطويلة لكان الان في حلة هائلة وزاهية ومتطورة وحضارية على العكس من بغداد التي اصبحت تنحدر الى الهاوية، الى شكل غريب وعجيب ومميت، انا بين حين واخر حين امر به اقول لن امر به بعد ذلك، لا اريد ان ارى شارع الرشيد، انا يدخل الشارع في قصصي وفي كتاباتي ومقالاتي، الشارع معي اينما ذهبت واينما حللت، هو يحدث الحوار، ليس شرطا ان يكون مباشرا بيني وبين الشارع، ربما في نص ربما في تأملي حينما ارى الشارع، حينما خرجت من سجن ابي غريب جئت الى الشارع وشاهدته وكان مختلفا تماما، رأيته بأحساس السجين الطليق، كل مرة اشاهده اراه مختلفا الا في المرات الاخيرة التي وصل فيها حد الموت وهو الان جثة هامدة.
قلت له وهو يهم بالمغادرة: اليس هنالك من تفاؤل لنرى الشارع قبل ان يدخل المئوية في حال افضل قال: لو كانت هناك نيات حقيقية صادقة ووطنية مخلصة ربما تعود لهذا الشارع لا اريد ان اقول صورته القديمة ولكن ستكون صورة اخرى، تعبر عن الوضع الجديد الذي نعيش به الان.
في الطرف الاخير.. وقفت عند محل صغير تذكرت انه كان (تسجيلات قيماقجي)، كأني هنالك استمع الى اغنيات الزمن الجميل وامامي تتفتح ورود الشارع ليعود رئة ثقافية وفنية وسياحية، جلست قليلا على الرصيف اتخيل وجه الشارع حين يعمر ويعاد اليه بهاءه ويرسم الشعراء صور قصائدهم على اجوائه.
إقرا المزيد :«تعالي يا حلوة».. «تفضل أغاتي».. نداء البائعات في أسواق بغداد